الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإلحاد المتعصب

محمد ياسين

2020 / 9 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ما لاحظته هو أن كثيرين ممن نصبوا أنفسهم متحدثين باسم الإلحاد والملحدين على وسائل التواصل الإجتماعي، لا يكفون عن الترويج لأفكارهم الشخصية باسم الإلحاد، خصوصا بعض القضايا مثل قضية المرأة وقضايا الجنس والمثلية، هذه الأفكار التي باتت عند البعض شرطا لولوج الإلحاد أو على الأقل وكأنها غدت نتائج حتمية له، والأدهى من ذلك هو موقفهم العنيف والحاد من الملحدين الذين لا يشاطرونهم تلك الأفكار أو المبادئ أو القيم أو سمها ما شئت! ثم بعد ذلك يتشدقون بحرية التعبير ويتهمون المؤمنين بالتعصب والمذهبية .
الإلحاد في الأصل هو طريقة معينة لفهم الوجود، ولكن من زاوية اجتماعية، خصوصا في المجتمعات التي تسود فيها أديان لا تقدم نظريات ميتافزيقية تروم الإجابة عن التسؤلات الوجودية فحسب، بل تمتد إلى اقتراح تشريعات لضبط المجتمع وتوجيهه، فإن الإلحاد حينها يتحول من طريقة لفهم الوجود إلى ردة فعل اتجاه المجتمع ؛ لأن الدين هنا هو الذي يتقمص المجتمع .
الإلحاد مجرد فهم للوجود فقط، بينما الدين هو طريقة لفهم الوجود بالإضافة إلى انه اسلوب حياة، صحيح بأن الإلحاد يرفض تفسير الوجود بالإله، لكنه في المقابل لا يقول لك افعل كذا أو لا تفعل كذا وكذا ولا يوجد به معيار للأفعال ولا يستوجب كذلك أن تكون يساريا أو علمانيا أو نباتيا أو نصيرا لقضايا المرأة وحقوق المثليين ..الخ، بل ولا يطرح أية نظريات أخلاقية، عكس الدين الذي يوجه المؤمن في كل علاقاته، انطلاقا من علاقته مع ذاته ومع الله و وصولا إلى علاقته مع العائلة والمجتمع والطبيعة، وهذا هو الفرق الجوهري والحقيقي بين الإلحاد وبين الدين .
عندما يتحول الإلحاد إلى أسلوب للحياة عبر التدخل في تفاصيل الإنسان وفرض مبادئ فكرية وأخلاقية معينة، فإنه سيتحول من مسمى الإلحاد إلى مسمى الدين الإلحادي، وشتان بين هذا وذاك !
وبالفعل، لطالما زخرت الثقافة الإنسانية عبر تاريخها وإلى اليوم بالعديد من الأديان الإلحادية والكثير من الملحدين المتدينين، فالديانة الجاينية مثلا لا تؤمن بوجود الله ومع ذلك هي ديانة وليست إلحادا، وكذلك ينطبق الأمر نفسه على بعض المدارس البوذية والهندوسية .
فعلى الرغم من أن هذه الأديان السابق ذكرها لا تؤمن بوجود إله كما ان الإلحاد كذلك لا يؤمن به، إلا أن هذا القاسم المشترك الذي يبدو لنا مهما، لم يكن كافيا لتجسير الفجوة بين الإلحاد والأديان، على عكس المعتقدات الربوبية التي تؤمن بوجود إله ولكنها في المقابل ترفض الأديان ولا تقترح أي تشريعات او معاملات ولا تقترح أي اسلوب للحياة، ما جعل العلاقة التاريخية بينها وبين الإلحاد علاقة متسمة بالهدوء والتقارب لدرجة جعلت كثيرين يخلطون بينهما، ومن هنا يتضح أن نقطة الخلاف الجوهرية والمؤثرة واقعيا في السجال الأزلي بين الإلحاد والأديان ليست وجود الذات الإلهية من عدمه، وإنما هي سعي العقائد لفرض أسلوب أخلاقي و روحاني معين وشامل وتنزيله على المجتمع، سواء من خلال مبررات إلهية، أو من خلال قوانين كونية كالكارما التي تؤمن بها بعض الأديان كالبوذية والهندوسية والويكا .
وبناء على أن الإلحاد ردة فعل على المجتمع المتدين الذي يتسم بكونه يعيش بأسلوب حياة موحد كممارسات لنظريات مصدرها الوحي المقدس، فإنه يفترض بالإلحاد أن يكون نزعة ذاتية فكريا وأخلاقيا، وأن يكون ظرفية مواتية لينشئ فيها المرء أفكاره ومبادئة بكل حرية انطلاقا من ذاته وبدون أي توجيه خارجي .
