الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا تأخّر التنويرُ في بلادنا؟

فاطمة ناعوت

2020 / 8 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


وقفَ رجلٌ ذاتَ نهار يحملُ في يده مصباحًا، لكي يُنير الطريقَ لمَن ضلّوا، وفي اليد الأخرى يحملُ مرآةً. ثم بدأ يُوجِّه صفحةَ المرآة العاكسة صوبَ وجوه الأدعياء المُضلّين الذين يخدعون الناسَ ويوغورن قلوبَهم بالبغضاء والشرور. كان الرجلُ يعرف أن المرآة سوف تعكسُ قبحَ أرواحِهم إلى عيونهم، فإن شاهدوا دمامتَهم، انفجروا، أو اِرعووا عن غِيّهم. هذا الرجلُ النبيلُ يأتي في كلّ عصرٍ. موجودٌ في كلّ بقعة من بقاع الدنيا. تمنحُه السماءُ لأهل الأرض في كلّ حين؛ حتى يُنقذَ البسطاءَ من تغوُّل الزائفين الذين يستغلّون فقرَ الناس المعرفي وحوائجَهم، لكي يقتاتوا على جهلهم ويرتزقوا من غفلتهم.
ما شكلُ هذا الرجل، كيف يتكلم وما لسانُه؟ له عديدُ الأشكال، وله ألسنٌ كثيرة، وملامحُ مختلفة، ويرتدي في كلّ زمان ملابسَ تشبه ذلك الزمان، وفي كل أرض له ثيابٌ تناسبُ تلك الأرض.
ما اسم ذاك الرجل؟ له أسماءٌ لا حصرَ لها. فتارةً اسمه الحلاج، وتارةً اسمه ڤولتير، وتارةً اسمه نصر حامد أبو زيد، وتارةً اسمه الكِندي، وتارةً اسمه بروتاجوراس، وتارةً اسمه ابن عربي، وتارةً اسمه محمد عبده، وتارةً اسمه جمال الدين الأفغاني، وتارةً اسمه فرنسيس بيكون، وتارة اسمه أبو بكر الرازي، وتارةً اسمه جبران، وتارة اسمه فرج فودة، وتارةً اسمه برتراند راسل، وتارة اسمه الوليد بن رشد، وتارةً اسمه مارتن لوثر، وتارة اسمه الخوارزمي، وتارةً اسمه طه حسين، وتارةً اسمه السهروردي، وتارةً اسمه جلال الدين الرومي، وتارةً اسمه سبينوزا، وتارة اسمه أبو العلاء المعرّي، وتارةً اسمه شمس الدين التبريزي، وتارةً اسمه چون لوك، وتارة اسمه ابن سينا، وتارة اسمه عبد الرحمن الكواكبي، وتارةً اسمه كوبرنيكوس، وتارةً اسمه السهروردي، وتارةً اسمه ديكارت، وتارةً اسمه الطهطاوي، وتارة اسمه ابن الفارض، وغيرها كثيرُ وكثيرُ الأسماء.
هذا الرجلُ خصيمُ الجهل والبلادة والعنف والاتّجار بعقول الناس، وخصيمُ الارتزاق باسم السماء. لهذا اختصمَه كلُّ زائفٍ، وكرهه كلُّ جهول أو مُضلِّل، ومقته كلُّ متاجر باسم الله، يرتزق على الغافلين. اجتمعت عُصبةُ الخصوم في كهفهم المعتم يتآمرون ضده ويحيكون له المكائد، بوصفه العدوَّ الذميم والخطرَ المقيم.
هو لم يقاتلهم، فهو لا يعرفُ القتال. ولم يُشهرُ في وجوههم سيفًا؛ فهو لا يحمل سيفًا ولا خنجرًا. كلُّ ما لديه عقلٌ نيّرٌ ومصباحٌ غزيرُ الضياء؛ شَهَرَه أمام عيونِهم. فآلمتهم عيونُهم، وأوجعتهم عقولُهم. ذاك أن "عقلَ المتعصِّب مثل بؤبؤ العين، كلما زاد الضوءُ المسلّط عليه، زاد انكماشُه"؛ كما قال أوليفر هولمز.
أعشى عيونَهم وهجُ المصباح، فوضعوا أكفَّهم على مآقيهم ليحجبوا الضوء. وما أن رفعوا الأكفَّ عن العيون حتى وجدوا صفحةَ المرآة العاكسة في يد الرجل مصوبةً نحو أبصارهم. شاهدوا قبحَهم فجفلوا، وارتعبوا من افتضاح أمرهم أمام الناس، وخافوا من بوار تجارتهم. هاجوا وماجوا وضجّوا وصخبوا وأرغوا وأزبدوا. هددوا وتوعدوا، ثم أشهروا السيوفَ.
ولمّا كان الرجلُ ذو البصر والبصيرة، أعزلَ، كما يليق بصاحب عقل، فما كان ليحتاجَ أكثرَ من طعنة صغيرة في القلب؛ حتى يسقطَ مضرجًا في دمائه ليُريحَ ويستريح. لكن الارتزاقيين الغلاظَ كرهوا أن يكون موتُه يسْرًا. لم يرضوا بغير أن يذيقوه من العذاب، بقدر ما أذاقهم من التنوير. فراحوا يُمزّقون ملابسَه ويجلدونه بالسياط، وراحوا يضربونه فوق رأسه بالكتب التي كتبها حتى فقد البصر، وراحوا يُجبرونه على تعاطي السُّم الزُعاف، وراحوا يصلبونه على عمود خشبي، وراحوا يُقطّعون أطرافَه ورأسه، وراحوا يحرقونه حيًّا، وراحوا يَسملون عينيه، وراحوا يضربونه بالرصاص، وراحوا يشنقونه، وراحوا ينشرونه بالمناشير. استخدموا من كلِّ عصر ما أتاحت لهم صنوفُ العذاب والويل والتنكيل والإهانة. وكان لسانُ الرجلُ يلهجُ بآخر ما جادت به الكلماتُ قبل قطع يديه وورجليه ورأسه، منشدًا: (إنّي لأكتمُ من علمي جواهرَه/ كي لا يرى العلمُ ذي جهلٍ فيَفتَتِنا/ يا رُبَّ جوهرِ علمٍ لو أبوحُ به/ لَقيلَ لي: أنتَ ممَن يعبدُ الوثنَا/ ولاستحلًّ رجالٌ مُسلِمون دمي/ يرون أقبحَ ما يأتونه حسنًا.)
جميعُنا قتلنا ذلك الرجلَ حاملَ المشعل والمرآة، لأنه أشهرَ في وجوهنا مرآته ونحن لا نريد أن نرى قبحَنا ودمامتنا. قتلناه وهو يردد بلسان الأفغاني: (ملعونٌ في دين الرحمن: مَن يخنقُ فكرًا، مَن يرفعُ سوطًا، مَن يُسكِت رأيًا، مَن يبني سجنًا، مَن يرفعُ راياتِ الطغيانْ. ملعونٌ في كلِّ الأديانْ: مَن يهدرُ حقَّ الإنسانْ، حتى لو صلَّى أو زكّى وعاش العمرَ مع القرآنْ.)
“الدينُ لله، والوطنُ لمن يُنير أبناءَ الوطن.”








