الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهجرة إلى الضوء: أسئلة الوجود في عصر الشاشة -بيان من أجل الفلسفة-

شادي كسحو

2020 / 8 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الهجرة إلى الضوء
أسئلة الوجود في عصر الشاشة
"بيان من أجل الفلسفة"


شادي كسحو

أن يكون مصير الكتب والنصوص واللغة هو المسخ والتحويل
كل مذياع وكل شاشة تنبهنا لذلك
موريس بلانشو
Man is a rope, fastened between animal and overman,
A rope over an abyss
Nietzsche

يحدث أن كل العوالم هجرت بيوتها القديمة وراحت تتلحف بالأثير والضوء والليزر. ويحدث أن كل وجوداتنا صارت إلى أرقام وصور وشيفرات وكودات codes فقدت رغبتها في الواقع واكتفت بالسطوع واللمعان والتواجد الاستيهامي عبر شاشات العالم الرقمي. أن نفقد شهية الواقع. هذا هو العالم الرقمي بالذات والاسم. الرقمي أو الديجتالي اسم جديد لمدينة الانسان الحالي ولقب لوجود تحول تحت وقع الليزر وأنظمة الذكاء الاصطناعي والسبراني إلى جزر وسطوح ملونة وروبوتات فائقة المحاكاة والذكاء بلا مرجع ولا ضامن ولا محال إليه. أن نغادر آخر معاقلنا الأصلية لنسبح في الأثيري والخيلائي والسرابي. لا حرج على الذات إذ هي تريد أن تغير مسكنها وتبدل مآواها كلما أنهكتها الشكوك وأتعبتها الظنون. ولكن السؤال الذي لن تستطيع الذات أن تتهرب منه حتى بعد إبادتها الكاملة: هل يبقى الوجود وجودًا حيثما يهزم الواقع؟ بل، هل تبقى الذات ذاتًا بعد أن تتالى عليها التدميرات المتلاحقة لأصلها وفصلها وبيتها الحصين؟
نقول قبل أي تحليل1: حين يصاب الوجود "بمتلازمة الاختفاء" فإن هذا الداء يصيب كل أعضائه بلا استثناء. يختفي الواقعي في الافتراضي، ويختفي الفني في الاصطناعي، ويختفي الحقيقي في المزيف، وتختفي أمريكا في ترامب، ويختفي الحدث في الميديا، ويختفي البورتريه في السيلفي، ويختفي الجسد في البورنو، وتختفي الذات في الموضوع، ويختفي الخصوصي في العولمي، ويختفي الجميل في الفريد، وتختفي القيمة في العلامة، ويختفي الفنان في المُصمم، وتختفي الكتابة في الإشهار. ويختفي التاريخ في الآنية. وتختفي الديمومة في الفورية. وتختفي الذاكرة في النسيان. وتختفي الرغبة في الغواية، ويختفي الإنسان في السايبورغ. وتختفي الإرادة في الإغراء، وتختفي المتعة في النزوة، ويختفي الجسد في الموضة، ويختفي العالم في الشاشة. لكن أسوأ أو أخطر متلازمات الاختفاء صعوبة في التحمل هي اختفاء الفكر. اختفاء الفكر في الهالة الفينومينولوجية للشاشة الذكية. للروبوت. للسايبورغ. ومع ذلك يبقى السؤال مفتوحًا: لماذا فُرطت وحدة العالم في نفسها؟ ولماذا أصبحت الأضداد مستقلة بذاتها؟ وبم نفسر فقدان اللعبة الأصلية التي كانت تدور رحاها بين الذات والموضوع. ما الذي حدث؟ أين وكيف ومتى ولماذا؟ لم يتنازل العمق عن مكانه لصالح السطح؟ بل ما الذي يدعونا إلى التفلسف أصلًا في عصر الشاشات؟ أليس حريًا بنا أن نعرض عن التفلسف في عصر الحجب والطرد والطمر والاختفاء المعمم؟ لطالما بدت هذه الأسئلة بمنتهى الصعوبة، فالسؤال يحمل في ذاته إعدام الموضوع الذي يسأل عنه. غير أن السر في وجود الفلسفة يكمن في هذا الوضع الصعب تحديدًا بحيث يعبر السؤال دائمًا عن حياة الفلسفة وموتها، عن تملكنا وفقداننا الأبدي لها.
كتب نيتشه ذات نص تمهيدًا لـ العلم المرح يقول: "ما عدنا نؤمن أن الحقيقة تبقى حقيقة إذا ما كشفنا سترها: عشنا الكثير لنؤمن بهذا. اليوم صارت بالنسبة لنا قضية لياقة أن لا نتوخى رؤية كل شيء عاريًا..علينا أن نجل أكثر الحكمة التي تتخفى وراءها الطبيعة بألغاز وشكوك مبرقشة. ربما كانت الطبيعة امرأة لديها أسباب تجعلها تخفي أسبابها؟. ربما كان اسمها، ولنتكلم يونانيًا baubo. آه من هؤلاء اليونانيين! كم كانوا يجيدون العيش! وهذا ما يفترض قرارًا شجاعًا بالتوقف عند السطح، عند الطية، عند الأدمة، عبادة الظاهر، الإيمان بالصيغ ( formes ) بالأصوات بالكلمات وبأولمبيا الظاهر كله! آه كم كان هؤلاء اليونانيون سطحيون- بعمق"2.
ما من أحد استطاع أن يحدس بعالم يتخلى فيه العمق عن مكانه لظاهر الأشياء مثلما فعل الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه. الظاهر أو السطح بما هو السمة الأكثر تعبيرًا عن ماهية الأشياء، أو السطح بما هو مقاومة للعمق والعلو معًا. يعني السطح أن الجلد هو أعمق ما في الانسان. ويعني السطح أن الطريقة التي يظهر بها شيء ما هي ما تحدد حقيقته. ويعني السطح أيضًا أنه لا معرفة بالعالم قبل معرفة السطوح والقشور والأغلفة التي ينقذف وينزلق البشر فوقها. إن تعريف كينونة ما - على النقيض من العمق بما هو وهم ميتافيزيقي تم إدراجه في فهمنا للأشياء ليكون فزاعة بيد عبدة اللوغوس- هو تعريف للسطوح والمسطحات التي تسمح للكينونة بالظهور. إنه بالأحرى مثول الشيء أمام البصر والباصرة على النحو الذي يجعله مرئيًا وواضحًا لكل عين.
إن طرافة أو لنقل: إن أكثر ما يلفت الانتباه في تصور نيتشه هو أنه غير مقتنع بالثنائية الميتافيزيقية التقليدية التي تقسم العالم إلى ظاهر وباطن/ سطح وعمق، فهذه التقسيمات لا تعدو كونها من مخلفات العقل الحداثي الذي يريد إبعاد أو استبعاد الحقيقة لصالح إما عالم لاهوتي غير إنساني بالجملة أو نومين داخلي يعجز الانسان عن فهمه وإدراكه تحت أي مسمى. إننا نقضي على الحقيقة إذ نحجب عالم الظواهر والسطوح. ولكن أين الحقيقة بالتحديد؟ هنا يفترع نيتشه الحدس الذي سيتلقفه جميع فلاسفة ما بعد الحداثة من فوكو إلى دريدا مرورا بدولوز وميشيل سير وجيل ليبوفتسكي وجان بودريار. إن الحقيقة هي إنهيار الثنائيات ذاتها؛ انهيار التقابل بين النومن والفينومن، أو بين السطح والعمق، أو بين الذات والموضوع، أو بين الواقع والخيال. إن الحقيقة هي هناك حيث الواقع يصبح خيالًا والخيال يصبح واقعًا، وحيث الحقيقة ليست أكثر من حكاية يتم من خلالها استدراج الأشياء لتُبتلع أو تُبتدع في ظهوراتها المحضة.
للإيفاء بمدخرات ومستحقات هذا الحدس النيتشوي الأصيل سيكون لدلالات الظاهر والسطح النيتشوي وجوه ومعان لا تعد ولا تحصى، فعلى هذا الحدس التأسيسي سيشيد الكثير من الفلاسفة صروحاتهم وعماراتهم الفلسفية، بل وعلى هذا الإرهاص الخطير سيستفيق العالم على لحظة انذهالية فائقة ومدهشة، حيث كل شيء معروض ومكشوف ومفضوح. أن تكون موجودًا يعني أن تكون ظاهرًا على شاشة ما. شاشة العالم، شاشة الكمبيوتر، شاشة الموبايل. الوجود وقد استحال إلى مرآة عملاقة يحكمها كوجيتو الظهور: أن تكون: يعني أن ترى وتُرى. العالم وقد انقذف بعيدًا عن ذاته. الحياة على الشاشة3، أو العالم وقد اندفع أبعد من حدوده ذاتها4 على حد تعبير جيل ليبوتفسكي.
هذه الشاشة، أو هذا السطح الأملس الذي يحجب الموجود حتى إن أضاءه، ويخفي الكائن حتى إن أظهره، هذا السطح الذي يعتم المنير وينير المعتم تطال الكائن في جميع أبعاده، إنه يتحكم في إنتاج المعاني ويرسم جميع الدلالات. ليست الشاشة شكلًا لرؤية العالم فحسب، بل شكلًا من التيه الغامض لأضواء الموت المشع. إنها لسيت بحيرة نرسيس، ولا مسطح الانعكاس ولا مرآة الذات، بل جحيمها، فناءها، تلاشيها وابتلاعها وامتصاصها. إنها الضوء أو شكل إقامتنا الجديد، الشكل الذي يبعثه فينا هذا السطح الأملس، لكنه يمنعنا من أن ننظر إليه كسطح. فهو ليس مجرد سطح بلوري شفاف، وإنما هو سطح المعنى وسطح اللا معنى، سطح الوجود وسطح العدم، سطح المفارقة وسطح المحايثة، إنه سطح كل سطح ممكن، أو سطح كل وجود وموجود.
للعمق نفس المقدار الضئيل من المعنى الذي للسطح. المؤسف أننا تأخرنا كثيرًا لمعرفة ذلك. نلحّ بلا هوادة على أمراض العمق وننسى أن الكينونة برمتها مسألة سطح. كل شكل من أشكال الكينونة منقوش فوق سطحها. يتدخل السطح في نمط معرفتنا ومعايشتنا للوجود. لكن السطح ليس موقعًا هندسيًا ولاجغرافيا وإنما هو موقع استراتيجي. إنه الشكل الذي تتصدع عنده المركزية. أو المجال المفتوح للالتقاء والانفصال عن العالم. عند هالة السطح تلتقي الذات والموضوع. وعند هالة السطح أيضًا يلتقي الوجود واللا وجود. عند هالة السطح تلتقي الأجساد. لا مجال وقتئذٍ للحديث عن سطح يخفي العمق، "فالعمق ذاته هو ذبذبة سطح"، هذا لا يعني أن السطح ينفي العمق، بل يعني أن العمق لم يحز بعد على السطح الذي يجعله كذلك. أو بكلمات أخرى: ليس السطح حجاب يحول دون ما يخفيه، بل هو انثناء العمق. إنه فعل الثني ذاته أو حركة تمييع وتسييل البراني والجواني معًا. إن السطح بكلمة واحدة: ليس حضورًا، ولا غيابًا، بل شكل الحضور. يمنح السطح الهالة الفينومينولوجية لأشياء ويحجبها عن أشياء أخرى لكنه في لعبة المنح والحجب هاته لا يضمن أبدًا وحدوية الظهور، بل يعمل كمفعول تظهير بحيث يزيد من حدة وحيوية وقوة ظهور الأشياء. كل شيء يحدث على السطح بما في ذلك الخطوط المرسومة على وجوهنا وجلودنا. يحتفظ السطح ببقع الزمن. كل السيرة الذاتية للإنسان موجودة فوق سطحه/ جلده. نحن إذن أبناء السطوح. أبناء زمن ظاهراتي جديد. ثمرة انسكاب فينومينولوجي معقد من نمط رقمي. حاسوب. فيس بوك. انستغرام. فنون ضوئية. عمارة رقمية. كل هذه الأسطح الفينومينولوجية هي عدة رقمية تعمل على حمل العالم على الظهور من جديد. نعم إننا أمام صورة جديدة من الحساسية، ثورة فينومينولوجية زعزعت وتزعزع كل عاداتنا الإدراكية ففي كل مرة يظهر فيها سطح جديد توشك طريقة اقتسام المعنى أن تفقد توازنها وتماسكها. هل هو حدث فلسفي أن نوجد ونتواجد على السطح؟ جدُّ مختلط بالضوء، يحيا السطح على الفراغ. أن تعيش السطح يعني أن تعيش الفراغ ذاته. متذبذب بلا شرط. غريب. تائهًا في النهاية بلا وجهة. هنا أن تكون أعمى يعني أن ترى كل شيء.
