الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التوجهات النظرية والمنهجيّة في علم الاجتماع الطبي وسوسيولوجيا الأوبئة

محمد الهادي حاجي
باحث متحصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع

(Hajy Mohamed Hedi)

2020 / 8 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


التوجهات النظرية والمنهجيّة في علم الاجتماع الطبي
وسوسيولوجيا الأوبئة
إن الاهتمام بموضوع الأوبئة لم يعد يطرح من وجهة نظر علمية تخصصية من منظور طبي بيولوجي وعضوي إذ لم يعد الطب هو المجال الوحيد لتشخيص الأمراض والأعراض والوقاية والعلاج ويمكن القول أنه ومنذ خمسينيات القرن الماضي تقدمت الدراسات السوسيولوجية في مجال الصحة والمرض وأصبح لدينا ما يسمى بعلم الاجتماع الطبي ويركز على طبيعة العلاقة بين المجتمع أو الحياة الاجتماعية بالأمراض المزمنة ويعتبر بعض الدارسين (أدوار لمر) أن المجتمع هو مصدر هذه الامراض التي تترك تأثيرات على البناء الاجتماعي.
وقد حاول هذا التخصص دراسة الجذور العميقة بالميدان الطبي وانعكاساته على المجتمع والبناء الاجتماعي والأسباب الاجتماعية التي تؤدي إلى الصحة والحيوية وتحسين أمل الحياة عند الولادة وهذه المحاور كلها تدور حول طبيعة العلاقة بين الصحة والمجتمع وكذلك علاقة المؤسسة الطبية بالمجتمع الذي توجد فيه فهي تؤثر وتتأثر بمحيطها الاجتماعي وتتفاعل معه بل ويرى أحد الباحثين (جونسن) أن هذا التخصص العلمي يهتم بالجذور الصحية للصحة والمرض وتأثيرهما على المجتمع، وهو ما يمكن القول بأن هناك دلالات اجتماعية للصحة وهناك جذور اجتماعية للأمراض وهناك أيضا انعكاس للمرض على البناء الاجتماعي. من هنا يمكن القول بأن المجتمع الذي يتمتع أفراده بصحة ذات جودة عالية هو أقدر على صياغة نموذج تنموي اجتماعي أقوى والعكس صحيح.
ويعود الانتقال من تشخيص المرض بيولوجيا إلى مقاربته سوسيولوجيا إلى عالم الاجتماع الوظيفي تالكوت بارسنز الذي يعتبر من رواد سوسيولوجيا الصحة ولعل كتابه "النظام الاجتماعي " سنة 1950الذي تناول فيه المرض كظاهرة اجتماعية أبرز الأمثلة على ذلك.
ويمكن الإشارة في هذا السياق أن دراسة المرض والصحة كظواهر اجتماعية في السيوسيولوجيا الأوروبية قد طرح مع ايميل دوركايم حين اعتبر أن المرض لا يكون كذلك لأن المجتمع اعترف به وهذه الحتمية الاجتماعية لا تجعل من المرض طبيعيا أو بيولوجيا وانما مقياسه الحقيقي هو اجتماعي. وقد كانت له مساهمات في مجال تأثير المرض والأوبئة على العلاقات و البنى الاجتماعية فمن خلال حديثه عن التضامن وعلاقته بموضوع الانتحار بين أنه كلما كان الأفراد أكثر اندماجا إلا وتقلّص ميلهم للانتحار.هذه الظاهرة المؤثرة في الضمير المجتمعي وينتهي أثرها إلى تغيرات جذرية تفقد المجتمع توازناته على المستوى القيمي والنفسي الجماعي أو كما يسميه دوركايم بلأنوميا. ويمكن اضافة في هذا السياق ما قام به مارسال موس في دراساته حول وحدة المجتمعات وتضامنها وهذا التماسك الاجتماعي الذي يقوي ويضعف عند قياس درجته عن طريق "اللحظات التي تختفي فيها المخاوف، الرحيل في أوقات الحرب الرحيل الجماعي والذعر خلال الكوارث والأوبئة كل هذه أصناف من نفس الحقيقة، وفي الغالب تظهر تأثيراتها على الجماعات الفرعيّة التي تؤدّي إلى تفكيكها أو اضمحلالها". وقد بدأ التركيز على نفس الفكرة واعتبر مواضيع الصحة والمرض ظاهرة اجتماعية لها أبعادها الثقافية والرمزية في طرق ارجاعها إلى نسق القيم والمعايير والتصورات التي أنتجتها في كل مجتمع. ضمن سياقاتها الاجتماعية والتاريخية كما بينه ماكس فيبر في عمله التاريخ والسوسيولوجيا من خلال مقارنة نفس الأحداث خلال حقبات تاريخية متعدّدة.
