الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في العلمانية – 12 – عن علاقتها مع الكرامة الإنسانية – 2.

نضال الربضي

2020 / 8 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في سلسلة مقالاتي المعنونة "قراءة في العلمانية"، أهدف أن أسلِّط الضوء على واقع ِ المجتمعات البشرية مُبتدأ ً، فاحصاً الخلل، واضعا ً يدي على مواطن نشوء المعاناة و آليات استدامتها، مُشخِّصا ً المرض، مُنطلقا ً نحو الحل. و يتوضَّحُ عندي جليِّاً و باستمرار أن الخلل الأوَّل و الأساسي هو: الاقتصاد، و أنَّ آلية استدامته هي: النظام الرأسمالي بشكله الحالي، و أنَّ الحل لا يكون إلا بتغير شكل الاقتصاد و القوانين التي ترعاه و تستديمه.

و لقد وصلنا في هذه السلسلة إلى المقال الثاني عشر، بعد أن قطعنا شوطاً كبيرا ً أدركنا بواسطته أن الوصول إلى الحل لا يمكن أن يتم إلا إذا انتقلت المجتمعات من طورها الديني إلى طورها العلماني، كون الأول ما يزال عاملَ انشغال ٍ مدمِّر يستهلك الوجدان و العقل و الجهد البشري الفردي بالتوازي مع الجماعي، فيعيق الرؤيا الواضحة، و يشتت الجهود المبذولة، و يراكم القوى القادرة ليسيِّرها في قنوات عبثية بل مدمِّرة تساهم في تكريس الجهل و الخوف و التَّبعية لرجال الدين و القائمين على إدارة المنظومة الدينية بادِّعاء السهر على الحق الإلهي، الأمور التي من شأنها أن تكبِّل الفرد و تمنعه من أن يحيا حياته الطبيعية الانسيابية التلقائية، فلا يُبدع و لا يُنتج و لا يتميَّز، و بالتالي: يموت. الموت ُ هنا حقيقة لا مجاز، لأن الذي لا يستطيعُ أن يعرف ذاتَه، لن يكونها يوماً و لا لحظةً، فكيف تعرفُ نفسك َ إذا ما كنت تتلقى الأوامر و النواهي و تنحشرُ طوعا ً أو كرهاً في أُطر ٍ جمعية ٍ مرسومة ٍ لك و للمجتمع، فيصير َ الكلُّ لونا ً واحداً، و الفردُ مِرآة ً لكل فرد ٍ أخر؟ و سوف َ لن تستطيع أبدا ً أن تفهم واقعك المُزري إلّا إذا عاد لك الحقُّ الأول الذي سُرق منك، و هو حقُّ: التأويل! فالإنسانُ يولدُ حرَّاً ذا عقل ٍ قادر ٍ على أن يرى العالم من حوله و يفهمه و يُفسِّره و يكوِّن فكرته عنه، و يربط الأسباب بالنتائج، هذه العمليات العقلية هي: التأويل، و هو حقُّ يُسرق منك عندما تتم أدلجتك َ منذ الصغر لترى العالم كما تريدك المنظومة الدينية أن تراه و تراها، و كما يُقال لك، و يُعرضُ أمامك، بترغيب ٍ في وعد ِ غيب، و بترهيبٍ من عقاب غيب، و باستدامة ٍ تبدأ منذ ميلادك و تستمرُّ معك لا تترُكُك و لا تنفصم عن نهارك و ليلكَ، فإن أدركت َ هذا: انفتحت عيون عقلك، و انجلت بصيرةُ وعيك، و خطوت َ من باب حرِّيتك الخطوة الأولى، و استعدت بإرادتك الواعية الحق الذي سرقوه منك.