يأخذنا هذا الفهم لمعاني السطح إلى ما يمكن تسميته بـ "قلب الأفلاطونية المضاعف"، هنا لا يعني قلب الأفلاطونية - كما نعتقد - إلى إحلال الظاهر محلّ الوجود، وإحلال عالم النسخ والأشباح محلّ عالم الأشياء الواقعية، وإنما القلب يستهدف إلغاء العالمين معًا، عالم الواقع الكلاسيكي، وعالم الظاهر والأشباح أيضًا. فالشاشة ليست حذفًا لعالم الحقيقة من أجل الإبقاء على عالم الظواهر والكذب، بل هي القول بأنّ "ظاهر الوجود هو الوجود الظاهر"، وأن السطح هو أعمق وجه في الشيء، وأن وراء كل كهف يوجد كهف آخر أعمق منه، وخلف هذا الكهف هناك كهف آخر. فوراء كل ظاهر هناك ظاهر آخر، ووراء كل شاشة هناك شاشة آخرى بحيث يمكن لنا الحديث عن شاشة الشاشة. إننا نعتبر أن حدث الشاشة الكلية، ليس مجرد أنظمة ظهور5، كما تأوله الكاتب الفرنسي ستيفان فيال في كتابه: الكينونة والشاشة، ولا نوع من عمق السطح6 كما تأولته الكاتبة الأمريكية جوليانا برونو، بل نظام تبديد وتبذير وإنفاق جذري للعالم. إنه ليس سطو وهمي للسطح على العالم، بل إبادة للعالم ذاته داخل ضعفه الديجتالي أو بديله الليزري الكامل.
نحن هنا أمام جغرافية جديدة للفكر، فضاؤها ليس كهوف الفلسفة ما قبل السقراطية، وليس سماء المثل الأفلاطونية، وإنما هو سطح المحايثة والحدث، أو لنقل بلغتنا الخاصة: إنها "قوة وفرادة الزائف". فـ "ظاهر الظاهر" أو "سطح السطح" أو "بقعة البقعة" إذن هي أعمق بعد في الشيء، إنها السر الفاضح لكل سر، أو السر الذي لا يبقى معه أي سر، أو السر الذي ليس بسر. ظاهر الظاهر ليس هو ظاهر الميتافيزيقا التقليدية، وإنما هو عمقها بعد أن أُخضع لزحزحة تمّ انتشاله بموجبها من أرضيته، ومعاودة إسكانه فضاء السطح. يتعلق الأمر بالانفصال عن الميتافيزيقا عبر الاتصال بها، ومجاوزتها عبر إعادة تخليقها وموضعتها، "موضعة بلا موضع"، وذلك عبر انتشالها من أرضيتها الأنطولوجية الصلبة وإعادة إسكانها أو استزراعها أو استنباتها أو بثها أو حقنها في الأثيري والطائف والزائل والسريع التلاشي والانمحاء والذوبان.
لقد خدمت الفلسفة طويلًا في كنف اللاهوت قبل أن تتحرر الذات وتولد وتبدأ عملية إنتاج العالم على الطريقة الحديثة. في كل مرة كان الوجود لعبة تتراوح بين طرفين يشكلان ماهيتها وفضاء اشتغالاتها. تارةً كانت اللعبة في صف الذات وتارةً كانت في صف الموضوع. تارةً في صف الله وتارةً في صف الإنسان. كل ألعاب الوجود كانت محكومة بمنطق الذهاب والإياب/ الخروج والعودة، فالعالم هو في نهاية المطاف تلك الحركة الأبدية لهذين اللاعبين الحصريين. ولكن من الفائز اليوم؟ هل ربحنا الصفقة/اللعبة في عصر الديجتال أم خسرناها إلى الأبد؟
في الحقيقة إن صعوبة الإجابة عن هذا السؤال تشبه إلى حد بعيد صعوبة الإجابة عن سؤال جدوى وجود الله في عالم ما فوق إلهي. الثابت الوحيد أن البشرية ما زالت تنتقل من وهم إلى آخر. إنها تتأرجح بين صور عوالم لم تعد تستطيع أن تتأملها حتى. من الوهم المادي، إلى الوهم الموضوعي، إلى وهم الوجود نفسه، لم تفلح البشرية سوى بمراكمة الأكاذيب وتعميم الأوهام وتدويلها. حتى الله الذي كان ضامنًا لديكارت، وضروريًا لكانط ومتعاليًا بالنسبة لنا أصبح ما فوق إلهي. إنه لم يعد يقبل فكرة وجوده بمعزل عن التمويت الجينالوجي لصورته. إنه عالم سكران بلا انتشاء. سكر ديجتالي، حيث لا اللاهوت ولا العلم ولا التنوير يعيد الذات إلى نصابها. إنها فنتازيا عالم يقيم في قعر كهف أفلاطون ويصر على التغني بالشمس. عالم لسنا فيه أكثر من شهود زور على الحدث الأساسي لتذرر العالم وتطاير الوجود في كل الجهات. إنه استحالة التأسيس.
هل يمكن إنقاذ شيء؟ ربما كان السؤال صحيحًا أخلاقيًا، لكن التاريخ يخبرنا بأن سؤال الاستعادة الفردوسية للعالم هو دائمًا وراءنا بلا رجعة. نحاول بيأس أن ننقذ الكتابة، الخيال، الجمال، الله، المعنى، الحقيقة ولكن بلا طائل. كل واحد منا يعرف في قرارة نفسه أننا عندما نفقد صلتنا بالعالم لا نعود قادرين على العودة إلى سفينة الوجود. إنه "عالم ما فوق- نوحي"، حيث لا مكان لنرسو فيه. إنها "اللا- يابسة" لأول وآخر مرة. أيتها الحدود المعطلة. أيتها السطوح المعممة. أيتها البحار اللا نهائية. أيتها الأضواء الشاسعة. لقد ضللنا الطريق، أين يمكن أن نركن قواربنا بأمان؟ هل من ميناء؟ هل من منارة؟ يطوّق السطح الطريق. يخنق الضوء الدليل. يتركنا تحت لمعانه أذلّاء منبهرون.
لم يعد بمقدور الواقع أن يغدو واقعيًا: هكذا أفلت الوجود من القدرة على التفكير بنفسه. لقد كان الواقع مرآتنا الحميمة. المرآة التي كانت بمثابة الموضوع الأزلي لانعكاساتنا وانعكاساتها. هذا الحدث الأصلاني تغير. فالواقع لم يعد قادرًا على جسر الهوة التي تفصل بيننا وبينه. لقد فقدنا عنصر المعرفة الأساسي. لقد فقدنا الموضوع. فقدنا توسط الواقع كـ مرآة. وبهذا الفقدان الجذري لنقطة التقائنا والتئامنا بالوجود فقدنا إكسير المعرفة وهكذا بدأت هزائمنا تتوالى ففقدنا اللغز والسر وتعويذة الدخول إلى مغارة المعنى، والرابح الذي يبقى وحيدًا على حد تعبير باولو كوويلو أصبح فريدًا في الشاشة. نعم. الشاشة أو هذا الضرب من العبور المحض للصور. تتغلغل الصور في كل مكان. نغرق في الصور فلا نرى. نصيخ فلا نسمع. تكف الذوات عن الالتفات إلى الخارج. إلى أي خارج؟ غمرة وطمرة معممة لا ينجو منها سوى ذاك العبور المحض للصور من خلالنا نحن. كل شيء يتلاشى. كل شيء يتطاير في المجال اللا مادي للسطوح المضيئة لعصر الديجتال. كم هي رائعة باروديا الشاشات. الشاشات التي لم تعد تعمل كـ شكل من "اختفاء الذات في الموضوع"، بل على العكس، كـ شكل من أشكال "انكشاف الموضوع في الذات". لا الذات كـ تعال، بل الذات كـ منصة عرض لتحرير وتمرير الموضوعات. إنها الميتافيزيقا الأخيرة حيث لم يعد أحد يسكن بلادًا، بل يسكن شاشة. هنا حيث كل الأشخاص والأشياء شفافة لنفسها. لوجودها المرئي. لافتراضيتها المعممة. لتحولها الكامل. على الشاشات. بل على ملايين الشاشات التي باتت تعمل كـ مسطحات للانطفاء المضيء. إنها لحظة قصوى من لحظات وجودنا في العالم حيث نشهد بأم العين نهاية التمثيل، ونهاية التبادل، ونهاية المسافة، ونهاية المعنى. شيء ما يشبه عقم هائل أو كينونة جديدة على سطح جديد حيث كل حديث مهما كان نوعه، هو حديث على انفراد مع أشباح وسطوح شائهة وتائهة ومتحمسة.
فيم تفكر الصور؟ بماذا تحلم الشاشات؟ هل يفكر السايبورغ على طريقة الكوجيتو الديكارتي؟ أم على شاكلة انصهار الآفاق عند غادامر؟ هل يفكر السايبورغ بتبني الفكر البدوي الخاص بدولوز؟ أم ينحاز للفكر السائل الخاص بزيجمونت باومان؟ أم تراه يفضل جينالوجيا فوكو المستوحاة رأسًا من نيتشه؟ هل ما زالت فينومينولوجيا هوسرل قادرة على استيعاب ضبابية وفقاعية وجودنا الراهن؟ أم أنها استطاعت التملص من ايبوخية باتت خلفنا تمامًا؟ هل الصور ملقاة في دازاين هيدغر، أم أنها متحررة من سطوة الوجود الأصيل؟ هل الشاشة هي من يوقع العالم في اللا معنى، أم أن العكس هو الصحيح؟ هذا أيضًا جزء من لعبة الفلسفة في عصر الشاشات.
لاشك أن شاشة العالم مليئة بالأحداث والعلامات والأشخاص والدلالات لكن المشكلة ليست، أو لم تعد هنا، بل في استحالة النظر إليها من الخارج. إن أول عمل تقوم به الشاشة هو أن تلغي كل برانية تقع خارجها. بكلمات أخرى: إن الذات لا تراقب عالمًا تحول إلى شاشة لأن المراقِب فقد قدرته على ضبط وتحديد المراقَب. بكلمات أخرى: لقد فقدت الذات قدرتها على الانتصاب أمام موضوع تأملاتها، بل وأصبحت هي من يخضع للتأمل والمراقبة. هذا التحول الراديكالي من "مراقِب إلى مراقَب"، أو هذا التحول الدراماتيكي من متأمِل إلى متأمَل يفسر كل الإخفاقات الانطولوجية والسياسية والجمالية والفنية التي مُني ويُمنى بها العالم الراهن. هل ثمة وجود بلا ذات حرة في ارتياد ما تشاؤه من عوالم وما تقترحه وتجترحه من تأملات؟. تختصر الإجابة عن هذا السؤال كل ورطات الذات الفلسفية الراهنة التي لم تعد تفهم عالمًا تحول إلى أشباح وظلال وصور. لقد بدأ العالم بالتمرد على قاطنيه. بدأ بحنث عهوده مع الذات العارفة؛ لقد بدأ بالتحول إلى ما لا يشبهه، إلى ما ليس هو، إلى ما لن يكونه بعد الآن. هكذا ذات تطور تكنولوجي وسبراني جميل ولمّاع ارتدى العالم بزته الافتراضية الجديدة وطفق يتبختر بسديميته وضبابيته وسرابيته وقدرته على الاختفاء والاختباء. "إنها لحظة زهو العالم بنفسه" حيث كل شيء يغدو شفيفًا بلا بنية، وهشًا بلا ملمس، ومتحركًا بلا نقطة عطالة، وحيًا بلا روح، مجرد جريمة. لكنها ليست جريمة كبرى هذه المرة، بل جريمة كاملة حيث يجري كل شيء بلا شهود. أو حيث كل الشهود هم شهود زور. هنا حيث كل شيء مصاغ ومسبوك ومخطط له جيدًا كيلا يحيل إلى أي أثر. "إنها لحظة شرود الوجود".