وعلى هذا الأساس اهتم علماء الاجتماع بدراسة القضايا ذات العلاقة بالصحة والمرض فنجد عالم الاجتماع الألماني "أولريخ بيك" في كتابه "مجتمع المخاطرة" والذي نبّه فيه البشريّة إلى حدوث مخاطر ناتجة عن سوء ممارسات تقوم بها بعض الدول الكبرى الصناعية مثل التلوث والانتشار النووي والفيروسات وهي تهديدات بإمكانها الفتك بحياة البشرية، وبيّن أنّ الأخطار القادمة تتّسم بنفس خاصيّات الحرب المدمّرة حيث تصيب الأغنياء والفقراء وتصيب جميع الدول مهما كانت غنية أو فقيرة.
ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى أعمال كلودين هيزليتش السوسيولوجية حول المرض والصحة وارتباط الظواهر الاجتاعية بالجسد وهو ما يعطي للمرض بعدا اجتماعيا داخل كل مجتمع حيث أن العلاقة بين النظام الاجتماعي والنظام البيولوجي هي خاصيّة المجتمع الإنساني، وليست المجتمعات "البدائية" وحدها من ترجع المرض والجسد إلى ظواهر ثقافية واجتماعية بل أيضا المجتمعات الغربيّة الحديثة يبني الافراد داخلها المرض شكل اجتماعي من خلال إعطاء أبعاد اجتماعية لظواهر بيولوجية كطقوس الموت والمرض والصحة والتي تظهر بشكل موضوعي وبيولوجي في المجال الطبي، فظواهر مثل الشيخوخة والموت تختزل في عمقها دلالات اجتماعية وتمثلات وثقافة تفسرها وتحدّدها. وهو ما يمكننا القول بان هذا البعد الاجتماعي والرمزي داخل المجتمع للمرض يقوم على بنية المعايير والتصورات والعلاقة بين المرض والموت. ممّا يعطي المشروعية كاملة حول دراسة المرض كظاهرة اجتماعية تتوفر على نفس شروط الظواهر الاجتماعية الأخرى، وتختلف حسب السياقات التاريخيّة المختلفة. وهذه الخصوصية لا يمكن فصلها عن ما هو اجتماعي وثقافي.
ففي المجتمع نلاحظ تأثر المنظومة القيمية بفترات انتشار الأوبئة والأمراض حيث يتشبث الفرد بقيمه التي تحصّنه وتوجّه سلوكاته وأحيانا يزداد الاقبال على النديّن وتصاعد نسبة الاقبال وعليه بصفة ملحوظة من خلال ممارسة الشعائر الدينية ومن خلال الخطاب اليومي كما تشكل "الثقافة الشعبية" من تراث وأمثال شعبية وأدوية رعوانية وعادات غذائيّة...
كمصدر للنجاة من الأوبئة الخطيرة والأمراض التي استعصت على الأطباء والعلم فيجدها الفرد في مجتمعه ملاذا للخروج من قلقه وخوفه والبحث عن الخلاص والطمأنينة. ولكلّ مجتمع مخزونه الديني وثقافته وعاداته وقيمه وتقاليده ومن ذلك شخصيّته وهويّته وتاريخه. ومن هذا المنطلق فإن المرض هو في الأصل داخل ذهن المريض وليس خارجه. وهذا مدخل منهجي علمي لفهم الظاهرة الصحيّة من منظور سوسيولوجي.
