الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سلاطين و صلحاء بين الولاء و الجفاء

زهير شمشوب

2020 / 9 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تطورت العلاقة بين السلاطين و الصلحاء في تاريخ المغرب اطرادا، و ذلك عبر مراحل تطور تيار الصلاح و تمكنه داخل البنية الاجتماعية بشكل أصبح مساهما في تأطير المجتمع، و حل مشاكل عجزت السلطة المركزية في الكثير من الأحيان عن التصدي لها؛ فقد استطاع المتصوفة تحييد دور الفقهاء و محاصرته في زاوية الاتهام المقرونة بشبهة الظلم و الحرام التي تطال كل من يدور في فلك السلطان، كما أن تيار التصوف استفاد من محاولات القضاء عليه منذ حدث إحراق كتاب الإحياء (515هـ) بفعل ما ترتب عن ذلك من نتائج عكسية تمثلت في الانتشار السريع للممارسة الصوفية في البوادي و المدن، و اضطرار الموحدين في بداياتهم إلى استيعاب هذا التيار مادامت دعوتهم قد قامت على محاربة تجسيم الفقهاء.
لكن حالة التصالح هذه لم تصمد طويلا، و إن كانت تتم بحذر منذ مراحلها الأولى، و مع وصول المرينيين إلى الحكم ظهر توجه سلاطين هذه الدولة نحو "مأسسة" تيار التصوف عبر إنشاء زوايا جديدة و الإحسان للمحايدين من المتصوفة من جهة ، ثم من جهة أخرى، مواجهة المعارضين منهم للتوجهات السياسية للدولة، و قد قدمت محطات، من قبيل حصار كل من السلطانين أبي يعقوب و أبي الحسن لتلمسان (698هـ) (737هـ) على التوالي، و حملة السلطان أبي الحسن على إفريقية (748هـ) و أحداثا أخرى، أمثلة لهذه العلاقة، نورد بعضا منها في هذه الورقة.
لا تخفي المصادر مظاهر الغنى التي كان يرفل فيها بعض من شيوخ الصوفية من مال و جاه، فهاهو ابن قنفذ يذكر أن الشيخ بوهادي مصباح بن سعيد الصنهاجي كان ذا رأي في تدبير الدنيا فكان محل استشارة القواد، و كانت له في السفر راحلة تشبه راحلة القواد من قيطون و خباء و آلة طبخ و كلاب صيد، إلا أن هذه الوضعية من الأبهة، التي لا تتفق و حالة الزهد التي اشتهر بها شيوخ الصوفية، قد أثارت الشكوك حول "الحال الحقيقي" لهذا الشيخ و هي شكوك على ما يبدو كانت منتشرة إبان حياته ذلك أن "الألسن قد أجمعت على فضله بعد مماته"
لكن رغم ما يمكن أن توحي به هذه الوضعية من استفادة الشيخ من رضا السلطة الحاكمة، فإن حالات من الصدام بين الطرفين فرضت نفسها في أكثر من موقف.
تنقل المصادر مواقف للشيخ بوهادي برزت من خلالها معارضته للسلطة المركزية، خاصة ما ورد عن موقفه من السلطان المريني أبي الحسن، لما برز الشيخ لرد السلطان عن تونس و قابله لمراجعته في ذلك الأمر، إلا أن السلطان رفض طلب الشيخ ليرجع الأخير مغاضبا فلازم خلوته، "متوجها إلى الله في السلطان المذكور" إلا أن ابن قنفذ يجعل هذا القول من "لغط الناس"، مبرزا أن ما لحق بالسلطان من مشاكل كان بعد موت الشيخ بوهادي بسنين، فقد كانت نكبة السلطان أبي الحسن في البحر في مستهل شوال من سنة 750 في حين كانت وفاته في 23 ربيع الثاني سنة 752 أما الشيخ بوهادي فقد مات سنة 748هـ ، كما أن الوفاة التراجيدية للسطان أبي الحسن كانت كفيلة بأن تتعدد حولها الروايات، و من هذه ما يشير إلى أن ما وقع للسلطان كان بسبب رجل "عائن" سأله بعض الموثورين إصابة أساطيل السلطان الستمائة بالعين فكان كذلك.
لم يكن موقف الشيخ بوهادي الرافض لحملة السلطان أبي الحسن معمما على باقي شيوخ إفريقية، إذ برز رفض الشيخ البويوسفي لفكرة مراجعة السلطان فيما هو عازم عليه، كما رفض طلب الشيخ بوهادي الذي دعاه فيه إلى مؤازرته ضد السلطان، و بالنظر إلى نتائج مبادرة الشيخ بوهادي يبدو أن موقف الشيخ البويوسفي كان أكثر واقعية.