أن نحتمل وجودنا في عصر الشاشة الكلية. أن نتفلسف حول عالم بلا سر في عصر انذهالي مغمور بنهر هيرقليطي من الصور والشاشات. ربما كان هذا هو المسطح التاريخي الفعلي في الفلسفة المعاصرة. لم يعد بوسع أي فلسفة تدبر أمرها مع العالم دون أن تكشف النقاب عن حدود الذات في واقع أفلت من كل التحديدات الكلاسيكية ودخل في سكر ديجتالي بلا رجعة. "نحن لا نقطع مع الميتافيزيقا عندما نقوم بتغيير مركز القوة من الوجود إلى الموجود". ونحن لا نقطع مع الميتافيزيقا عندما نقوم بمجرد استبدال طريف للفلسفة بالديمقراطية. ونحن لا نقطع مع الميتافيزيقا عندما نقوم بتنصيب الجذمور بديلًا من الشجرة. ونحن لا نقطع مع الميتافيزيقا عندما ننحاز للسائل والصائر على حساب الصلب والثابت، ونحن لا نقطع مع الميتافيزيقا عندما نستعيض بالكلبي عن العقلاني، بل نستأنفها على نحو كوميدي. في حين أن المهمة الأساسية للفلسفة تتمثل في كشف وهم الذات ذاتها في عالم بات يقوم على المفارقة. حاولوا مرة مس صنم الذات وسترون ما سيحدث. هي ذي علة ولعنة كل فلاسفة الحرب العالمية الثانية الذين مازالوا مصرين على "تفضيل الذات على الحدث". والذات هنا لا تحيل إلى ايديولوجيا، بل إلى تنظيم يدرب الفكر برمته على ممارسة نفسه طبقا لمعاييره الذاتية بما هو سلطة، أو بما هو كليّ غير قابل للنفاذ. هي ذي بعض مفارقات الفكر في عصر الشاشة الكلية حيث لم تمتلك الفلسفة بعد شجاعة الاعتراف بوهم ابنها المدلل؛ شجاعة القول بأنه لم يعد بمقدورالذات أن تساير أو تحاذي موضوعات وأحداث باتت تفوقها في كل شيء. ثمة حدث فلسفي يتضمن تمزقًا ما. ثمة كثرات لا يمكن إرجاعها إلى واحد. ثمة سطوح في كل مكان. ثمة ثقوب سوداء بعدد لا نهائي. ثمة خطوط لا مرئية لا يمكن إرجاعها إلى مسار واحد. ثمة نقاط تلاشي لا تتوقف عن الحركة. ثمة أضواء وانكسارات وسطوعات دون مستقبل ولا ماض. دون ذاكرة. "تحاضر دائم". شكل من أشكال مقاومة الديمومة. الشاشة هي هذا كله. التفكير داخل الموضوعات. بين الموضوعات، هو بالضبط عمل الشاشة. عمل الموضوع وليس الذات. عمل الخط وليس النقطة. عمل السطح وليس العمق. جعل السطوح مأهولة وليس الأغوار. جعل الوجود برمته مسألة ارتطام بالضوء وفناء فيه.
ليس بوسع الذات أن تفسر لنا ماهية الوجود الراهن، وليس بوسعها أن تمارس لعبتها المفضلة كتعالٍ قبلي في نظرية المعرفة. إنها الأقدار الجديدة لعالم لم يعد يفهم ذاك الاقتران التاريخي بين الذات والموضوع، أو بين أبولون وديونيسيوس إلا بوصفه ضربًا من الحلم والفنتازيا والاستيهام. لن يكون العالم بعدئذٍ لا كونيًا، ولا ماهويًا، ولا جوهريًا. لم يعد ثمة ظهوريات ثابتة يمكن للفلسفة أن تشيد عليها كل تاريخها. كل ما هنالك خطوط وسطوح وشاشات وظهورات وسطوعات وطيات تعمل دائمًا كأجهزة فينومينولوجية لتظهير الفكر. لا يمكن للانطولوجيا بعد الآن أن تكون لا واقعانية (هيدغر)، ولا تواصلية (هابرماس)، ولا حوارية (غادامر)، ولا تفكيكية (دريدا)، ولا جينالوجية (نيتشه)، ولا أركيلوجية (فوكو)، ولا سيميائية (بارت). لا يمكن للانطولوجيا سوى أن تكون ضربًا من الفينومينولوجيا السائلة. شكل من الفهم اللعوب، أو شكل من الدوار الفينومينولوجي المحايث لدوار العالم نفسه، فالوجود هو من الآن فصاعدًا، سائل وسائخ ومائع وفائر وحائر وصائر داخل الأشكال اللا متناهية لظهوراته المؤقتة. ها هي جدة جذرية لحواسنا ووعينا ووجودنا في العالم، بل ها هي جدة انطولوجية بلا أي ثقافة مرجعية ستقوم بقذفنا خارج عباءة الذات والموضوع التي انبنى عليها كل تاريخ المعرفة، لتلج بنا إلى ميدان ما بعد الميتافيزيقا التقليدية، أوما سأطلق عليه من الآن فصاعدًا "عصر الميتافيزيقا الأخيرة"، الميتافيزيقا التي تتعامل مع ظواهر العالم بوصفها مجرد أوهام ونسخ وسطوح ديجتالية وليزرية.
ما معنى الميتافيزيقا الأخيرة أو الوجود الأخير؟ إنها لا تعني واقعنا الموضوعي الذي تعامل معه الفلاسفة منذ أفلاطون إلى اليوم، إنما هي اعتراف أولًا، ودفاع ثانيًا، عن الظلي والشبحي والاصطناعي والافتراضي التي لطالما تم التعامل معها كـ وجود ضعيف. إنها دفاع عن "إنسان الحاضر" بما هو نبت انطولوجي جديد ينتمي إلى مجال البشرية الأكثر تقدمًا. إن إنسان الحاضر هو ابن السوق، والشاشات، والسطوح، والاستهلاك، والافتراض، والاصطناع، إنه شكل لخروج الوجود برمته عن طوره المرآوي، واقترابه من معاني الصدمة والانذهال والغواية. عندما تهرب الدوال من مرجعياتها، وعندما تهجر الأشكال مضامينها، وعندما تتنصل الموضوعات من قابليتها للقياس، نكون وجها لوجه مع شكل لانفجار العالم نفسه. أمام مسخ، أو كائن خارق. نكون أمام إنسان الحاضر تحديدًا. لكن إنسان الحاضر هذا، ليس أعلى ولا أدنى، ليس إنسان روسو ولا إنسان غوته ولا إنسان شوبنهور ولا إنسان نيتشه، ولا إنسان ميشيل سير، بل هو أخير على الدوام. لقد سحب إنسان الحاضر الكرسي من تحت شخصية الداندي الحداثية، وشخصية المتلقي المسرحية، وشخصية الغاوي الدون جوانية الكلاسيكية، وحولها إلى شخصية المستهلك السعيد. المفتون بحمقه الخاص أو بلادته المعممة. إن إنسان الحاضر هو بله عدمي. نموذج نموذجي للمستهلك في عصر الشاشات والسطوح الذكية. وحده الذي يستقبل صور الأشياء دون أن يفهم معناها يمكن أن يسمى إنسانًا حاضرًا أو فائقًا. إنسان الحاضر ذاتية بلا ذات. سطح للاستقبال وليس منصة للإرسال. إنه ستاند متحرك لا ليرى الأشياء، بل ليعكس عبره صور الأشياء. إنه فرجة محضة. أو هو بعبارات أخرى: انفعال عدمي بامتياز، شغف خاص بنمط الزوال والاندثار. نحن مبهورون بكل أشكال الزوال. بزوالنا. إن وضعنا الطبيعي في زمن الميتافيزيقا الأخيرة وضع سوداوي وعدمي ومنبهر. هكذا هو إنسان الحاضر بالذات والإسم. اسم متمرد للهاوية. اسم لا منطوق .هوية منسحبة. إنية مشعة في غير أوانها. نصف الوجود هو لا وجود. إنسان الحاضر هو عين اللا مكان الليزرية. إنه ماض يتم محوه في غير اتجاهه. وجود تعاد كتابته بلا تربة. إنسان الحاضر زقاق نسي اسمه. طريق لا مبالية تشبه لا مبالاة النجوم إزاء الليل الذي جعلها تسطع. تشع. تلمع. انسان الحاضر هو طبعة من كتاب الوجود بلا تاريخ.
"الوجود الأخير" هو هذا التوالد الذاتي للسطح. السطح؛ بما هو درجة ضبابية من الحقيقة. ما هو أكثر حقيقيةً من الحقيقي. إنه التأكيد بأن هذا العالم لم يعد أكثر من ظهورات مؤقتة على مسطحات ناتئة وملونة. إنه وفق كلمات مكثفة واقع بلا مخيلة، لكن هذه الوضعية لا تعني أبدًا أننا في حالة اغتراب. لا إطلاقًا. إننا فيما وراء الاغتراب. إننا وفقًا لـكلمات فاتنة للكاتب الفرنسي جان بودريار "لم نعد ننتمي إلى دراما الاغتراب، بل إلى نشوة الاتصالcommunication The ecstasy of"7، هنا حيث تنمحي الأشياء وتنطمس الوجودات بلا أثر ولا حتى أدنى شعور بالزوال. ثمة ضرب من الغياب الفاجر أو الفاحش. فجور الظهور والمرور عبر الشاشة بلا أي معنى. إنها نشوة الرؤيا الأخيرة في المجتمع الأخير الذي يدين بالميتافيزيقا الأخيرة. الرؤيا الأخيرة، بما هي رؤيا بلا موضوع للرؤيا. النتيجة الحتمية لكل هذا هي السخرية والتهكم والتفكك الذاتي. التفسخ والانحلال في شاشة لم نعد نشاهدها بل تشاهدنا. لقد أصبحت الشاشة تحدق فينا لكي تمتلىء، لكي ترى ذاتها في مرايانا. لم يعد ثمة متسع لنرسيس الذي يقف على حافة البحيرة منكفئًا على ذاته متلألئَا فوق صفحة الماء. أنا لم أعد أحدق، بل يُحدق علي من قبل صورة تدور حولي دون أن تمسني، تحيط بي دون أن أكون موضوعا لها. إنني الآن ضحية ذاك التحديق الذي يطالني، إنني قربان تلك الصور التي تتكلم عني وعبري وبي ومن خلالي ولي وأنا ألوذ بالفرار نحوها خوفًا من ألا يكون لي صورة بين المصورين. ها هي صورتي المتلألأة هناك حيث علي أن أملأها دائمًا بي. أملأها بموتي.
لقد خلقت الطبيعة لنا فخًا منذ بدأ نرسيس يتأمل ذاته على مرآة البحيرة. إن نرسيس لم يكن يرى شيئًا. إنه كان يتأمل أشياء المرآة/ ذاته المرآوية. صحيح أن صورته المرآوية هي لا شيء، لكن اللا شيء هنا هو شيء المرآة الخاص. قدرتها الخاصة على تبادل الوجود مع الذات التي تنتصب أمامها. هذا هو تاريخ المعرفة البشرية. تاريخ محاولاتنا الدائمة لفهم الأشياء التي ليست هي بالمحصلة أكثر من عدم المرآة ذاته. لكنه عدم محفوف بالوجود فالمرآة لا تعكس، أو لا تستطيع أن تعكس بالأحرى، إلا الكائن والموجود سلفًا. هذه البحبوحة التي كانت تتيحها المرآة انخسفت كليًا في عصر الشاشات. لم تعد المرآة براديغم عصرنا، بل فردوسه المفقود. لقد تجاوزنا عصر المرآة كليًا فـ "الأشياء ابتلعت مراياها وأصبحت شفافة لنفسها"8.
