الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة الطوفان البابلية

عضيد جواد الخميسي

2020 / 8 / 28
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


آطرا ـ هاسس Atra- hasis ؛ بمعنى (الحكيم جداً ) ؛ هو شخصية الملحمة الأكدية / البابلية (الطوفان الكبير) ، وكان يُعتقد قديماً ، من أن فيضان هائل قد بُعث من الآلهة لتدمير الحياة البشرية ، وكان الرجل الصالح " آطرا ـ هاسس "؛ الوحيد من بين البشر الذي حذره الإله (إيا /إنكي) من الفيضان الوشيك الذي سوف يحصل في جميع أرجاء الأرض . بسبب ذلك ؛ فقد أمره في بناء سفينة لإنقاذ حياته من خطر وقوعه .
أطاع آطرا ـ هاسس أوامر الإله إنكي /إيا ، وعمل جاهداً في جلب زوجاً واحداً على الأقل من جميع أصناف الحيوانات المعروفة على الأرض ، وتحميلها على ظهر السفينة ، كي يديم حياة الإنسان والحيوان على حد سواء بعد فناء الأرض .

آطرا ـ هاسس في هذه الملحمة ، هو الشخصية الاسطورية لحفيد حمورابي " أَمّي سادوقا " (1646-1626 ق.م ) ، إلاّ أن هذه القصة هي أبعد من ذلك التأريخ بكثير ، بسبب تناقلها عبر الأجيال شفوياً منذ عهود قديمة . ذُكرت هذه الأسطورة في المدّونات البابلية عند منتصف القرن السابع عشر قبل الميلاد .
قصة الطوفان السومرية المعروفة والتي أطلق عليها المؤرخ "ثوركيلد جاكوپسن" (تشييد أو تكوين مدينة أريدو) ، هي نفس قصة الطوفان البابلية التي وردت في اللوح الحادي عشر من ملحمة گلگامش (عام 2100 قبل الميلاد) ؛ إذ تحكي لنا تلك القصة السومرية عن الفيضان المدمّر للأرض وما عليها ، لينتهي بها المطاف مدونّة في كتاب التوراة والكتب المقدّسة الاخرى !!.
غالبية علماء الآثار ؛ يدركون تماماً من أن قصة الطوفان ، وعلى الأرجح ؛ كانت مستوحاة من حدث داخلي أو محلّي ، وهو أحد الفيضانات الواسعة الذي كان تأثيره بالغاً في حياة الناس والناجم عن ارتفاع منسوب المياه في نهري دجلة والفرات عند فصل الربيع من السنة .
الأدلة الأثرية والجيولوجية في المنطقة ، أظهرت أن مثل تلك الفيضانات كانت أمراً شائعاً إلى حد ما ، ومن المحتمل جداً ، انه كان واحداً من الفيضانات الذي لا يمكن نسيانه ، لذا أُعتمد أساساً في القصة ، ولكن ، ليس هناك عالم جيولوجي أو آثاري في وقتنا الحاضر يمتلك دليلاً قاطعاً ، من أن فيضاناً مدمراً قد اجتاح الكرة الارضية في العصور الماضية ، مثل ؛ فيضان أو طوفان آطرا ـ هاسس ، أو مثل الذي ورد في الكتب المقدّسة ، بما في ذلك قصة نوح والطوفان في كتاب سفر التكوين التوراتي .
كتبت العالمة البريطانية في تاريخ بلاد الرافدين ، البروفيسورة "ستيڤاني دالي " ، التعليق التالي حول هذا الموضوع :
" لم يتم العثور على أي رواسب فيضان في طبقات الألفية الثالثة ما قبل الميلاد في الأرض الرافدينية . التاريخ الذي وضعه ، رئيس الأساقفة الأيرلندي (جيمس أوشير) للفيضان عام 2349 قبل الميلاد ، والذي تم حسابه باستخدام الأرقام المذكورة في سفر التكوين مثلما هي .. أمر غير صحيح علمياً ، وغير مقبول الآن !! ".

قصة الطوفان
آطرا ـ هاسس ، بطل هذه القصة ، وقد عُرف بعد نشوء الأرض ، ولكن قبل ظهور البشر ، كما جاء في نص الملحمة :
عندما كانت الآلهة ، بدل البشر ..
تقوم في العمل ، حملت الأثقال ..
الآلهة أعبائهم كثيرة جداً ، الواجبات صعبة جداً ، المشكلة كبيرة جداً ..