وقضية علم الاجتماع في هذا الموضوع تبدو واضحة المعالم في إطار تأويل المجتمع للمرض، وهذا ليس تنازع مع التخصصّ العلمي الطّبي وإنّما يعني تجاوز الجسد والعوامل الجرثوميّة والبيولوجية إلى أبعاد أخرى اجتماعية وثقافية وايديولوجية ذات علاقة بالقيم والعلاقات ذات المعنى والرموز والمعتقدات داخل المجتمع خاصة وأنّ ما هو عضوي لا يمكن فصله عن الشروط الاجتماعية المنتجة للمرض وهو ما يجعل المرض يمثلا حقلا رمزيّا يعيد انتاج الظاهرة الاجتماعية وبناءها وفق نمط جديد تداخل فيه المتغيرات الاجتماعية والاقتصاديّة والسياسية والثقافيّة وإذا كان كل علم من العلوم يدرس جانبا من جوانب الانسان والطبيعة فإن علم الاجتماع يدرس المجتمع في حركيته وثباته ويدرس الفرد في علاقه بالمجتمع لذلك فانه أكثر شمولا من بقية العلوم الإنسانية والطبيعية إذ أن الاهتمام الأساسي ينكب على البناء الاجتماعي ومكوناته والعلاقات والتناقضات والتفاعلات المكونة له وما يطرا على هذا البناء من تطور وتغير وتفاعل في سياق ماهو اجتماعي. وهو ما يمكننا القول بان علم الاجتماع هو ذلك العلم الذي لا يهدأ لأنّه مستمر في رسم مشروعيته في هذا السياق إلى أننا لسنا بصدد الدفاع عن البعد الاجتماعي للمرض في علاقته بعلم الاجتماع ومقاربة ذلك نظريا، وإنما الأصل في طبيعة المرض واطاره الاجتماعي والثقافي هو الذي يفرض وجهة النظر السوسيولوجية وكما يقول غاستون باشلار بأن وجهة النظر هي التي تضع الموضوع فانه كذلك يمكن القول أن طبيعة الموضوع هي التي تعطي لنفسها مشروعية الدراسة.
فهذا الموضوع هو حقل خصب للدراسات السوسيولوجية من خلال الاهتمام بأشكال التغيرات المتعددة الجوانب للمرض ومشاكله. والعوامل أو المتغيرات المرتبطة بالطبقة الاجتماعية والعمر والنوع... وتلعب الأبعاد الاجتماعية الدور المهم في انتشار الأوبئة في عديد المجتمعات من خلال الظروف الاجتماعية كالفقر والكثافة السكانية والبطالة والسّكن والنظام الغذائي وامكانيات الصحة. وهو ما جعل هيرزليتش ترفض الحديث عن مفهوم المرض بصفة الفرد وإنما وجب أن يتم بصيغة الجمع. ولأنّ الفرد في النهاية يتمثّل المرض انطلاقا من مجمعه مما يمكننا القول بأن الفاعل الاجتماعي له تجربته مع المرض في مجتمعه تعكسها تمثلاته لهذا المرض من خلال جملة المعتقدات والمعارف التي تؤسّس نظام يتمثل الواقع ويتخذ عدّة أشكال.ويعتمد في جوهر على التأويل في قضايا تهتمّ بدرجة المرض من حيث الحجم وأين يحدث لدى الطبقات الاجتماعية المتنوعة والمتعدّدة التي يتخذها المجتمع. وقد اتسعت دائرة اهتمام علم الاجتماع الطبي لتشمل المسائل ذات الارتباط المباشر بصحة النّاس وخاصّة في جانبها الثقافي التوعوي الوقائي خاصّة بعد القصور الحاصل لكثير من التخصصات العلميّة في دراسة كل هذه الظواهر الطبية التي تعتمد على التفسير الاجتماعي للصحة والمرض وتحديد جملة الآثار أو التداعيات المتعددّة الجوانب على المجتمع وكذلك دراسة جملة الارتباطات بين المرض والواقع الاجتماعي وربط هذا الأخير بحالات النفسية الاجتماعية المتسبّبة في بعض الأمراض الجسديّة لأن الاجتماعي هو مؤثر في نفس الفرد وهذه النفسية هي بدورها تؤثر على الجانب الجسدي البيولوجي وهذه الحلقة الدائريّة تحيلنا لمفهوم الهبة لدى موس ومفهوم الظاهرة الاجتماعية الكلية (totaliste).