يمكن القول: إن هذه الهاوية السعيدة التي ابتلعت نرسيس يومًا، ستتعمق رويدًا رويدًا لتبتلع الوجود برمته. لا، بل إن المرآة التي حازت يومًا على قدرة موضوعية في تقاسم الوجود معنا سيتم ابتلاعها في الشاشة الكلية للعالم الافتراضي والرقمي، فهذه المرة، لن يكون الفخ من صنع الطبيعة، بل من صنع عالم الديجتال الذي سيوقعنا في حبائل الميتافيزيقا الأخيرة لإنسان الحاضر الذي سيدمر كل ألعاب المرايا وأشيائها دفعة واحدة. في عالم كهذا، لا يغدو التحقق خارج المرآة شكلا للرغبة، بل قدرًا فاجعًا. تطهرًا لا إراديًا من حقيقة العالم، واستسلامًا أخيرًا لسلطة السطح، بما هو الشكل الأكثر إلحاحًا للأزمنة الشائخة. "تغير انطولوجي للعالم عبر السطح". و"تغير ميتافيزيقي للسطح عبر وهم العالم". لا أحد يكترث متى وقع هذا، ولماذا، وكيف؟ لأن الإنسان الذي يحيا اليوم، فيما وراء المرآة التي كانت صورة العالم، يخلق صوره الأخرى التي تناسب طبيعته9. لقد أغفل جل الفلاسفة الحديث عن الطبيعة المتناقضة للإنسان. إن الإنسان وعلى خلاف كل التصورات السعيدة والطوباوية عنه، لا يرغب بطبيعته بإدخال عنصر الانسجام والاتساق في العالم الذي يحيا فيه، بل يعمل على النقيض من ذلك، - عبر الفكر والفن والعمارة والموسيقى والسينما - على إحداث التشويش في بنية عالم مرتبك أصلًا. إن لدى الإنسان رغبة بحرف العالم عن مساره الأصلي حتى لو تطلب الأمر أن يغدو عبدًا لعالم شبحي ليس أكثر من سطوح تتناسل من بعضها بلا توقف.
نحن ببساطة غير قادرين على الاستمرار في الكوزمولوجيا القديمة والانطولوجيا القديمة والغنوصولوجيا القديمة. العالم الذي كان قائمًا على التعادل الانطولوجي بين الذات والموضوع، بين الأنا والعالم، بين الانسان والطبيعة، بين الوجود والموجود فقد كفاءته التفسيرية. إن من الخطأ الاستناد إلى نظرية الوحدة التي ترى العالم منصة واحدة لكل الذوات، فكل موجود اليوم يشكل منصة خاصة به والتي تكون بمثابة حقيقته الخاصة مثلها مثل المرحلة التي يعيشها البشر الآخرين. لم يعد العالم يتكون من شاشة واحدة (شاشة الواقع أو شاشة الذات). وعلى الكل النظر إليها والتفاعل معها لكشفها أو لكشفنا. مرآة الطبيعة الرورتية، ودازاين هيدغر الأصيل باتت مزيفة كليًا، فالعالم بدلًا من مرآة الطبيعة/الواقع صار يتكون من ملايين المرايا وملايين الدازاينات الافتراضية حيث تتغير تربة الكائن ليجد نفسه ملقى في "دازاين ديجتالي" ليس أكثر من تراكم وتراكب شاشات متجاورة ومتداخلة ومتقاطعة في كل مكان. من ينقذ المعنى في عالم كهذا؟ ربما كان من الأجدى أن نسأل: من يرغب بإنقاذ المعنى في عالم كهذا؟ بكلمة واحدة: لقد انتهى الابستيم الذي تتسيد فيه الذات على الوجود وتفرض عليه مزاجها المعرفي. اسمحوا لي بالقول: "نحن أحفاد لا ديكارتيون للفلسفة". ليس هذا فقط، "نحن أيضًا أحفاد لا ماهويون للعالم". لقد غير العالم قواعد لعبه الانطولوجية. لم تعد الذات تستنفد الحدث. أو لنقل: لم يعد العالم يرغب بمقايضة أحداثه وأشيائه وأعماله عبر الذات. لقد انحاز العالم الذي أصبح شبحيًا، هلاميًا، سيمولاكريًا، كورونيًا، استهلاكيًا، لا إنسانيًا، إلى أسماء أخرى، واستعارات أخرى، وقواعد لعب أخرى. لقد تغيرت اللعبة ومن يدخل عالم لعبة ما، فإنه يدخل عالمًا جديدًا يغمره ويتخطاه. لنقل ذلك بكلمات أخرى: لم تعد المشكلة في عدم فهمنا للعالم الراهن. بل في كوننا لا نفهم عدم فهمنا له. إنه طور العصيان والإلحاد الانطولوجي للموضوع.
كتب الفرنسي جان بودريار ذات نص: "لقد أصبح اللا يقين شرط تشاركية الفكر. ينتج لا يقين الفكر من كون الأنا ليست وحدها التي تضع العالم موضع تفكير، فالعالم أيضًا يضع الأنا موضع تفكير"10. إن خطورة هذا الموقف الانطولوجي تنجم عن تهكم علني من الكوجيتو السعيد لديكارت. ثمة إشارة واضحة إلى أن عصر الديجتال وما فوق الواقع قد عجل في التدهور السريع للمثالية الفلسفية التي جعلت من الذات مصدر كل وجود وموجود. لقد سقط الفكر في برانية خالصة، لكنها ليست برانية ذات تمارس التخارج كإجراء انطولوجي، بل برانية تشير إلى سقوط الفكر خارج نفسه إذ أصبح للفكر موضوع خارجي يفكر هو الآخر. لم يعد العالم يدور حول الفكر ليكون مؤشرًا على ثورة كوبرنيقية، فالثورة الكوبرنيقية هي من الآن فصاعدًا ثورة فكر لم يعد يتكىء على ذات ضعيفة، بطيئة، انفعالية، بل أضحى رهين الموضوعية الأخيرة أو ما بعد الموضوعية حيث الأشياء تلمع وتسطع فتشد الذات إليها بدلًا من العكس. "لقد صار الموضوع ذاتًا ثانية". يمكن القول بكلمات أخرى: لقد بات الموضوع قادرًا على تحطيم كل أجهزة المقاومة التي بحوزتنا. يمتح الموضوع إحدى معانيه من هذه النقطة بالذات. من قدرته على الإفلات من قبضة التاريخ الرسمي للمعنى ومن عصيانه الدائم للذات في كل أشكالها الأوديبية والقضيبية.
ألم يحن بعد موعد لقائنا بالكارثة؟ ألم يحن بعد موعد تدمير بنية الفكر التقليدي التي شكلت ضربًا من التفوق اللاهوتي للذات على العالم. إن الذات مليئة باللا ذات، تمامًا مثلما هو الوجود مليء باللا وجود على نحو دائم. لم يعد التناقض سمة للكينونة بل المفارقة. لا التعالي بل الشفافية، لا الأزمة بل الكارثة، لا المطمور بل المكشوف، لا الذات بل تلاشيها، لا الموضوعية بل ما فوق الموضوعية. لا الواقع بل موته، ثمة شمس تقترب من الأرض؛ أرض الذات، تحول دون الرؤيا من شدة الرؤيا. عندما يخترقنا الزجاج لا يعود ثمة شيء شفاف. لا شيء لنراه فالمُشاهِد هو المُشاهَد حيث تتحول عين الذات إلى نفسها، إلى صورتها الخالصة وتمنعها من التمعن فيما يتوارى خلف فائض الصور والشاشات. هل ثمة في عالم كهذا صح وخطأ؟ خير وشر؟ ذات وموضوع؟ سيكون الجواب بـ لا كبيرة وغير مستغربة فـ "العالم الاصطلاحي للذات والموضوع وللغاية والوسيلة وللصح والخطأ وللخير والشر لا يتطابق مع حالة عالمنا الراهنة. فالأبعاد الطبيعية كأبعاد الزمان والمكان والتحديد والتمثل وبالتالي الفكر التأملي والنقدي خادعة. العالم الخطابي للمجال النفسي والسوسيولوجي والايديولوجي المحيط بنا هو فخ. فهو مازال يعمل داخل مجال اقليدي. ليس لدينا أي حدس نظري لهذا العالم الذي أصبح كوانتيًا من دون علمنا. نحن الذين بقينا مخلصين بشكل أعمى لفكرة الحقيقة الواقعية"11.
لم يبق للفلسفة أي علاقة بنظرية المعرفة الكلاسيكية. نظرية المعرفة التي تفترض تعالي الذات أو قبليتها. ربما نتجرأ قليلًا على القول: إن مفهوم الذات نفسه بات متجاوزًا12 لأنه ينطوي على الوهم الكلاسيكي الذي يفيد بأن الذات هي موجودة دائمًا إزاء موضوع يقابلها. الغريب أن بعض الفلاسفة مازالوا يغذون هذا الوهم حين يتحدثون بلا توقف عن قدرة الذات على تصريف الوجود في عصر الديجتال كما لو أن الذات توجد في منطقة خالية من كل شيء ماعداها. في منطقة قاحلة انطولوجيًا فوق حركة التاريخ ومعزولة عن موضوع تأملاتها. لطالما أحب الفلاسفة التواري خلف هذه المسلمة الماهوية الزائفة التي تسمح لهم بتحاشي ذكاء الموضوعات ودهائها لصالح ذات عامة أو كلية أو قبلية أو ماهوية. لا يهم الفلاسفة إذا كان الوجود هو انتماء إلى مسطح أو ابستيمية معينة، ولا يهم إن كان في عصر التنوير أو في عصر الديجتال فالأسبقية هي للانطولوجيا الكلية التي تجري في عروق الذات منذ خروجها من كهف أفلاطون. تتعب العناصر من تكرار تيمة بالية، وتسأم من توليفاتها التي لا تتغير ولا تنويع فيها ولا مفاجأة. كلما أوغلت الفلسفة في طريق مسدود كلما تكاثر الفلاسفة. مهما حاولنا فإننا لا نستطيع إلا الاندهاش من كل تلك القرون التي لم يبذل فيها جهد من أجل شيء آخر غير السعي إلى ضبط الوجود على قياس الذات. لو كان في الوسع تحديد عيب الفلسفة الراهنة فلن يكون سوى تفكيك تعالي الذات في ثقله الأخرق والتأكيد بإلحاح أن الوضع الأصلي للكائن، هذا الذي يحمل في نهاية المطاف اسم الكينونة هو ضرب من "التفاوض الدائم" بين الذات والموضوع بالمعنى الأصلي للكلمة. ليس غير التفاوض الفينومينولوجي لإقامة شراكة انطولوجية مع موضوعات باتت تفوقنا ذكاءًا ودهاءًا للدرجة التي باتت هي بدورها تفكر فينا. الذات قابلة للتفكك والترهل. تتلف مثل كل ما ينتمي للحياة. علينا ألا نطلب من الذات القيام بجهد لا يتناسب مع قدراتها الانطولوجية، أو على الأقل ألا نضطرها إلى التلعثم أمام موضوعات باتت أكثر شبابًا منها. ربما بات علينا لكي نتجنب تلك المزايدة الميتافيزيقية السمجة عن أولوية وماهوية الذات أن نعترف أخيرًا: أن الذات هي شعرية خالصة؛ تقنية إناسية للتفاوض مع العالم في كل حقبة من حقب وجودها في العالم، بل أزيد من ذلك، إن الذات هي عملية صناعية والموضوع بما هو كذلك يساهم بقسط كبير في عملية التصنيع هذه. لا، ليست الذات لا ماهية ولا جوهرًا منفصلًا ولا متصلًا، لا جرمًا أصغر ولا أكبر، بل "صيرورة صناعية" ويجب صنعها وصوغها باستمرار في عملية تفاوض لا تنتهي مع العالم.