إنَّها الحرِّيَّة ُ إذا ً أيَّها القارئ و أيَّتها القارئة، و فقط بواسطتها و انطلاقا ً منها يمكن ُ للفرد أن يكون: ذاتَه، و أن يعرف َ قبلها من يكون، و أن يُخرج من كيانه إبداعه و عطاءه و تميُّزه و تنوُّعه و اقتداره، أي: هُويَّته! و لا يكونُ هذا إلا بالعلمانية فقط، لا بغيرها و لا دونها بأيِّ درجة قلَّت أو كثُرت، فنحن بصددِ مُحدِّد ٍ و معيار ٍ يستمدُّ تعريفهُ من طبيعة ِ الكائن البشري نفسِها، أي من البيولوجيا التي بواسطتها يُنتج الدماغ البشري المُحدِّدين الرئيسين للنوع البشري: الوجدان، و العقل، و كلاهما لا يعيشان إلا في بيئة الحرِّية و فضاءات التنوع. إننا نعترف هنا و نشدِّد على أن العلمانية هي التعبير اللغوي عن حتمياتِ اللحم و الدم و الأعضاء البشرية و إمكانيات الدماغ، فنحن هنا لا نخترع غريبا ً نلصقُه بالإنسان، إنَّما اكتشفنا ماهيَّة طبيعة الإنسان و استخدمنا لفظا ً لغويَّاً ليعبِّر عنها، و هو لفظ: العلمانية!

إن العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة في التشريع، و في مظاهر الحياة المُشتركة العامَّة، هي المُبتدأ نحو تحقيق الكرامة الفردية، و بناء المجتمع القوي و الدَّولة المتحضرة. لكنَّ هذا الفصل لوحده ليس الهدف، إنّما منصَّة الانطلاق نحوه. فالهدف هو الكرامة الإنسانية، و الاكتفاء الفردي، و بناء المجتمع المتماسك، و الدولة المتحضرة ذات السيادة، و تسامي الدُّول جميعها لبناء منظومة علاقات دولية قائمة على الاحترام المتبادل و الاعتراف بالآخر، و التعاون على كافة المستويات الإنسانية: في الاقتصاد ِ و العلوم ِ و الآداب اللغوية و الفنون و الأخلاقيات إلى آخر المجالات الحيوية. هذا هو الهدف، و من أجله نطلب العلمانية و نسعى إلى نشر الوعي المُتعلِّق بها، و السعي إلى خلق كيانات قانونية يجتمعُ حولها العددُ المؤثِّر من المجموع البشري لتغير القوانين نحو التشريع لها و التأسيس ِ لمنظومتها و بناء المجتمعات الحديثة المُتأسِّسة عليها.

تَحقُّقُ العلمانية في مجتمع ٍ ما هو تأسيسُ منصة الانطلاق، و الطريق من التأسيسِ نحو الهدف طويل، مُتشعِّب، ملئٌ بالمنعرجات و المنحدرات و المصاعد و الالتواءات و الحُفر و الوديان و المشاكل التي لا حصر لها، و هو طريق إطاره الرئيسي: الاقتصاد، فيه نظام ٌ رأسمالي يقدِّم ُ ما يبدو أنَّه مفيد ٌ و جيِّدٌ و مرغوبٌ يتناسب ُ مع حرِّية الفرد و كرامته، كأن يعترف للفرد بحقوق التعبير عن الرأي و الاختلاف و الابداع، و يضمن المساواة في الكرامة الإنسانية، و يحارب العنصريات، و يطارد التطرف، و يُلغي خطاب الكراهية، و هذه كلُّها في صميم حفظ كرامة الإنسان، و لا خلاف عليها، إنَّما،،،


،،، و هنا يبدأ ُ مشوارُ تحقيق ِ الكرامة ِ الإنسانية واقعا ً يتناسبُ مع ما تطلبه طبيعة الإنسان، أكثر َ منه حاجة ً يطلبها شكل الاقتصاد الرأسمالي الغُولي الحالي،،،

،،، أقولُ إنَّما: ينبغي علينا أن نعترف َ أن الكرامة َ الإنسانية تطلب بالضرورة: منسوبا ً مرتفعا ًمن المساواة المعيشية بين المواطنين، من جهة السكن و التعليم و الصحة و الامتلاك و القدرة الشرائية و الترفيه، و بالتالي ذوبانَ الحدود بين الطبقات، بهدف توحيد المجتمع في طبقة واحدة في النهاية (مع الاعتراف بشدة صعوبة هذا الأمر لكن بعدم استحالته). إننا هنا بصدد مراجعة المبدأ الأساسي للفكرة الرأسمالية و هو ما يُقال عنه أنه حق صاحب رأس المال في شراء جهد العامل (مع رفضي التام لاعتباره حقَّاً و تسجيلي له في هذا المقال كوهم ٍ خبيث يُباع و يسوَّق بطريقة حضارية ليقبله المجموع العام دون تفكير)، و تحويل هذا الوهم المزعوم حقاً، إلى حقيقة ٍ مناقضة له في جوهره هي: حق استثمار صاحب رأس المال لجهد العامل بشكل ٍ إنساني كشريك ٍ في إنتاج البضاعة و الانتفاع ِ بربحها. هذه الفكرة الأساسية ستكون ُ محور العمل على إيجاد شكل ٍ اقتصادي جديد يستثير ُ جهد العامل و إمكانياته بشكل ينعكسُ بقوة ٍ إيجابية ٍ كبيرة على علاقات الإنتاج و التسويق و توزيع الأرباح و نمو اقتصاد الدولة ككل.