بدأت القصة من تلك السطور؛ عندما أصدرت الآلهة الكبيرة أوامرها الى الآلهة الأصغر سنّاً ، القيام بجميع الأعمال على الأرض ، وبعد انجاز حفر أخدودي التوأمان "دجلة والفرات" ، اعترضت الآلهة الشّابة الاستمرار بتلك المهام الصعبة ، فاقترح "إنكي" إله الحكمة على رب الآلهة "أنليل" ؛ أن يخلق كائناً جديداً تحت مسمّى " الإنسان " ، الذي يقوم بإنجاز جميع الأعمال على الأرض بدلاً من الآلهة المتذمرة . تطوع لتلك المهمة أحد الآلهة ، واسمه "وي ـ ألو "ـ المعروف أيضاً باسم (ألاويلا ) ـ أو "كيشتو" ـ والمُكنّى بـ (إله الضمير) ، وقدّم نفسه ضحيّة لهذا الهدف السامي . وعندما ذُبح إله الضمير، قامت الإلهة "نينتو "ـ أو الإلهة الأم ، والمعروفة أيضاً باسم نينهورساج ـ بعمل خلطة ؛ عجنت فيها لحمه ودمه ومخّه مع مقدار من الطين ، ومن هذا المعجون ، خُلق سبعة من الذكور البشر، وسبع من الإناث .
عند البداية ؛ تنفس الآلهة الشباب الصعداء ، وشعروا بالراحة التي منحها ايّاهم البشر في العمل كبديل عنهم ، غير أنهم أبدوا امتعاضهم وانزعاجهم فيما بعد ؛ بسبب الضجيج العالي الذي أقلق راحتهم ، والصادر من البشر الذين بُعثوا إلى الأرض ، نتيجة تكاثرهم السريع واكتظاظ الأرض بهم .
ربّ الآلهة ( إنليل ) ، كان الأكثر تململاً من تلك الحالة المُقلقة التي لم يألفها من قبل ، لذا قرر تقليص سكان الأرض من البشر ؛ في ان يبعث لهم الجفاف ، ثم الوباء وبعدهما المجاعة . بعد كل هذه الأهوال والمحن التي عصفت في الأرض ، أخذ سكانها يستغيثون بالإله إنكي الذي تخيّلهم وصاروا بشراً .
الإله إنكي ، أخبرهم بما يجب عليهم فعله لإنهاء معاناتهم وإعادة الأرض إلى حالتها الطبيعية ، لكن رب الآلهة إ"نليل" ، لم يكن أكثر صبراً مع البشر ، فقد أقنع رعيته من الآلهة بالانضمام إليه لتنفيذ خطته في فنائهم من الأرض ؛ وذلك في ان يصنع فيضان هائل على الأرض يؤدي الى القضاء التام عليهم ، والتخلص من شرورهم .
أشفق الإله إنكي على أحد عباده من البشر "أطرا ـ هاسس "، هذا الرجل الرقيق والحكيم المحبوب ، الذي حذره من الفيضان القادم ، فقد طلب منه بناء طوف خشبي (Ark) أو بما يشبه السفينة ، وأن يختر زوجاً واحداً لكل صنف من حيوانات الأرض ، وجلبها إلى داخل الطوف . فعل أطرا ـ هاسس كما أمره إلهه ، ومن ثمّ بدأ الطوفان ، كما في المقطع التالي من القصة :

لقد جاء الفيضان ... لا أحد يستطع رؤية الآخر
لا يمكن التعرّف عليهم في تلك المصيبة
لقد اهتاج الفيضان كالثور
مثل الحمار الوحشي يصرخ ، الريح تعوي
الظلام كان دامساً ، لم تكن هناك شمس

الإلهة الأم "نينتو " تبكي ضناها الذين ماتوا، والآلهة الأخرى تبكي معها :
" كانت ترتعش من الحزن ، ولها رغبة في رشفة من الجّعة ، لكن دون جدوى" !.