ما نستطيع قوله يجب قوله بوضوح، وما لا نستطيع قوله بوضوح يجب السكوت عنه. هكذا كان فتجنشتين يعقد آماله الفلسفية على البداهة والوضوح المستمدة من قدرة الذات واللغة والمنطق على رسم حدود الأشياء بدقة ووضوح متناهيين. هل ثمة ما يمكن قوله بوضوح في عصر الصور والشاشات؟ هل ما زال مبدأ البداهة والوضوح يحوز أي طاقة تأويلية؟ أصبح من الممكن القول: إن خطورة الشاشة هي في كونها دمرت تلك المسافة التقليدية التي تفصل الرائي عن المرئي. لقد بنت هيأتها على أنقاض فكرة الوضوح الميتافيزيقية، هذه الهيأة التي لن تندرج بعد الآن ضمن براديغم القرابة الذي يربط المصور مع الموضوع المصور، لأن الحجب وليس الظهور، الستر وليس الفضح هو ما يشكل عمق ماهيتها. هكذا يمكن القول أيضًا: إن الشاشة هي حجاب؛ حجاب الذات وحجاب العالم وحجاب الأصل. إنها الحجاب الذي يصبح هو نفسه الوجه وهو نفسه الجسد وهو نفسه الأصل الذي حجبه. النفي المتواصل للأصل. السلب المطلق لكل سلب. لا تنزع الستار عن اللوحة فالستار هو اللوحة ذاتها. في عالم كهذا، ألا يجب أن نبدأ بكتابة معاهدات ومواثيق جديدة للوجود؟ بلى. إن علينا أن نؤرخ لأنفسنا بطريقة مختلفة. فعلى النقيض من العقد الكلاسيكي البائت الذي يربطنا بانطولوجيا القار والثابت بات من الملحّ جدًا أن نجترح عقدًا جديدًا لانطولوجيا السائل والمتحرك. وعلى النقيض من العقد الكلاسيكي البائد الذي يربطنا بميتافيزيقا الوضوح بات من الضروري أن نستولد عقدًا جديدًا لميتافيزيقا الاختفاء والتلاشي. وعلى النقيض من العقد الطوباوي الذي يربطنا بميتافيزيقا الإنساني بات من الأساسي أن نقترح عقدًا جديدًا لميتافيزيقا اللا إنساني. عقد ما بعد ذاتي، أو ما بعد ماهوي، يحايث الطور الإبادي والهذياني والتبديدي للإنسية الحالية.
إن الشاشة هي بذلك تمرين افتراضي على النسيان الجذري للعالم. تدريب على الطمس والطمر والغمر والإخفاء والحجب والاستبدال13. لكن حذارِ أن يظن البعض أن الشاشة قد تمارس لعبتها على سبيل الإضمار الميتافيزيقي للسر أو المعنى. لا إطلاقًا. إن الغياب الذي تؤسس له الشاشة ليس غيابًا موجبًا. إنه بكلمات أخرى، ليس غيابًا شعريًا لعالم آخر يتوارى خلف ظاهر ماكر، بل إنه حجب ما بعد أو ما فوق ميتافيزيقي حيث تتلاشى الأشياء وتتوارى الأحداث وتذوي الموضوعات دون أن تخلف أثرًا وراءها. إنها الشاشة كـ سطح أخير. ضرب من الغياب الفاجر والمضاعف والفاحش. إنه فحش أن يتلاشى الظاهر فيما هو أبعد منه أي فيما هو أكثر ظهورية من الظاهر نفسه. وفجور انمحاء المرئي فيما هو أكثر مرئية من المرئي. إنها وقاحة عالم بلغ به الشطط أنه لم يعد يرى شيئًا، ويعلم أنه لا يرى شيئًا ويصر على تأبيد انعدام رؤيته بإدعاء الرؤية الكلية. ربما كان هذا الانمحاء الجذري إرهاصًا آخرًا على بلوغنا "الزائل إطلاقًا". الفاجرإطلاقًا.
عندما نشارك في برنامج تلفزيوني للمواهب كما هو الحال مع برامج المواهب الشهيرة كـ برنامج America’s got talent أو The voice أو غيرها من النسخ التي تنمو على التكرار الحرفي لنفسها، فإننا نفعل ذلك لتصويب الأنظار نحو موهبة خاصة نمتلكها. إننا نفعل ذلك، لكي نتمكن أخيرًا من الكشف أمام الملأ عما عملنا طويلًا لتطويره واكتسابه و الحصول عليه. لكن المؤسف، أن الأمر هو خلاف ذلك تمامًا، إننا لا نملك أدنى فرصة لكشف مواهبنا والتعبير عن ملكاتنا أمام لجنة التحكيم. لقد تم وضع مليون دولار كجائزة للفائز بالبرنامج لكنها لم توضع للموهبة وإنما وضعت بالأحرى، لتفنيدها، وإنفاقها، وتبديدها. لقد وضعت الجائزة، لكي تسحب الموهبة من شرطها الإنساني وتتحول إلى شرطها الشاشاتي. أنت موهوب إذن أنت تملك أودشن (تجربة أداء) على برنامج المواهب الخاص ببلدك وسيكون من المثير للسخرية حديثك عن موهبة لم تنل شرف نقلها التلفزيوني حتى لو امتلكت براعة الفيلسوف هيبياس.
ما يضمن للشاشة هنا إمساكها بتلابيب ما يظهر عليها هو توفرها على الفورية والسرعة والمباشرة والاحتواء وربما الإغراق الكلي لموضوعاتها. هنا تظهر الشاشة كـ آلة تأويلية ضخمة شعارها الوحيد: أنا من يحدد الموهبة وأنا من يمنح المصداقية من عدمها. لقد تحولت الذات التي تريد التباهي بقدرتها الأكروباتية أو الفنية من منتجة للعالم إلى موضوع بسيط أمام الشاشة. مهما بلغت بك الموهبة أو الكفاءة فإن كل ذلك يتم رده إلى كيان أعلى منه. هو الشاشة التي تتولى تأويل الموهبة وفقًا لنظامها الخاص. يتعلق الأمر بسحب الشرط الواقعي للموهبة بوصفها ملكة تميز الذات وتضمينها في لعبة الصور التي تقدمها الشاشة لا كنموذج عن الواقع بل كنموذج عن حقيقة الشاشة ذاتها. لم تعد العلاقة، علاقة أفقية بين وسيط محايد يعمل على إظهار الموهبة وكشفها، بل علاقة شاقولية بين ذاتين. تحتل إحداهما موقع الموضوع (المرتبة الدنيا)، وتحتل الأخرى موقع الذات (المرتبة العليا). إنها علاقة لوغوس بـ باتوس حيث تهدف الشاشة إلى "تلفزة الطاقة" التي يمتلكها الموضوع صاحب الموهبة وفق مبدأ: أنت لست موهوبًا، أنا من يقرر ذلك. كيف لا وأنت لا تعني شيئًا قبل دخولك مدار الشاشة. مدار ما هو أكثر حقيقيةً من الحقيقي أو ما هو أكثر واقعيةً من الواقعي ذاته. هي ذي بالتحديد لعبة الشاشة وتهكميتها وغوايتها أيضًا. كل شيء يعود إلى تيمة واحدة: التكرار اللا مرجعي لموضوعات العالم. أو ما يمكن تسميته الإنتاج المتكرر للفراغ.
على مقلب شاشاتي آخر. ماذا يريد الناس من مشاهدة برامج كـ Temptation island أو حتى برامج تلفزيون القمامة أو ما يمكن تسميته بـ التلفزيون المزبلي على شاكلة البرامج الحوارية المعاصرة؟ هل هي الرغبة في التلصص على خصوصيات الآخرين أم رغبة بدائية بعالم عاري بلا أغطية تحميه من العري المطلق؟. لوهلة تبدو الشاشة وكأنها تجر كل الأشياء إلى حالة شبيهة جدًا بـ غانغ بانغ gang bang افتراضي. استعراء جماعي. أوديبية معممة كما لو أنها ضرب من الاحتفال المازوشي بخطيئتنا الأبدية. لوهلة ما أيضًا، تبدو الشاشة هذه المرة وكأنها العلبة التي تضم مكبوتاتنا. أو الصندوق الذي يحوي كل شهواتنا ورغباتنا المنحرفة. من يدري؟ لربما كانت هذه الشفافية الزائفة هي الأعراض الأولية لمتلازمات الشاشة المزمنة.
كيفما كانت شكل المقاربة التي نتخذها لفهم الشاشة في كل أشكالها وسطوحها وفنونها وأنواعها فإننا مضطرون للإحالة إلى مسألتين لا يمكن التخلص منهما بتاتًا: "انهيار المسافة الانطولوجية والغرق في الضوء". لن تبدأ الفلسفة من الآن فصاعدًا من مبدأ أول على الطريقة الديكارتية. لا شيء يبدأ لأن الكل صار ضمن الدوامة. الدوامة أو الدائرة التي تكون نقطة البداية فيها هي ذاتها نقطة النهاية. دوار ودوخة وزوغان لا نهائي. ليس ثمة عمق، لأنه ليس ثمة سطح أصلًا. ليس ثمة نقطة نهاية، لأنه لم يعد هناك نقطة بداية. لا علة كافية، ولا ناقصة، لا أصل، ولا هجنة، بل صور وشاشات ومسطحات ونقاط التقاء عشوائية. نحن لم نعد نفكر وإنما يفكر فينا، نحن لم نعد ننظر في المرآة لأنه لم يعد ثمة أحد تعكسه. إنه فضاء الشاشة وعصرها. تفتح الشاشة الباب واسعًا أمام منعرج انطولوجي في غاية الخطورة والأهمية. الشاشة بما هي عتبة جديدة من عتبات وجودنا في العالم حيث المعنى واللا معنى، الحقيقة والخطأ، هي دلالات تفيض عن الموضوع، أو هي أشكال غريبة لا يمكن قياسها إلى الذات أبدًا. ذلك ما يخلق عالمًا جديدًا كليًا. ثمة ما يشي برغبة للتحول نحو "الذات الأخيرة". الأخيرة من حيث هي ذات بلا تمركز، ولا تعال، ولا تجوهر، وإنما ذات هي في حالة سباحة دائمة في بحيرة الموضوع. بحيرة الغواية. بحيرة الشيطان. عالم جديد شجاع كما كتب البريطاني ألدوس هكسلي. ربما هو عالم جديد مشاع متروك نهبًا للسقوط الحر أمام عالم برّاق وماجن وفاتن وشائن.
ها هي جميع الخطابات تتداخل بطريقة تهكمية تضيع فيها كل الحدود والمسافات والجسور التي كانت تفصل الأشياء والأحداث عن بعضها فصلًا انطولوجيًا وجماليًا. لقد كان الجنس يستمد كل قوته بتعارضه مع مفهوم السر، وكان التاريخ يعمل كنقيض للطبيعة، وكانت السماء تعمل كنقيض للأرض. كل شيء كان يستمد معناه من تعارضه الشديد مع نقيضه. لقد مر زمن على الوجود كان فيه السلب سيدًا من سادات فهم الدينامية أو اللعبة التي يعمل العالم بمقتضاها. ثمة انقلاب غامض أتاح للعالم إمكانية الالتواء والانكسار على نفسه، التواء خبيث حيث يتم فك الارتباط مع عالم المعنى لإعلان الولاء والطاعة العمياء لعالم اللا معنى. هنا في عالم كهذا لا تعود البشرية موضوعًا لتأمل العالم ، بل موضوعًا لتأمل ذاتها، هنا حيث يبلغ السطح حدًا من التغول إلى الدرجة التي يصبح فيها الكريه والمنفر والقبيح والغريب والهجين إحساسًا جماليًا من الدرجة الأولى.