إن هذا الشكل الاقتصادي الجديد يضع أمام الدولة التي ستتبناه تحديات كبيرة، فهو يناقض تماماً مبدأ: السوق الحر، لأنه يضع قيودا ً على صاحب رأس المال الذي صار له الآن شركاء من العمال، لهم مصالح و مطامح و عائلات يعولونها، أي بعبارة أخرى: لقد أضحى للبعد الاجتماعي الإنساني تمثيل ٌ اقتصادي يؤثر بشكل مباشر على قدرة صاحب رأس المال على توظيف استثماراته و مراكمة أرباحه و التحكُّمِ بفرق العمل. و هو شكل جديد يتطلب تشريعات قانونية جديدة، و تدخلا ً مباشرا ً من الدولة أثناء عملية ِ التحوُّل ِ إليه، يذكرنا تارة ً بمفاهيم التأميم الناصرية، و تارة ً ببيروقراطيات القطاع الحكومي، و هما أمران ِ لا شأن لهما بما أعرضه اليوم َ في مقالي هذا، فأنا هنا أشخِّصُ مواطن الخلل في المنظومة الاقتصادية الحالية و أوضِّح ُ شكل الحل، لكني لا أزعم ُ أنني أعرض آليات الانتقال أو أحدِّدُ تفاصيل المرحلة الانتقالية فهذه إنما ينبغي لها دراسة مستفيضة تعتمدُ مخرجاتُها على المجتمع نفسه، و بالتالي تكونُ حلولُها في أحد المجتمعات مختلفة ً عنها في مجتمع آخر.

في هذا الشكل الاقتصادي الجديد لا بدَّ أن يُعاد احتساب الضرائب المؤدَّاة للدولة من القطاع الخاص، و من جميع موارد الدخل في الدولة، بحيث يكون المبلغ المُتحصَّل كافيا ً لتفردَ مِظلة َ تأمين صحِّي شامل و مجاني لجميع مواطنيها، و كذلك للتعليم المدرسي و الجامعي بكافة درجاته شاملة ً العُليا منها، و لتأمينِ سكن ٍ و عمل ٍ كريمين، و إذ تعذَّرَ الأخير لتقديم ِ الدعم المادي الموازي للراتب حتى توفُّر العمل.

و سوف َ يفرضُ هذا الشكل الاقتصادي الجديد للدولة ِ دورا ً جديدا ً، أو قُل: سيُعيد للدولة جزءا ً كبيرا ً من دورها القديم الذي تخلَّت عنه تحت مسمَّيات الاقتصاد الحر و العولمة و الخصخصة، لكي تبدأ لكن هذه المرة بالتعاون مع القطاع الخاص (فأنا لا أدعو أبدا ً لتأميمه أو تكميمه إنما إلى ضبط توحُّشه الذي استشرى ببشاعة ٍ شديدة) في وضع الخطط الاقتصادية و تحديد قطاعات السوق التي يُفيد الدولة الاستثمار فيها، و توجيه الطاقات و الجهود نحو هذا الاستثمار، و لكي تُراقب أداء الشركات، و تُهيكل رواتب الإدارات العُليا التي تستنفذُ ميزانيات الشركات (و هي أرقامٌ مُعلنه بحسب القانون يمكن لأي شخص أن يضطلع عليها) لكي تجعلها في حدود المقبول، كجزءٍ من هيكلة عامة لجميع الرواتب لضمان عدالتها، و لاستحداث ِ توزيع ٍ جديد ٍ للأرباح يشمل كافَة العمال في المُنشأة. كما و ينبغي أن تتدخل الدولة بشكل مباشر في البت في عمليات تسريح الموظفين (خصوصا ً تحت دواعي الحد من الإنفاق و الهيكلة، و التي تسقط ُ أمام الفحص الدقيق و يظهرُ زيفها بسهولة شديدة حين يتبين أنها مجرد مُسمَّيات خادعة لمراكمة أرباح ٍ إضافية و في أحيان كثيرة لتصفية الحسابات بين فرق العمل او لإطلاق يد الإدارات دون قيود أو إعاقات ٍ يقتضيها وجود هذه الفرق).

