الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يكذبون، وفوق كذبهم تبني الطيور أعشاشها!

مهند عجلاني

2020 / 8 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في هذا المقال أشرح فيه هذه العبارة الفلسفية التي جعلتها عنوانا لمقالي. كتبتها سابقا بشكل مستقل، ثم ما لبثت حتى شرحتها بـ4 صفحات. احتجت إلى كتابة هذه العبارة الفلسفية حتى أشرح المقال بهذا الشكل، بقدر ما احتجت هذا الشرح المطول حتى أرجع إلى هذه العبارة.

الواقع الإجتماعي والنُظم الإجتماعية أصبحت مبنية على أفكار وأسس غير حقيقية أو جزء منها على الأقل، مصبوغة بألوان مختلطة من الصدق والكذب، الغش والحقيقة. وقد يختلف حجم الجزء من نظام إلى آخر، فتكون جزئية الاحتيال أكبر من الصدق، أو قد تكون أيضا جزئية الصدق أكبر والثانية أقل. والمقصود بالنظم الإجتماعية فهو أي نظام يضم قوانين وأسس يقوم عليها النظام ويلزم أتباعه باتباعها. فهو قد يكون بيتا يضم أفراد العائلة، أو قد يكون الدولة ممثلة بمؤسساتها وقوانينها، أو الأيديولوجيات بشكل عام.

ولكن أصبح تغيير هذه الأرضية، أي تلك النظم الإجتماعية التي بُنيت عليها القوانين والمؤسسات، صعبا بسبب البنية التي ترسخت في الأذهان من ناحية، وبسبب صلابة جذورها في أعماق الواقع المعاش من ناحية أخرى. بل قد يؤدي تغييرها إلى تفككها مع تفكك الفرد الذي يعيش تحتها وانهيارها مع القوانين والمؤسسات التي تحرك وتُسيّر ذلك النظام الإجتماعي.

وهذا ما تشهد له العلاقات عموما، على مستوى الدول والأفراد، حيث صار الكذب والنفاق شرطا لا بد منه حتى يُكتب لها (العلاقات) النجاح في الاستمرارية. يقول جورج كارلين: ”لو اتخذنا الصدق كمبدأ أساسي في الحياة السياسية والاجتماعية، لانهار النظام كله“. إن هذا قانونا عاما لدى البشر، وقد ضرب بجذوره في التاريخ البشري منذ التداوين الأولى له تقريبا. غير أن ذلك لا يمكن ملاحظته لدى مجتمعات الحيوانات بسبب أنها تعيش على الفطرة الحيوانية لأنها تتصرف وفقا لطبيعتها الداخلية المحضة التي تنعكس على سلوكها الخارجي. فلا تعرف معانٍ مثل الكذب والنفاق ما الذي يمكن أن تكون. أما نحن فإننا نَصِمُ الشخص بأنه كاذب عندما يظهر سلوكا بكلامه أو بعمله ويكون خلافا للحقيقة الداخلية المتمثلة به (الإنسان)، أو الحقيقة الخارجية المتمثلة بالواقع.

رجوعا عند الحيوانات قليلا، فإن الحيوانات تدفعها الغريزة المحضة لتأدية احتياجاتها بغض النظر عن أي قوننة وتنظيم لسلوكياتها بسبب أنها لا تملك العقل. وهذه هي مهمة العقل، خلق القوانين والتشريعات لتقولب السلوك الإنساني وتضبط طبيعته العشوائية ومن ثم لتكون عاملا أوليا في نشوء الحضارات. القوانين تسير ضد الطبيعة البشرية عموما بحكم أنها منبثقة عن العقل لضرورة التعايش الغريزي للإنسان. فالعقل يفرض وجود القوانين لعدم إمكانية أن يعيش البشر كالحيوانات. وفي حال عاش البشر كالحيوانات فإن ذلك سيؤدي لفناء جماعات معينة منهم قابعة في نفس المجتمع، أو أن ذلك يستحيل أصلا بحكم التطور البيولوجي والاجتماعي المحكوم بالصعود والإرتقاء بالنسبة للإنسان، والذي يحكم الطبيعة البشرية ومسيرة حياتها. ومن هنا، فإن القوانين هي التي مهدت الطريق الأول لنشوء الحضارات.

ولكن السؤال، هل القوانين إذن هي ضد الحقيقة الداخلية للإنسان وأنها بمعنى من المعاني، قوانين يتلازم الكذب مع وجودها لأنها لا تعبر عن الحقيقة؟ فالكذب هو السلوك الصادر عن الإنسان الذي يخالف به وجه الحقائق. الجواب برأيي هو نعم. لأنه لا يمكن أن نعيش على الفطرة الحيوانية بسبب الضرورة العقلية التي يتلازم مع وجودها القوانين حتما وبشكل لا مفر منه. ومن هنا، فإن الكذب أصبح شرطا لوجود الإنسان برمّته ولعلاقاته، بسبب أنه ضرورة يحقق به غريزة البقاء لديه.