أن نبحث عن المعنى في عالم شفاف. لا بالنسبة لعين تراقبه من خارج اللعبة، بل شفافًا بالنسبة لنفسه، لنظامه الخاص. لغوايته الخاصة. لجهاز الحقيقة الذي بحوزته. هنا يبلغ موتنا الانطولوجي ذروته. لكن الساخر في موتنا هذا، أنه يحتاج إلى كذبة تدعمه وتمنحه مصداقيته المزيفة. ربما لم تعرف عائلة مسلسل Game of thrones ولن تعرف، أن وجودها كان ضربًا من الموت الشاشاتي الرحيم. لم تحظ شخصيات هذا المسلسل سوى بزخم اصطناعي وإعلاني تم خلعه عليها، لتحجب الشاشة من خلاله، حقيقة أنها كانت مجرد ستاندات (منصات) لعرض حقائق الشاشة ذاتها. إن اللعب المميت هذا ليس لعبًا "مع" شخصيات مسلسل صراع العروش، بل لعبًا "بـ" شخصيات مسلسل صراع العروش. لكن الجديد هنا، أن هذه اللعبة، أو هذه المسرحة المبتذلة لكامل حياتنا اليومية ستجر أو تستدرج الجميع نحو فتنتها وغوايتها واصطناعيتها بما في ذلك الجمهور14.
لنأخذ مثالًا بسيطًا آخرًا. الفكرة في غاية البساطة: نضع وجهًا لوجه شخصين لديهما كل الأسباب لاحتقار وكره بعضهما البعض. شخصين لديهما كل الأسباب لكي يكونان على طرفي نقيض. ولنتركهما عبر استفزاز معلق لا يملك الحد الأدنى من الحس واللباقة والمعرفة يتجابهان ويتراشقان بالكلمات على مرأى ومسمع الجمهور - غالبًا ما تصل الأمور حد العراك وتبادل السب واللكمات - إن الفكرة الأساسية من برنامج كهذا، هي إتاحة مساحة حوارية شفافة في موضوع ما. ولكن هل هذا هو ما يجري بالفعل؟. من له مصلحة في متابعة ساعة كاملة من برنامج يتم نقله على الهواء مباشرة بين خصمين لدودين لا يمكن الوصول إلى أي نقطة التقاء بينهما. بالطبع لا أحد. حلبة رومانية معاصرة بين مصارعين هائجين على مسرح افتراضي تلفزيوني بلا معنى ولا طائل. هذه هي الغواية الكلية، غواية الشاشة وفتنتها وإغراء الحشود حيث كل شيء يجب أن يخضع ليتم إقحامه في مشهد ما. في فرجة ما. في سيرك مرئي ما. أو هنا حيث كل شيء قابل للعرض ومعد للتبديد والإنفاق البصري المبتذل.
في السناب شات snapchat أو حتى تويتر يمكن أن تشاهد اليوم بكل سهولة محتوى جنسي يفوق محتوى منصات المحتوى الإباحي المتخصصة. ليس هذا فحسب، اليوم يوجد مئات الآلاف من الفتيات والشبان الذين صاروا يعرضون خصوصياتهم وأدق تفصيلات حيواتهم وأجسادهم، بل وممارساتهم الجنسية 24 ساعة عبر برامج البث المباشر عبر الـ webcam من خلال تلفوناتهم الذكية. هل هذا هو الشكل الأخير للاعتراف؟ هل هذا هو الإنسان الأخير؟ أم الطوباوي الأخير؟ أم التفردن الأخير؟ أم الشكل الأقصى لنرسيسية مدوخة لم يعد ثمة ما يؤججها سوى فائض الظهور والبروز؟. قد يحتج البعض بالقول: إن أولئك الذين ينزعون ملابسهم في مثل هذه البرامج إنما هو بقصد أن يعيشوا تجربة العري. أو تجربة الحقيقة العارية لأجسادهم وللعالم. لكن هذا ليس صحيحًا على الإطلاق، فالناس باتوا ينزعون ملابسهم - في مثل هذه البرامج - ليتم إظهارهم. أو بالأحرى، لينضموا إلى مجال الظهور. بما هو مجال الوجود أو شكله الوحيد والأخير.
التلاشي بديلًا من المسافة. السطح بديلًا من العمق. الموضوع بديلًا من الذات. الاستعراء بديلًا من السر. اللامعنى بديلًا من المعنى هل من ضحايا جدد؟ هكذا عملت وما زالت الشاشات تعمل على تدمير المسافة الانطولوجية بيننا وبين العالم. أو هكذا تم تحويل كل شيء إلى بنية خطاب بورنوغرافي. إن خطورة الشاشة هي في عمقها، محاولة لتعويم أو تعميم البورنوغرافيا كأسلوب في الظهور والتمظهر. تمجيد ما لا قيمة له. وتقريظ ما لا يمكن فهمه. لذة سائبة، ومتعة ممجوجة وممزوجة بشذوذ رؤية قائمة على مجهرية مرضية ومفرقعة ومدوخة تمامًا كأفلام البورنو. انحطاط مرئي وصوري وشاشاتي ها هو يتخذ من "السيلفي" مرآة جديدة للبلادة، أو مرآة للتسويق الذاتي15؛ السيلفي بما هي نوع من تحويل الذات برمتها إلى ماركة معروضة في بازار البشرية البصري. لقد أصبح الجميع شخصيات عامة. كل مواليد عصر الشاشات أبطال وأيقونات. رب تفاهة ديجتالية واصطناعية حولت الذات إلى مسخ كوميدي تشرف عليه شاشة مراقبة دائمة.
كثيرا ما تحدث الفلاسفة الرومانسيون عن فكرة الفائض. ثمة فائض انطولوجي تغذيه الصور16 ويغذيه الفن ويغذيه الشعر وتغذيه الكلمات يجعلنا نقبل على العالم أكثر غنىً وأخف ثقلًا. ربما كان هذا الفكر السعيد يصلح لعصر المرايا ويشكل فنتازيتنا المفقودة. ولكن ماذا لو أن هذا الفائض أو تلك الزيادة باتت ديجتالية؟ ماذا لو انقلبت علينا دون إذننا وبلا علم منا؟ ماذا لو قررت الموضوعات أن تثور على تمثلاتنا وأسيجتنا المرسومة حولها؟ ماذا لو أصبحت هذه الموضوعات جزءًا لا يتجزأ من تكويننا البيولوجي نفسه؟ ماذا لو كنا على أعتاب "الإنسان المُعزّز أو الإنسان الهجين؟" عنئذ لن نكون أمام فائض نداعبه بكلماتنا المعسولة فثمة طوفان سيجتاحنا ويجرف معه كل أصولنا البيولوجية والبشرية. إنه عصر الروبوت والسايبورغ والإنسانية 2.0.17
يبقى أن الشاشة لا تلغي اختلاف الموضوع الخاص بها، بل تنزع زمانيته الخاصة أيضًا. هكذا ينتشر الموضوع في الشاشة كاملًا، ناضجًا، قويًا وكأنه ولد دفعة واحدة بلا أب ولا أم. مثل المسيح، تُوجِد الشاشة موضوعاتها دفعة واحدة بلا قبل ولا بعد. لا تكترث الشاشة بزمن الموضوع على الإطلاق. إنها بكلمات أخرى، لا تستطيع تحمُّل زمان الموضوع لأنها هنا لتنزعه وتزيحه عنه. هكذا يتحول العالم المحكوم بالشاشات إلى تكرار فوري لموضوعات منزوعة الزمن ومسلوبة المعنى، لكنه ليس تكرار اختلاف كما تصوره دولوز على نحو شعري، بل تكرار خواء واستعراء. التكرار هنا هو امتصاص كل طاقة الموضوع والإبقاء على قشرته الخارجية فقط، لكن الأنكى، أنه حتى القشرة الخارجية ليست شكل الموضوع بل تكراره العاري تمامًا. استحالة تمثيله. أو تمثيله المضاعف ليس كاقتراب أو ابتعاد عنه، بل بطرده وإقصائه كليًا و تحويله إلى مجرد فراغ شاسع، إلى كارثة علنية، كارثة، لأنه لن يأتي إلى الوجود هذه المرة، بل سيخرج منه بلا عودة.
مهما بلغت متانة الدعاوي أو الإدعاءات التي تتصدر خطاب البعض عن الشاشات، فإن تأثيرها الرئيسي هو تحويل العالم إلى مستودع من الصور يكون فيه كل موضوع مُخفّضًا إلى مستوى الاستهلاك السريع ومرتقيًا إلى مستوى يفوق الواقع ذاته. ليس على الشاشة أن تكون مخلصة للواقع، بل على العكس، على الواقع أن يتنازل لينال رضى الشاشة. إن الكثير من الناس العاديين وحتى المشاهير يشعرون بالارتباك أمام الشاشات. ليس لأنهم خائفون، بل لكونهم يرغبون بأن ينسجموا مع السطوح التي تتلقفهم. إنهم بكلمات أخرى، يخافون من غضب الكاميرا. ولكن هل تغضب الكاميرات؟ هل تتمرد السطوح؟ هل تخرج الشاشات عن طورها18؟
تمامًا مثلما كانت تعمل اللغة عند هيدغر كبيت للكائن فإن الشاشة الراهنة تعمل كما لو أنها بيت للحدث. لكن الفرق الأساسي بين كلا التصورين أن اللغة عند هيدغر هي الحصن القوي الذي يحمي الوجود وهي المرآة الصقيلة التي تسمح له بالانكشاف والانقشاع والتجلي. أما الشاشة فهي مرآة حاجبة. إنها لا تكشف الوجود بل تظلله، لا تحميه بل تنسفه وتقوضه. ينتشي الوجود عبر اللغة لكنه يهذي ويتلاشى ويتوارى عبر الشاشات. عبر اللغة يتم تشييد ميتافيزيقا لـ الاتصال. أما عبر الشاشة فيتم الشروع بالانفصال. فرق كبير بين لغة هي بمثابة مسكن، وبين شاشة هي بمثابة منفى. إن نسيان الكينونة هذه المرة ليس خطأً انطولوجيًا، بل استراتيجيا تتعامل مع النسيان ذاته كمبدأ تماسك.
لماذا نكلف أنفسنا مغبة البحث عن معنى. عندما يسير كل شيء بلا معنى. بطريقة معكوسة: لماذا نكلف أنفسنا مغبة البحث عن معنى. عندما يصبح لكل شيء معنى؟.هذه هي كلمة الدخول الأولى إلى وجود أخير يعيش على العصيان الجذري للأشياء التي فقدت الرغبة في الدلالة والمعنى ولم تعد تطيق النزول إلى نهر هيرقليطس. ثمة عقد انطولوجي بين الأسماء ومسمياتها، بين الدوال والمدلولات فقد صلاحيته وتم فسخه على رؤوس الأشهاد. وجود أخير حيث تُفرًغ كل الكوجيتوهات الفلسفية المعمرة من مضامينها، الجوهر، العمق، الأصل، الحضور، ليحل محلها شبكة أخرى من المفاهيم السديمية: السطح، المظهر، التشتت، الغياب، وهي كلها مفاهيم مراوغة ولعوب تمحو التضاد وتنفي الصيرورة. وجود أخير وربيبته الميتافيزيقا الأخيرة حيث تنقلب حركة الوجود إلى مجرد حفلة مفاهيم تنكرية حيث لا ذات ولا موضوع وإنما سيولة من المرايا المتوالدة والأشكال المتراكبة. هكذا يبدو العالم وقد وقع تحت براثن السطوح المعممة، أو هكذا يبدو شبح الشبح الذي يطارد وجوداتنا بلا أسرار. خيالاتنا بلا محتوى. شبكات اتصالنا بلا جهات اتصال. وهذا هو الشكل الخالص للشاشة، أو الشكل الخالص لإنسان الحاضر بما هو امتداد للشاشة ذاتها.