بعدما انحسرت المياه ، أدرك ربّ الآلهة ، وكذلك الآلهة الأخرى خطأهم ، وندموا على ما فعلوه مع البشر ، ومع ذلك ، كانوا يدركون أنه ما من حل يمكنهم الاستعانة به لإعادة الوضع ما كان عليه .
عند هذا المشهد الحزين يخرج أطرا ـ هاسس من سفينته ويقدم قرباناً للآلهة . رغماً من أن رب الآلهة إنليل ، قد ندم على فعلته الشنيعة في فناء البشر ، إلاّ أنه غضب من إنكي في سماحه لواحد من البشر في الهروب من العقاب ، وبقاؤه حياً . لقد بررّ إنكي فعلته أمام تجمع الآلهة ، ثمّ توجهوا جميعاً الى تناول قربان أطرا ـ هاسس الذي قدّمه الى رب الآلهة ! .
اقترح إنكي حلاً جديداً لمشكلة الاكتظاظ البشري على الأرض ؛ وهو ابتكار مخلوقات جديدة ؛ ليست جميعها خصبة مثل الأولى ، وأن تكون هناك على الأرض ؛ نساء لا يستطعن إنجاب الأطفال ، كذلك ؛ نشر العفاريت الأشرار الذين يخطفون الرضّع بعيداً عن امهاتهم ، ويسببون الإجهاض للحوامل منهن ، كما أن وجود النساء اللائي يكرّسن أنفسهن للآلهة ، يتعين عليهن البقاء عذارى ! . ( وكأن جميع المشاكل البشرية سببها النساء فقط دون الرجال!!.. ) .
في نهاية القصة ، يتم صعود أطرا ـ هاسس ، بطل قصة الطوفان الكبير الى السماء حسب طلبه ، ليعش بعيداً عن هؤلاء البشر الجُدد الذين تخلقهم الإلهة الأم "نينتو" .

كانت القصة لها مغزى كبير بالاضافة إلى جانبها في الترفيه الأدبي ، لكنها بالتأكيد ، جاءت لتبرير حالات الحزن التي يواجهها البشر ، كالتي تحصل عند وفاة الأشخاص لأسباب مختلفة ؛ مثل الغرق ، والموت في مواقع القتال ، أو بسبب التعرض لهجوم الحيوانات المفترسة ، وغيرها . هناك أيضاً جانب آخر؛ إذ تحمل القصة ، رسالة واضحة تشرح فيها المعاناة التي تحدث عند الولادة ، وحالات وفاة الجنين أو الرضيع لأسباب متباينة ، والتعرّض للأمراض المميتة ، أو الإصابة بالعوق الفيزيائي والذهني . هذا ما كان يواجهه الشعب الرافديني اعتقاداً منه ؛ بسبب التزاحم السكاني على الأرض والضوضاء المنبثقة عنه .
كان صعباً هذا الفيضان الرهيب الذي كاد يدمّر البشرية ، إلاّ أنه كان من السهل على البشر في تحمّل فقدان طفل رضيع أو جنين في بطن أمّه ، مع العلم أن الصبر على تلك الخسائر في الأرواح ، قد ساعدت في الحفاظ على النظام الطبيعي للأشياء ، وعلى فكرة السلام مع الآلهة في نفس الوقت .
كان الهدف من هذه الأسطورة ؛ التأكيد من أن المعاناة الإنسانية الفردية لها أسبابها ، فهي ليست مجرد ألم عشوائي لا معنى له ، لكنها في النهاية ، هي قصة أمل وإيمان بمعنى أعمق لمآسي التجارب الإنسانية ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ستيڤاني دالي ـ أساطير من بلاد الرافدين ـ الخلق ، الطوفان ، گلگامش ، وغيرها ـ اكسفورد وورلدز كلاسيكس ـ 2009 .
ثوركيلد جاكوپسن ـ كنوز الظلام ـ تاريخ ديانات بلاد الرافدين ـ مطبعة جامعة ييل ـ 1978.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تناور.. «فرصة أخيرة» للهدنة أو غزو رفح


.. فيديو يوثق اعتداء جنود الاحتلال بالضرب على صحفي عند باب الأس




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر تطورات القصف الإسرائيلي في جميع مدن ق


.. حماس: تسلمنا المقترح الإسرائيلي وندرسه




.. طالب يؤدي صلاته وهو مكبل اليدين بعدما اعتقلته الشرطة الأميرك