ومن هذا المنطلق يمكننا التطرق إلى جائحة الكورونا من منظور علم الاجتماع، وهو تحدّ كبير للباحثين في علم الاجتماع وسط الجدل حول ادعاءات ترى بانّ موضوع الأوبئة هو من اختصاص علماء الفيروسات والأطباء دون سواهم، وهي ادعاءات لا أساس لها من الصحة وتتمثل نقصا في فهم وتفسير طبيعة العلاقة بين الطب والمجتمع وارتباط الأوبئة عبر العصور بالضميرالجمعي لما لها من تأثيرات عميقة على البنى الاجتماعية وأنماط الحياة الفرديّة والجماعيّة والقيم والعادات... أدّت إلى بروز نماذج سلوكية نفسيّة اجتماعية واجتماعية ويتأثر هذا السلوك بعامل الخوف الجماعي وجملة الأسباب التي ارتبطت بالوباء وهو ما يولد عديد التناقضات والاضطرابات القيميّة وبروز سلوكيات للحماية والمواجهة. كبروز عادات صحية جديدة أكثر صرامة وانضباط وثقافة غسل اليدين والتباعد الاجتماعي والتحية عن بعد والابتعاد عن المصافحة والعناق خصوصا في المجتمعات العربية التي تعوّدت على ذلك. وبالإضافة إلى تغيّر العادات الغذائيّة كالاقبال على الثوم والبصل وبعض الأعشاب الطبية التي يتصوّر الناس أنّها تشفي وتقي من الفيروسات، وهذا استنجاد بتراث شعبي ومخزون ثقافي ضمن إعادة انتاج عادات وتقاليد ظن البعض أنها زالت وانتهت. وقد برزت نزعة مفرطة في علاقة بالدّين وأن هذا الفيروس هو ابتلاء من الله، أو أنّه عقاب من الله وقد ظهرت ثقافة ردة الفعل تجاه الفيروس وطريقة تعامل الاطار الطبي مع المرض في المستشفيات كالرقص والرفع من معنويات المصابين وفي مجتمعات أخرى فتح الناس نوافذهم للاستماع للأغاني لطمأنتهم فترة الحجر الصحي الاجباري نظرا لانتشار الخوف بصفة متفاوتة بين المجتمعات وهو شك وقلقل واضطراب تداخلت فيه عوال أهمها وسائل الاعلام ووسائل الاتصال الحديثة (الانترنت) ومنظومة القيم والتقاليد والدين والعلم...
وهو ما يؤدي إلى صدمات على الصعيد النفسي الفردي والجماعي على حدّ سواء. أدت إلى سلوكيات لا عقلانية متناقضة وغير مرتبطة وغير منطقية تعود بالفرد للمشاعر والأحاسيس وتسيطر على هذا السلوك وتوجّهه مثل سلوكيات الاندفاع للاستهلاك وبروز موجة الشراءات المبالغ فيها للمواد الطبية والاستهلاكية وكذلك الاعتراض على تقاليد دفن الأموات المصابين بالوباء رغم تناقض هذا السلوك مع الدّين والعادات إلا أنّه يتصاعد تحت ضغط انتشار الوباء واضطراب ما بعد الصدّمة وتوتّرات اجتماعية ارتبطت خاصة بالوضع الاقتصادي لكل لمجتمع كالبطالة والحركات الاحتجاجيّة والاحتقان الاجتماعي في علاقة بجملة الإجراءات التي اخذتها الدولة لفائدة الطبقات الفقيرة أو العمّال والمؤسّسات وهذه الطبقات أو الفئات لكلّ تمثلاتها لجملة هذه الإجراءات ولكل تصوراتها وثقافتها للوباء وهو ما يجعلها رغم الإحساس المشترك بالخطر تتباين في تفاعلها مع الوباء ومع الإجراءات ومع بقية فئات المجتمع ويزداد الأمر تعقيدا إذا أحللنا هذه الظاهرة ضمن ثنائيات فرديّ-جماعي وتقليدي-حداثي وعلمي لا علمي وجديد-قديم وهو ما يعطينا ازدواجية في السلوك الفردي والجماعي وازدواجية كذلك في طبيعة التضامن بين الفئات داخل المجتمع وهو ما يذكرنا بالتضامن الآلي والتضامن العضوي عند ايميل دوركايم