لأقول ذلك بكلمات أخرى: إن هالة المعنى أصبحت فقيرة. لقد أصيبت بالترهل والإعياء من شدة الانغمار والانطمار بفائض الصور. إن الانطولوجيا الراهنة لو قارناها بالانطولوجيا اليونانية لبدت أشبه بصنم إلهي، ليس بلا رأس كما كان يعتقد نيتشه، بل بلا مادة. إله هو مجرد صورة عن الإله. نسخة ما فوق دينية عنه. ذات هي مجرد صورة عن الذات. نسخة ما فوق واقعية عنها. فن هو مجرد صورة عن الفن. نسخة ما فوق واقعية عنه. هذا ما حدث ويحدث، عندما يتم فقدان الاتصال بالعالم والدخول في تجربة الشطط والإنفراط والتطاير والتشذر والتشظي والشرود. إنه عالم بلا حدود للمعرفة. عالم من التجريد المطلق أو التفكير بلا أٌسّ للتفكير. إن الذات واقعية، أما شاشة الذات فهي ديجتالية. الموضوع واقعي، أما شاشة الموضوع فهي اصطناعية. لم يعد ثمة براديغم أو برزخ يتوسط مرحلة الانتقال بين البراديغمات، لقد أضعنا نقطة العطالة للأبد ولم نعد نفهم لماذا نذهب إلى الغابة. إلى النص. إلى المعنى. إلى الحياة ذاتها. دخلنا مرحلة "البحلقة المعممة" والتأرجح والنوسان الكلي والتلاعب المطلق. فالذات والله والكتابة والفن والتاريخ والمعنى أصبحت تنتمي لعالم ما قبل ديجتالي. بكلمات أخيرة: لم يبق شيء من زهرة كانط، ولا من أرض هيدغر، ولا من هالة بنيامين، ولا من جذمورات دولوز. فالزهرة وشاشة الزهرة، الأرض وهالة الأرض، الهالة وشاشة الهالة، الجذمور وشاشة الجذمور، لم تعد تنتمي إلى العالم أو الكيان نفسه. هنا في عالم كهذا حيث تصبح "الهجرة إلى اللا يقين" هي المبدأ الوحيد لتماسك وهشاشة وغواية العالم.
ثمة ميتافيزيقا ملونة وانزياح سري جرى ويجري تحت إشراف الشاشة. ميتافيزيقا تتكثف وتتكشف كل ملامحها في ضرب من الشفافية المُمددة. الشاشة أو تلك الشساعة المزدهرة للسطوح. الوضوح القاسي. السطوع الخفي. العدم الملون. البريق المتشنج. الفجور المنمق. هنا، في حالة جهنمية كهذه، أو هنا، حيث كل شيء مطلي بالضوء ويحمل فوق ظهره تفاحة ستيف جوبز المقضومة. هنا، حيث الوردة هي صورة الوردة، وحيث العطر هو صورة العطر، وحيث الجسد هو صورة الجسد، وحيث الشر هو صورة الشر، يصير الوجود إلى ضرب من "العود الأبدي للمظهر". أو التكرار اللا نهائي للمرئي. هنا، في هذا العنف المجاني. أو في هذا العنف غير المقروء. في هذا الزوغان والذوبان الكلي في المدار الديجتالي للشاشة الكلية لا يتبقى لنا سوى أن نعترف: لا معنى لشيء قبل أن يضربه الضوء، ويوقع عليه ستيف جوبز، و يمرره مارك زاكربرج، وتوافق عليه غوغل. ربما كان علينا أن نكتب كلمتنا الأخيرة: "لقد باتت الشاشة دين العالم الجديد".
عبر الشاشات إذن - وهذا ما أريد الوصول إليه أخيرًا - نصل إلى مرحلة خاصة من مراحل تطورات السطح. يتعلق الأمر بالسطح المشكل اصطناعيًا. وجود مصاب بقشعريرة دائمة. هنا حيث تبلغ المغالاة في تزويق السطح وتجويف العمق، أو في تجويد الخارج وطرد الداخل، أو في تلميع البراني وتمييع الجواني، حدًا يصل إلى نسف بنية الموجود ذاتها. هكذا تتناثر البنى من شدة التماسك، وتنهار كل الألعاب المعرفية والجمالية في نهاية المطاف فوق قواعدها. أو هكذا، حيث تغدو الذات هي شاشة الذات، وتغدو الإنسانية برمتها هي شاشة الإنسانية. مجرد فائض ليزري أو زائدة إشعاعية للوغوس معاصر مصنوع من الكرستال المشع. كل ما نود أن نفعله هو أن نرى تعاقب صورنا. أن نواكب تتالي انعراضنا الكلي على شاشاتنا وشاشات العالم. أليست هذه ظلامية جديدة؟. أليست غيبية ما ورائية محلاة بالضوء وفائض السطوع؟
الماء المتسخ، السماء المعكرة، الوجود الخامل، يصرخ الأحياء. هل هو تواطؤ الانسان الأخير مع اللامعنى الذي يلف كل شيء؟ ثمة خدر في الذائقة وعطب في الذات. ثمة خدر أو نمل معمم غائر عميقًا في الواقع لكن أحدًا لا ينتبه لذلك، سطوح أو شاشات لا فرق. فلا شيء تحتها ولا فوقها ولا بينها. شواهد قبور ساطعة، لا لتشهد على الموت، بل على الاختفاء. سطوح وجدران ودهاليز وممرات ومفلطحات ونتوءات فنية وفلسفية ومعمارية لا يربط بينها شيء سوى الفراغ. سوى اللا وجود الذي يحتجب في ظهوره الشفاف عبر الأثير الصقيل. داخلية كوميدية كفلسفات الاختلاف، أو انطراد كلي كـ فلسفات التقنية والتواصل. ضرب من موت الفلسفة في غير أوانه، أو ضرب من الغياب المضاعف لعمارة الفكر كسماكة. شكل من الانتصار بالجلد على اللحم. بالفقاعة على البيت. بالمُصمِم والمُبرمِج على الفيلسوف. بزاكربرغ وستيف جوبز على هابرماس وسلوتردايك. بالسيلفي على البورتريه. بالسرد الروائي على المفهوم. بفيغاس على أثينا. بالحماقة الاستعراضية على الصرامة الانطولوجية للفهم. لا أحد بمقدوره أن يغادر الداخل إلى الخارج، أو أن يعبر العمق إلى السطح فالكل يقيم في بقعة البقعة حيث كل سطح هو عمق مهدور، وكل عمق هو سطح ينزف بالصور والأشكال الملونة والمزركشة والمبهرة. هل هو الطور الأقصى لـ التبديد والتلاشي والاختفاء؟ أم أنه الطور الأقصى لنموذج الغراب الذي تجاوز بومة هيغل وحصان نيتشه وأفراس زينون وطفق أخيرًا يجري وراء أكثر الأشياء لمعانًا؟ هل من جواب يجعل هذا الأسئلة ممكنة؟ لا تَسأل الشاشة ولا تُسئل. فهي تضع السؤال وتحجبه. إن الشاشة هي أخيرة دائمًا، إنها كذلك لأنها ما يبقى بعد كل ما يقال. خراب الكلام. وهن الذات. لمعان الموضوع. ضوضاء السطوح. وهذا الخراب والوهن واللمعان والضوضاء هي الدوي الأخير لكينونة بلا وجهة ولا معنى.
في عالم فارغ. عالم ممحو بضعفه المموه. عالم ما زال يبحلق فيه دولوز ودريدا في أحذية فان كوخ ومبولة دومشامب. عالم ما زال جورجيو أغامبين يشيّده على المعسكر. عالم لا يستحق ولا يملك حتى إمكانية التسمية لشدة ابتعاده عن ذاته يستمد الفكر إهابه من أرومة مختلفة عن تلك التي كان يعمل تبعًا لها في الحقبة الوردية لعلاقة الذات بالموضوع. كيف يمكن لفيلسوف أن يقبض على عالم قرر الهروب من ذاته والعيش فوق ذاته أو ربما تحتها دون أن يترك أثرًا عن مكانه؟ هل يمكن تفكيك المفكك على طريقة دريدا؟ أو تأمل الهروبي والمطرود من ماهيته على طريقة هرمنيوطيقا ريكور؟. كيف نصف الذات على طريقة جوديت بتلر في عصر طوفان الموضوع؟ كيف نؤمن حوارًا عادلًا بين الذات والموضوع على طريقة جورج غادامر في عصر ذكاء الموضوع؟ كيف نضع جينالوجيا للايروس على شاكلة جورج باتاي في عصر فقدان وظيفة الجسد؟ هكذا على الفكر دائمًا أن يجيد اللعب مع كل حركات ومفارقات العالم، أو هكذا على الفكر دائمًا أن يسهم مع العالم في وصول الوهم إلى أقصى حالاته. عند هذه النقطة يباشر الفكر عمله الحاسم. أن يزيد: لا فهم العالم، بل وهمه. لا حقيقة العالم، بل لا يقينه الدائم. إذا كان العالم محتجبًا فلنكن أكثر احتجابًا منه، وإذا كان العالم سريعًا فلنكن أكثر سرعة منه، وإذا كان العالم سرابيًا فلنكن أكثر سرابية منه. أيها الفلاسفة المعاصرون: "ليكن فكرنا لا يقينيًا إلى الأبد". أيها الفلاسفة المحترمون: أن نفكر اليوم يعني أن لا نجد المعنى. أيها الكذب المنمق. أيها الجميل المزوًر. أيها الصهيل العقيم البذيء الدنيء. أيها السطوع الملفق. أيها البروز الخاوي. أيها السطح البراق. أيها العار المزركش. أيها النتوء الملون. أيها السقوط، أيها الوجود المتخم بالعدم. أيتها المرايا، أيتها الأشباح، يا معشر الظلال والأقنعة والأخيلة والسرابات، أيها الفريد العاطل عن المعنى. إن كل المجد والسلطان لك وحدك.





















المراجع والحواشي

1- هذا النص هو محاولة فلسفية شخصية لاستبناء إشكال فلسفي يشهد على الطور الأكثر تقدماً للعالم الراهن. نحن اليوم إزاء صعوبة غير مفهومة في احتمال أشكال وجودنا في العالم. في التساؤل حول أنفسنا. والتساؤل حول ماهية هذا العالم الغريب الذي نحيا فيه؟. لم يعد السؤال الأولاني للفكر هو سؤال الكينونة بما هي كذلك. رب ضرب من الأسئلة المريحة أخلاقياً، لكنها لا تحمل أي إضافة لفهم العالم الراهن. من نحن؟. من أنا؟. لأول مرة يمكن القول: إن الفلسفة باتت مضطرة للتفلسف على وجود لم يعد كما كان. وجود خرج عن طوره جملة وتفصيلا وارتدى بزة هووية جعلته غريبا حتى في عيون قاطنيه. إن هذا النص إذ يبني حدوسه الأصلية على تغير كهذا، أي على تغير الهوية الانطولوجية للعالم فهو مدعو لاستحداث واستنبات مسطحات تساير وتحايث الغياب والانمحاء الذي تجد البشرية نفسها ملقاة فيه. أي مصير انطولوجي ينتظر "إنسان الما بعدات" و"الما فوقات" والموتات المتلاحقة لكل شيء، تلك هي الأسئلة التي سيحاول هذا النص مجاراتها. أسئلة إنسية قررت أن تقطع مع المفهوم وتنحاز للمصور. أن تقطع مع المكتوب وتنحاز للمرئي. بشرية قررت الانحياز ذات مساء للشبحي والأثيري والنافل والفوري والسريع الزوال.
2- نيتشه، فريدريك. العلم الجذل. تر: سعاد حرب، دار المنتخب العربي، ط1، بيروت: 2001، ص: 11-12.
3- Turkle, sherry. Life on the Screen: Identity in the Age of the Internet. Simon & Schuster, New York: 1997, p: 10-13.
4- ليبوفيتسكي، جيل. شاشة العالم: ثقافة وسائل إعلام وسينما في عصر الحداثة الفائقة، تر: راوية صادق، المشروع القومي للترجمة، القاهرة: 2012، ص: 271.