يتطلب هذا الشكل الجديد من الاقتصاد و كونه يجعل العامل شريكا ً في إدارة المُنشأة و في الاستفادة من أرباحها، و كونه يعيد للدولة دورها الهام في التخطيط لاقتصاد سوق ٍ جديد و استعادة ٍ رقابة ٍ غيبتها الخصخصة المُنفلته و دعاوى العولمة و السوق الحر، أن يخرجُ رأس المال من السياسة كلاعب ٍ رئيسي، و يعود َ إلى دوره كرافد ٍ للاقتصاد لا كراسم ٍ لسياسات الدولة، فيصبح للدولة هدف جديد هو: كرامة المواطن و نمو الفرد. هكذا أفهم كرامة َ الإنسان، و ضمن هذه المنظومة الاجتماعية الاقتصادية السياسية، و بحسب هذه العلاقات بينها.

و ختاماً، أعتقد ُ أنني قد قدَّمت ُ في هذا المقال مُلخَّصا ً جيدا ً للمنظومة الجديدة كما نويتُه، و إطارا ً عاما ً لها، يمكن للقراء و القارئات الكرام الاسترشادُ به، و البناء ُ عليه، و الإضافة له، و أشكر لكم استثماركم وقتكم و جهدكم في القراءة،،،

،،، و حتى مقال ٍ جديد، دمتم بالود و الخير!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ااهلا بالهطلة
قاسم حسن محاجنة ( 2020 / 8 / 22 - 14:12 )
يا هلا ويا مرحبا
اكتب قبل التمعن والقراءة المعمقة ....
الرأسمالية المتغولة هي أُس الشرور ،فإن اقتضت مصلحتها حريات للافراد، فلكي تُراكم أرباحها ...
على كل حال ، عهلا وسهلا ونورت
يومك سعيد


2 - الرأسمالية المتغولة
نضال الربضي ( 2020 / 8 / 23 - 01:59 )
يومك جميل يا صديقي!

أسعد دوما ً برؤية اسمك في الصفحة و أتمنى أن تكون بخير و فرح!

قولك حكيم: -فإن اقتضت مصلحتها حريات للأفراد، فلكي تُراكم أرباحها-

نعم هذا تحليل دقيق، لأن العامل الحر مُنتج بالضرورة.

لكن الرأسمالية تحمل بالضرورة بذور تناقضاتها: إنتاج منفلت غير متوازن، عملة أشبه ما تكون بورق افتراضي لا قيمة له على أرض الواقع و لا يدعمه سوى اصطلاح القبول، تفاوت طبقي يولد صراعاً دائماً، و حاجة للتعويض عن النواقص التي تفشل في توفيرها للفرد فتلجأ الدولة إلى مظلات دعم جانبية بدل أن تتبنى نهجا ً اقتصاديا ً يوزع الأرباح و المداخيل بعناية بحيث تتلاشى الأسباب التي أدت إلى العجز الحالي.

على كل حال ما زالت النقابات العمالية في حالة من الضعف لا تسمح لها بأي إنجاز يذكر، و ما زالت الطبقة المُترفة تتغول على باقي الطبقات و ما زال الفقير في قوقعته و الغني في فضائه، و ما زال الوعد بعالم ٍ غيبي في حياة بعد الموت الضوء الماثل أمام عيون الملاين.

مع أن الخلل واضح و الحل واضح!!!!!!

دمت بالخير و الود يا طيب!

اخر الافلام

.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية


.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-




.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها


.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الدكتور قطب سانو يوضح في سؤال مباشر أسباب فوضى الدعاوى في ال