فمثلا تكفل بعض أرباب العمل والمؤسسات بخلاص أجور عمالها فترة الحجر الصحي الشامل وبروز كذلك فتح النزل للطواقم الطبية وحملات التبرع بيوم عمل لفائدة صندوق 1818 بتونس تلبية التعبئة الوطنية التي قامت بها الهياكل الرسمية ويمكن الإشارة في هذا السياق أن الطبقات المفقرة أو الفئات المهمشة كانت في سلوكها تميل للامبالاة وعدم الاكتراث وهو ما جعلها تكسّر حاجز الخوف وتتجرأ على الخروج وتتحدى السلطة لانعدام الثقة وهو سلوك لا يميز الطبقة المحظوظة اقتصاديا ونميز في هذا الاطار بين تضامن آلي يرتبط بالثقافة والعادات والدين. وتضامن عضوي والذي يبحث من خلاله بعض أصحابه عن الشهرة وكسب المكانة الاجتماعية والجاه السياسي. ولكل تضامن طبقته أو فئته داخل المجتمع وهو سلوك جماعي استثنائي وليس يومي وليد أزمة أوتهديدقلص المسافة بين الفرد والمجموعة وانتعش استثائيا كما أن هناك البعض ممن استغل الأزمة ليتاجر بقوت الناس والمواد الاستهلاكية لكن ذلك لا يحجب عنا القيم الإيجابية التضامنية والتي لم تكن أيضا أفقية وعمومية بنفس الدرجة في الإنتشار الطبقي والجغرافي والبيئي (حضري - ريفي) وإنما هي خاصية متغيرة شديدة الارتباط بعديد العوامل أو العناصر.
إن جائحة كورونا لم تخلو من السلوكيات غير العقلانية والتي تضمنت كثرة الاشاعات ونظرية المؤامرة (فرانك سنودين في كتابه الأوبئة والمجتمع) وتستند هذه النظرية إلى أن الأوبئة هي في الحقيقة صناعة بشرية، مما وتّر العلاقة بين الشعوب وحتى بين الدول من خلال تبادل الاتهامات الخاصة بين الولايات المتحدة والصين. وهذا التأثير الماكر والبيولوجي يتمظهر في العلاقات الدولية وظهور درجة التضامن الدولي بين تكتلات أو تحالفات كانت الكورونا مؤشرا لقياس نجاعتها ومتانتها (ضعف التدخل الأوروبي مع إيطاليا).
وقد ارتبط هذا الوباء (الكورونا) ببعض الاثنيات لإنطلاقة الموجة الوبائية الأولى منها، مما يجعلها تتعرض للتمييز والمضايقة كالصينيين الذين تعرضوا لشتى أنواع الاضطهاد خاصة في بعض الدول، بل أكثر من ذلك هناك دعوات على وسائل التواصل الاجتماعي للقضاء عليهم وطردهم على أنهم سبب هذا الوباء. كما لا يفوتنا في هذا السياق الإشارة إلى أن الكورونا أحدت رجّة ليس على مستوى الواقع فحسب وإنما كذلك على مستوى المفاهيم وأصبح الرجوع لمقولات مثل التحديث والحداثة والعولمة والليبيرالية والرأسمالية ... مكن لذلك تحدث "ادغار موران" عالم الاجتماع الفرنسي عن الوباء وعلاقته بالنماذج الاقتصادية والإجتماعية والسياسية الحالية وهي علاقة كشفت عن حدود العولمة الفاقدة للتضامن فهو يقول "كان البشر كلهم من جميع القارات يعانون من المشاكل نفسها بتدهور المحيط الحيوي، وانتشار الأسلحة النووية، والاقتصاد غير المنظم الذي يكرّس انعدام العدالة بأنواعها. هذا المصير المشترك قائم، ولكن، بسبب هذا الخوف الذي استبد بالعقول فإنه بدلا من أن نعي بوحدة مصيرنا، فإن هذه العقول تتحصن بضرب من الأنانية الوطنية أو الدينية. وبطبيعة الحال، من اللازم وجود تضامن وطني، وهذا أمر ضروري، غير أننا إن لم نفهم أنه من الواجب وعينا بوحدة مصيرنا البشرية، وإذا لم نبلغ مستوى متقدما في تضامننا، وإذا لم نغير من فكرنا السياسي، فإن أزمة البشرية ستتفاقم حتما.