5- يتعلق الأمر بالمطالعة الجادة التي قدمها الكاتب الفرنسي الشاب ستيفان فيال فيما يخص العلاقة بين الكينونة والشاشة. لكن اللافت بالفعل هو الحماس الشديد للرقميات الذي ميز هذه المطالعة لدرجة يصح معها القول: إن هذا الكتاب هو ضرب من المرافعة الحماسية للدفاع عن الشاشات وكل المنصات الرقمية التي تناسلت مع الثورة التقنية المعاصرة. الحدس الأساسي للكتاب جديد وطريف حيث يجري التعامل مع الشاشات وكل الأنظمة الرقمية ككواشف للكينونة بأتم معنى الكلمة فالشاشة بالنسبة لفيال هي جهاز ظهور أو هي ما يسمح للنومين بالانكشاف والتحقق المرئي. لا فرق عند فيال بين المحراث البدائي والمحراث الزراعي. كما أنه لافرق بين المحرك البخاري والمحرك الرقمي فكل تقنية هي شكل خاص من أشكال ظهور العالم، فالعالم ثمرة علاقة خاصة مع تقنية يجد المرء نفسه مضطرًا لرؤية العالم من خلالها. وما الإنسان في نهاية المطاف، سوى حساسية خاصة تتكون من خلال لقائها بتقنية ما في عصر ما. باختصار لكل حقبة شكل تقني ترى الوجود من خلاله وإذا كان المحراث قد غير علاقتنا بالأرض وإذا كان الهاتف قد غير علاقتنا بالغير فإن عصر الديجتال قد غير علاقتنا بالعالم إلى غير رجعة ضرب طريف من القبلية التقنية المتحمسة التي – ويالها من مفارقة- لا تنظر إلى التقنية كأشياء، بل على العكس تمامًا، تنظر إلى البشرية برمتها كأشياء للتقنية. جبرية أو لنقل: مثالية تقنية عجولة يراد منها تسجيل موقف حماسي كجزء لا يتجزأ من الأطوار الكوميدية للفكر الراهن. للمزيد من الإطلاع، انظر:
Vial, stephane. Being and the Screen: How the Digital Changes Perception. Trans by: Patsy Baudoin, Mit Press, London: 2019, p: 150-180.
6- يتعلق الأمر بالدراسة التطبيقية المميزة التي قامت بها السيدة جوليانا برونو مقتفيةً أثر جيل دولوز عبر تثوير فكرة "الطية" الدولوزية. تقول السيدة برونو: ثمة ميل لتشويه ثقافة السطح. وتقول أيضًا: علينا إعادة التفكير في السطح كنقطة اتصال. نمط جميل من الكتابة حيث يبدو الفكر وكأنه يلاحق عالما تحول إلى مرايا وأضواء في كل مكان ابتداءًا بالجسد ومرورًا بالموضة والسينما والمتاحف وفنون الإسقاط الضوئي. للمزيد من الإطلاع، انظر:
Bruno, jiuliana. Surface: Matters of Aesthetics, Materiality, and Media, University of Chicago Press, London: 2014, p: 82-105.
7- Baudrillard, jean. Ecstasy of communication, in: The Anti-Aesthetic: Essays on Postmodern Culture, editor: Hal foster, The New Press: 1983, p: 150.
8- Baudrillard, jean. Art and artefact, Trans by: Nicholas zurbrugg, sage, London: 1997. P: 12.
9- تؤكد الكاتبة الفرنسية الشابة إلزا غودار أن الشاشات المعاصرة، لاسيما شاشات الهواتف الذكية قد مهدت الطريق نحو تغييرات جوهرية في بنية وشكل الهوية المعاصرة. وإذا كانت مرحلة المرآة قد ساعدت في ظهور الذات الواقعية فإن الشاشة قد أسهمت في ولادة الذات الافتراضية التي لا يمكن الإمساك بها إلا من الخارج. للمزيد من الإطلاع، انظر:
غودار، إلزا. أنا أوسيلفي إذن أنا موجود. تحولات الأنا في العصر الافتراضي. تر: سعيد بنكراد، المركز الثقافي للكتاب، بيروت: 2019، ص: 88.
10- بودريار، جان: التبادل المستحيل. تر: جلال بدلة، ط1، معابر للنشر والتوزيع، دمشق: 2013، ص: 19.
11- المرجع نفسه، ص: 28-29.
12- يؤكد الكاتب الفرنسي المعاصر ميشال سير أن تغيرًا راديكاليًا قد أصاب الذات الفلسفية الكلاسيكية. يقول: لقد تغيرت الذات المفكرة فالخلايا العصبية التي يتم تفعيلها في الضوء الأبيض للرقبة المقطوعة – يقصد مواليد عصر الشاشات – تختلف عن تلك الخلايا العصبية التي تستدعيها القراءة والكتابة. ويقول أيضًا: إنني أتهم الفلاسفة ولا أستثني نفسي بكونهم فشلوا ولم يستطيعوا رؤية اللحظة المعاصرة وهي تأتي. ويمنّي سير نفسه بالعودة إلى عمر الثامنة عشر فكل شيء لابد من إعادة بنائه. للمزيد من الإطلاع، انظر:
سار، ميشال. الإصبع الصغيرة، تر: عبد الرحمن بو علي. كتاب الدوحة، وزارة الثقافة والفنون والتراث، دولة قطر: 2014، ص: 21-24.
13- تعليقاً على الفيلم الشهير " العملاق " للمخرج ميكائيل كلير. الفيلم الذي أجري عبر صور سجلتها كاميرات المراقبة الآلية في المطارات والأسواق والطرقات بلا أي ذات تقع خلفها يؤكد الكاتب المرموق بول فيريليو أن هذا الإقصاء للرجل الواقف وراء الكاميرا هو فناء كامل لكل ذات بصرية والذي يحول حياتنا إلى شاشة شاملة ودائمة. من هنا يؤكد فيريليو أننا نشهد بزوغ آلية استبدال وليس آلية ترميز كما في الفنون التقليدية، أي بزوغ أقصى درجات التلاعب في فن الإيهام بالحركة. للمزيد من الاطلاع، انظر:
فيريليو، بول. ماكينة الإبصار. تر: حسان عباس، دار المدى، دمشق: 2001، ص: 115-116.
14- يمكن القول: إن الجزء الأسوأ من لعبة الشاشة اليوم، هو الإقحام القسري، أو هذا التواطؤ الكوميدي للجمهور الذي يتم ابتزازه للمشاركة في صياغة اللعبة الفرجوية برمتها. في وقت سابق من هذا العام وقع أكثر من 1،6 مليون مشاهد على عريضة تطالب بإعادة كتابة الموسم الأخير من مسلسل صراع العروش لأنهم لم يكونوا راضين عنه. ومع أن الهدف المعلن كان إضفاء طابع تفاعلي على تلقي، بل وإنتاج هذه البضاعة البصرية، لكن مالم ينتبه إليه أحد أن هذه العملية كانت تدخر خلفها ضربًا من استعباد الضحايا. ضحايا الاستهلاك البصري المزمن. لكن المفارقة التهكمية تكمن في أن الضحايا مستعدون تمامًا لهذا، بل إنهم مازالوا إلى ساعة كتابة النص يطالبون بتغييرات يعرفون أنها لن تحدث أبدًا. هذي هي غواية الشاشة بالذات والاسم. جمهور يسير نحو الضوء بلا معنى ولا طائل. حشود لم تعد تجيد من أمرها سوى التصفيق والتماهي والتلاشي والموت في مصدر فنائها المبهر.
15- غودار، إلزا. أنا أوسيلفي إذن أنا موجود. تحولات الأنا في العصر الافتراضي. مرجع مذكور، ص: 78.
16- هذا ما يذهب إليه الفيلسوف الرومانسي الألماني هانز جورج غادامر على سبيل المثال، حيث يعتقد أن ماهية الصورة هي الأصل ذاته، إنها حركة اللعب والتجلي وقوة الانكشاف بما هي قدرة على الفيض والمجيء إلى الوجود، فالفنان مثلًا حين يبدع عملًا تصويريًا إنما يستمد حقيقة عمله من الأصل ذاته، لذلك يجوز الحديث هنا عن محاكاة، لكنها ليست من قبيل التقليد، بل هي محاكاة تتم انطلاقًا من حقيقة الصورة بوصفها إمكانًا لأصلها نفسه، يقول غادامير: إن مضمون الصورة ذاتها يعرف انطولوجيًا بأنه فيض للأصل. ويقول أيضًا: الأصل لا يصير أصلًا إلا من خلال الصورة فقط . للمزيد من الاطلاع على هذه المقاربة = الرومانسية، انظر: غادامير، هانز جورج. الحقيقة والمنهج، تر:حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار أويا، ط1،طرابلس:2007، ص:219-221.
17- يتعلق الأمر بتكهنات ومطالعات المنظر ومدير القطاع الهندسي في غوغل وعالم المستقبليات الأمريكي الشهير ريموند كورزويل. إذ يعتقد كورزويل أنه في العقود القادمة ، ستستخدم ترقية جذرية للأنظمة الجسدية والعقلية لجسمنا ، والتي يجري تنفيذها بالفعل، وهي نوع من الروبوتات النانوية لتهجين واستبدال أعضائنا في نهاية المطاف. ويرى كورزويل أنه بحلول عام 2030، ستكون الهندسة العكسية للدماغ البشري قد اكتملت، وهو ما سيدخلنا في طور الإنسانية 2.0 حيث سيتم دمج الذكاء غير البيولوجي مع أدمغتنا البيولوجية. انظر على سبيل المثال:
Kurzweil, ray. The Singularity Is Near: When Humans Transcend Biology. Penguin Books, London: 2005, p: 166 @beyond.
انظر أيضًا:
Kurzweil, ray. Human Body Version 2.0. February 16, 2003. Kurzweilai.net/human-body-version-20.
18- الغريب حقًا في عالمنا الراهن أن كل شيء سيتم ترتيبه وتوضيبه لكي يناسب مبضع الشاشة بما في ذلك آلام ومآسي الشعوب. الخضوع الكامل للشاشة. لإخصاء الشاشة. لغضب الشاشة. الشاشة كـ أوديب رقمي. تخلع الشاشة المعنى على من تريد وتمنعه على من تريد. لا صورة على الشاشة يعني لا حقيقة. أو بلغة أخرى: وجود الشيء يعني أن يكون معروضًا على الشاشة. يمكن القول: إن حنق الشاشات يتجلى في كونها لا تعمل كـ سجل لتصنيف الأشياء والأحداث، بل كجهاز رؤيا. لقد أصبحت الشاشة شكلًا من أشكال البرهان. هنا يتم قلب الأدوار، فبدلًا من رصد ظهور العالم عبر الشاشات تصبح الشاشات شكلًا لقياس الطريقة التي يجب أن يظهر من خلالها العالم. هنا يصبح المحو والإنفاق مضاعفًا وتصبح الشاشة جهازًا لإنتاج الحقيقة. إنها تصبح حرفيًا، تقييمًا للعالم وطريقة لتوزيع المعنى/اللامعنى عليه. تشكل المآساة السورية مثالًا فاقعًا على ماذهبنا إليه إذ يكفي غياب الملف السوري عن الظهور المرئي على الشاشات لتوليد الانطباع بغيابه الواقعي ذاته. فضيحة مضاعفة من العيار الكارثي حيث يتم نسيان الواقع ونسيان آلام البشر وجعل شعب كامل يلعب دور الأضحية الجماعية لتأبيد أنظمة متآكلة وشائخة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا تعلن استهداف خطوط توصيل الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا |


.. أنصار الله: دفاعاتنا الجوية أسقطت طائرة مسيرة أمريكية بأجواء




.. ??تعرف على خريطة الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية


.. حزب الله يعلن تنفيذه 4 هجمات ضد مواقع إسرائيلية قبالة الحدود




.. وزير الدفاع الأميركي يقول إن على إيران أن تشكك بفعالية أنظمة