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - يا سيّدتي، متى يبزغ عصر التنوير
مدحت محمد بسلاما ( 2020 / 8 / 16 - 10:23 )
لن نرى أي تنوير قبل سقوط مؤسسة الظلام والإرهاب والتكفير التي هي الأزهر وما تمثله من مؤسسات . لقد حان الوقت لقول كلمة الحق وشكرا


2 - صناعة التأخر
ميشيل نجيب ( 2020 / 8 / 16 - 10:39 )
الأستاذة/ فاطمة ناعوت
أتفق مع مقالك الذى يؤكد على أن أسباب تأخر التنوير فى بلادنا تتلخص فى الأشخاص الذين يعيقون التنوير سواء من بسطاء يقتلون فرج فودة أو من وراءهم من رجال الدين الذين يرفضون التنوير ويفضلون تخلف الكتب المقدسة فى نظرهم وينشرون ثقافة التخلف، كذلك يوجد أدعياء المثقفين الذين لا يملكون من الثقافة إلا قشورها، والمسئولين فى المؤسسات العلمية والتعليمية والبحوث وكل المؤسسات المسئولة عن توفير ثقافة التنوير لكنهم يمنعوها لتسود ثقافة التخلف والتراث الجاهلى.
لكن إجابة سؤالك يكمن فى سؤال آخر وهو: من يصنع التنوير فى بلادنا؟ إذا كان الجميع يتبع النظام السياسى والدينى فى كل نواحى حياته ولا يمكنه أن يتحرك بدون رضى النظام السياسى والدينى عنه، فكيف إذن ننتظر تنوير غالبية أفراد المجتمع تم أستنساخهم إلى تابعين ينتظرون من يجود عليهم بحياة إنسانية بعيدة عن حياة العبيد التى يعيشها المصريين خاصة؟
شكراً


3 - المشكله
على سالم ( 2020 / 8 / 17 - 05:09 )
من المؤكد ان من اسباب التأخير الهامه فى التنوير فى بلادنا البائسه الكالحه المنتهكه الكرامه المتخلفه هو وجود طبقه مثقفه فاسده ومنافقه تجيد التطبيل والتهليل والرقص لزعماء فاسدين ولصوص وساديين وقتله مجرمين وهذا لشئ فى نفس يعقوب

اخر الافلام

.. بالحبر الجديد | مسعود بزشكيان رئيساً للجمهورية الإسلامية الإ


.. جون مسيحة: مفيش حاجة اسمها إسلاموفوبيا.. هي كلمة من اختراع ا




.. كل يوم - اللواء قشقوش :- الفكر المذهبي الحوثي إختلف 180 درج


.. الاحتلال يمنع مئات الفلسطينيين من إقامة صلاة الجمعة في المسج




.. جون مسيحة: -جماعات الإسلام السياسي شغالة حرائق في الأحياء ال