أما ما يتعلق بأخلاقية هذا الأمر، فهل هو أخلاقي؟ الجواب لا ونعم. لا، من ناحية أنه يظهر خلاف الحقيقة، وكل ما يسعى لقمع الحقيقة واخفائها فلن يزيد الأمر إلا سوءا ولن يضفي على نفسه إلا طابع الدجل والمثالية الزائفة. ونعم، من حيث أنه قد يدفع خرابا مُحْدِقا حول العلاقات والحيوات (الإنسانية بالذات) ويؤمّن سلامتها من الانفكاك. وهذا ما يُدعى "بالكذب الصالح"، ومن ثم هذا هو الطريق الذي يؤدي إلى نشوء الحضارة.

يُفهم من هذا القول في نهاية المطاف، أن الكذب هو أحد لوازم نشوء الحضارة وآلياتها للصعود، من باب أن القوانين تُخْضِع السلوك الإنساني لقوالبها وهي بذلك تخالفها في حقيقتها ولا تعبر عن ماهيتها حتى لا ينحو منحى عشوائي، حيواني وأعمى، ولا يمكن أصلا أن ينحو السلوك الإنساني إلا على هذه الشاكلة لأنه محكوم بالتطور الطبيعي. والقوانين بدورها هي من لوازم العقل التي لا تنفك عن وجوده. فأينما وُجِد العقل، وُجِدت القوانين، وأينما وُجِدت القوانين، وُجِدت الحضارة.

أما عن ماهية الحل حول هذه الـ"لا" والـ"نعم"، فإنه يكون بتنظيم السلوك وقوننته وفقا لقانون الطبيعة البشرية، وليس وفقا لقانون الأيديولوجيات كي نتفادى الوقوع في الكذب أكثر وكي لا تتسع هوته بشكل يؤدي إلى القمع الممنهج عبر الأيديولوجيات إلى أن تنفجر وتنتكس طبيعته من ناحية، وبشكل يؤمّن البيئة الخصبة لخلق القوانين التي من شأنها إنشاء الحضارة من ناحية أخرى.

أما الطيور فإنها تعني الأفراد الذين يستمدون هويتهم من تلك النظم، والذين بنوا وأسسو ثقافتهم ورؤيتهم وفقا لما تمليه طبيعة تلك النظم عليهم في محيطهم وبيئتهم. فهم لا يستطيعون التغيير من ناحيتين، من ناحية أنهم ضعفاء لا حيلة لهم حتى لو علموا بالطبيعة الهيكلية للبنية الثقافية والمعرفية التي يقبعون تحتها أو يعيشون تحت ظلها، ومن ناحية أنهم عاجزون عن رؤية الطبيعة الحقيقية للبنية المعرفية التي تشربوها واستمدوا هويتهم منها، أي أن هناك حجابا خلقه ذلك النظام يمنعهم عن الرؤية الصحيحة أو رؤية الحقيقة.

وهذا من شأنه أن يخلق واقعا إفتراضيا غير حقيقي يقبع تحته الفرد، يجعله يتعامل مع المعطيات بطريقة عكسية، أي أنه من الممكن أن يقلب الحقيقة رأسا على عقب، أو يغلف الكذبة بغلاف الحقيقة ثم يصدقها ويجعل من دونه من الناس يصدقونها أيضا، وهكذا تستمر إلى أن تخلق لها جذورا عميقة في الواقع. قد يكون ذلك الشخص على دراية بذلك ولكنه يستمر لأنه بالتأكيد ليس من مصلحته تغيير هذا الكم الكبير من المعطيات، وفي الأغلب ليس له دراية بذلك كما هو الحال بالفعل، فهو بحكم الشخص الذي يسير ولا يرى إلا إتجاها واحدا يخطو نحوه، إما لعدم تمكنه من رؤية الإتجاهات الأخرى بسبب الحجاب الذي خلقه ذلك النظام الإجتماعي أو لضعفه على التغيير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتفاقية الدفاع المشترك.. واشنطن تشترط على السعودية التطبيع م


.. تصعيد كبير بين حزب الله وإسرائيل بعد قصف متبادل | #غرفة_الأخ




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - الحكومة الإسرائيلية تغلق مكتب الجز


.. وقفة داعمة لغزة في محافظة بنزرت التونسية




.. مسيرات في شوارع مونتريال تؤيد داعمي غزة في أمريكا