ويقترح موران جملة من التغيرات الممكن إتخاذها لعل أهمها البحث عن توجه جديد يتخلى عن النيوليبرالية وتبني اتفاق سياسي اجتماعي بيئي جديد يعزز هذا الاختيار الحفاظ على الخدمات ذات الصبغة العمومية مثل المستشفى العمومي، وهو طريق من شانه يعالج أثار العولمة السلبية من خلال بعث مناطق غير معولمة لتحافظ على مضمون الإنسانية وجوانب عديدة من الإكتفاء الذاتي. ويمكن الإشارة في هذا السياق أيضا إلى عالم الاجتماع الفرنسي "آلان توران" الذي يرى أن العالم الحالي في ضل الكورونا لم يعد كما كان فهو عالم يشعر اليوم بالخوف بسبب غياب المعنى وغياب الفاعلين الاجتماعيين وغياب الأفكار. أما في تونس فقد كان موضوع جائحة الكورونا موضوعا للبحث والدراسة ومحاولة الفهم والتفسير لعديد الباحثين في علم الاجتماع وسنحاول على سبيل الذكر لا الحصر الإشارة إلى الباحث منير السعيداني الذي كتب عن فيروس كورونا في مختبر علم الاجتماع ويبين فيه طبيعة العلاقات الاجتماعية في علاقة بالانعزال والعزلة وتغير أشكال التواصل الاجتماعي في مجتمع جديد يسميه بمجتمع الجائحة الذي لا يرتبط بالجائحة فقط وإنما لوجود عديد الظواهر والممارسات والمظاهر الحياتية الجائحة تعيش معنا على مر السنوات.
كما يمكن الإشارة إلى حراسة الباحث التونسي ماهر حنين في حديثه عن "مجتمع الهامش" وهو مجتمع الأعماق كما يسميه "غورفيتش" الذي يطهر فيه مستوى الهشاشة وارتفاع معدلات الخصاصة والفقر وهذا الجزء من المجتمع التونسي أصبح يبلغ قرابة %20 جديربالتحليل والدراسة والتعمق... وهو هامش قائم من قبل الكورونا ولكنه ازداد تأثرا بهذه الأزمة وتداعياتها، والتي كشفت المستور وعدّت الكورونا القاعدة الاجتماعية وتوازناتها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية.ستضل أزمة الكورونا منعرجا حاسما في الزمن الماقبلوالمابعد وسوف يكون للذاكرة الجماعية والضمير الجمعي رصيدهم عن هذا الفيروس من خلال طبيعة التغيرات الاجتماعية وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على الفرد والأسرة والمجتمع والمؤسسة وجملة التصورات والمعتقدات حول الأوبئة وتجربة المصابين بهذا الفيروس والمشاعر الجماعية المتصلة بالخوف والخطر والهلع والتضامن بين مختلف الفئات الاجتماعية والثقة الاجتماعية والخطاب السياسي والثقافي والصحي ودلالات الفيروس الأمنية والعسكرية وطبيعة الاستقرار الاجتماعي وتوازناته وجملة التطلعات والأفاق الاستشرافية بشأن عملية التحول الاجتماعي في ضل أزمة الجائحة، هذه كلها مواضيع نظرية ومنهجية في علم الاجتماع الطبي تؤسس لمشروعية هذا العلم واستتباعاته النظرية وهو جانب من التحدي الابستيمولوجي يؤسس لجدل جديد لعلم الاجتماع من شأنه تطوير مجال بحثه وتفرعاته.

باحث في علم الاجتماع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة.. الجيش الإسرائيلي يدعو السكان لإخلاء شرق رفح فورا


.. إسرائيل وحماس تتمسكان بموقفيهما ولا تقدم في محادثات التهدئة




.. مقتل 16 فلسطينيا من عائلتين بغارات إسرائيلية على رفح


.. غزة: تطور لافت في الموقف الأمريكي وتلويح إسرائيلي بدخول وشيك




.. الرئيس الصيني يقوم بزيارة دولة إلى فرنسا.. ما برنامج الزيارة