لكن هذا لم يحصل، إذ أن الإلحاد تعرض لمحاولات الأدلجة من طرف الملحدين أنفسهم سواء عن قصد أو غير قصد، حيث أن بعضهم وبتعبير أصح معظمهم يعتقدون بأن الإلحاد هو اسلوب حياة وليس مجرد موقف فكري من قضية الإله،ويروجون لهذه الفكرة أيضاً وإن سهوا، فهم لا يكتفون بالدعوة باسم الإلحاد إلى تبني مواقف فكرية وقضايا أخلاقية وممارسات معينة فقط، وإنما الشعور العام لديهم هو نبذ الملحد الذي لا ينسجم مع المواقف الأخلاقية التي يتبناها أغلبية الملحدين واللادينين، وهكذا تنشأ في ذهنية الناس علاقة لزوم بين الملحد وبين بعض القضايا التي لا تعكس دائما حقيقة الملحد، وغالبا ما تكون هذه القضايا حساسة وتبعث المجتمع على الاسترابة والتوجس، على سبيل المثال حقوق المثليين وقضايا المرأة والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج والحريات .. الخ .
فمن جهة أولى، يجد الملحد -الذي لا يتوائم مع المبادئ المتبناة من طرف الأغلبية- نفسه في مواجهة مع المجتمع، يخوض خلالها حربا لا ناقة له فيها ولا جمل، وما ذلك إلا نتيجة للأحكام المسبقة من المجتمع بسبب الاطلاقات والتعميم اتجاه الملحدين واللادينين، وللحق فهذا التعميم له مبرراته، إذ أن هذه القيم التي يتبناها أغلبية الملحدين يتم ترويجها باسم الإلحاد واللادينية وليس كأفكار شخصية .
ومن جهة ثانية، يجد نفسه في حرب اخرى وعلى جبهة أخرى ضد الملحدين الذين يتجمهرون حول تلك المبادئ .
وليس بالصدفة أن يعتنق هولاء اللادينيون كما كبيرا من الأفكار التي يرفضها المجتمع؛ لأن هذه مجرد صيغة من ردة الفعل التي تحول لها الإلحاد أو إلحاد الأغلبية أو ديانة الإلحاد، بعد اذ كان في شكله النقي أو الخام مجرد طريقة لفهم الوجود وموقفا عقلانيا من قضية الإله، تعبير غايته إيجاد هوية جديدة للملحد والملحدين عبر التبني التام من طرف الملحدين لتك القضايا المستفزة للمجتمع وتولي الدفاع عنها والتنظير لها، لثلاثة أسباب .
كل هذا دون التعاشي عن حقيقة صارخة تفيد بأن كثيرين ممن يعتنقون الإلحاد او اللادينية ويتبنون قضايا مثل حقوق المثليين والمرأة والحرية الجنسية، اختاروا الإلحاد واللادينية بسبب ميولاتهم الجنسية أو رفضا لما يعتبرونه ذكورية المجتمع أو غيرها من الدوافع الشخصية لا عن قناعة، فالتجمهر والإلتفاف حول تلك القضايا هو خير حل بالنسبة لهم لخلق مجتمع أو جماعة يستعيضون بها عن المجتمع الذي يرفضهم وبنتزع منهم القيمة.
حتما لا أقصد أن هذه الاستراتيجية ممنهجة دائما أو بالضرورة، ولكن اتحدث انطلاقا من السلوك الغير منظم الذي ينتهجه الملحدون والذي ينبع غالبا من لاوعيهم ويخلق عند الناس انطباعا عاما عنهم .
فهولاء الذين يتحدثون باسم الإلحاد ويرفضون أي ملحد أو لاديني يختلف معهم في قضاياهم عليهم معرفة بأن الإلحاد موفف فكري واسلوب لفهم الحياة وليس أسلوب حياة، وانه ليس بديانة وانهم ليسوا أنبياء .
والمجتمع مطالب بالتوقف عن الخلط بين الإلحاد كموقف فكري من قضية الذات الإلهية أو طريقة لفهم الوجود، وبين الإلحاد كمنظومة أخلاقية وفكرية تبحث عن هوية لها، التوقف عن الخلط بين الإلحاد الطبيعي وبين إلحاد الأغلبية أو ديانة الإلحاد ، فالإلحاد ليست له أي قيم ولا مبادئ معينة وبالتالي سقوط مقولات لطالما تغنى بها البعض من قبيل "قضايا الإلحاد"، فقضية الملحد تبقى قضية شخصية دائما، وأحيانا يمكن أن تكون هي قضية المجتمع المتدين نفسه وقد يتخلق بأخلاق المجتمع الذي انبسج منه ويتشبع بمبادئه وينصهر في ثقافته .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عواطف الأسدي: رجال الدين مرتبطون بالنظام ويستفيدون منه


.. المسلمون في النرويج يؤدون صلاة عيد الأضحى المبارك




.. هل الأديان والأساطير موجودة في داخلنا قبل ظهورها في الواقع ؟


.. الأب الروحي لـAI جيفري هنتون يحذر: الذكاء الاصطناعي سيتغلب ع




.. استهداف المقاومة الإسلامية بمسيّرة موقع بياض بليدا التابع لل