تسجل المصادر مواقف مشابهة قبل هذا التاريخ، بين السلطان أبي يعقوب يوسف المريني، جد أبي الحسن، و الشيخ أبي زيد عبد الرحمان الهزميري في شأن حصار تلمسان، فقد خرج الشيخ من أغمات متوجها نحو تلمسان سائلا السلطان إنهاء الحصار، لكن الأخير لم يقبل شفاعته، فتوجه الشيخ إلى فاس و كان تبتله بجامع الصابرين كافيا ليكون سببا في قتل السلطان أبي يعقوب بعد أيام قلائل
نفس الموقف تكرر مع السلطان أبي الحسن المريني لما عاود عمل جده فتم له فتح تلمسان سنة (737 هـ) بعد ثلاث سنوات من الحصار، وعند دخوله المدينة لم يستدع شيوخ الصوفية للنظر في أحوال الناس، بل إنه خرج وحاشيته إلى المسجد الجامع و "استدعى شيوخ الفتوى، الإمامان أبو زيد عبد الرحمان و أبو موسى عيسى" مما يشير إلى حالة من التنافر بين السلطان و صلحاء الوقت.
لقد تجاوزت مهام الشيوخ مواجهة مواقف السلاطين من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، إلى انصراف بعضهم نحو تولى مهام تسيير أمور الناس بما فيها النظر في قضايا المنازعات و غيرها، فهاهو الشيخ أبو الحسن علي اللجائي قد جعل للناس نفقات مرتبة بشكل يومي، و يتصدى لمهمة إيصال الحقوق و نصرة المظلوم، و تعتبر أحكامه نافذة تلزم المدعي و المدعى عليه "يدعى إليه الغريم كما يدعى إلى الحاكم و لا يتخلف بوجه" و يبدو من خلال كلام ابن قنفذ أنه منتبه للتطاول الذي وقع من طرف الشيخ على مهام السلطان، إلا أنه لا ينكر ذلك.
من ذلك أيضا سعي الشيخ أبي علي الرجراجي إلى تغيير المنكر بنفسه بل و انتقاله إلى إقامة الحدود على من يرى استحقاقه إياها، و قد ظهر في ذلك ظهورا تاما بفضل إجماع العامة و الخاصة على قبول فعله ذاك، و التزامهم أمره و نهيه إلى درجة أنه "لو قال هذا اقتلوه لقتل قبل تمام الكلام" كما كان يتفقد أمر القضاة و أصحاب الأحباس دون أن يلقى في ذلك إنكارا أو رفضا، لا من طرف السلطة الحاكمة و لا من طرف الناس فكان ظهوره ظهورا تاما.
لقد انتبهت نخبة المرحلة إلى هذا الظهور الكبير لشيوخ الطرقية، و لمست تأثيره على مكانة السلطة المركزية التي أصبحت في مرتبة أدنى تهادن و تخطب ود الشيوخ، إلا أن هذه النخبة في الكثير من الأحيان سلمت بهذا الواقع دون أن تنتقده أو تدعوا إلى تغييره، بل ذهبت إلى إيجاد تأويلات لتبريره رابطة إياه بالمكانة الروحية لهؤلاء، فالشيخ أبو علي الرجراجي مثلا "خاف الله تعالى فخاف منه كل شيء"
و قد برز انتشار رأي الصوفية في أواخر دولة بني مرين فقد ورد عن الشيخ أبي الحسن علي بن أحمد الصنهاجي، الشهير بالدوار، أنه كان يوما ينادي بقنطرة الصباغين من فاس" أخرجوا يا بني مرين و الله ما نترككم ببلادنا" و كان ذلك آخر انقراض دولتهم.
لماذا اتفق كل هؤلاء الشيوخ على إسقاط حكم بني مرين، الذين لم يحضوا لا بمساندة شيوخ الصوفية و لا نالتهم بركتهم، رغم ما كان من مواقف الإحسان التي أغدقوها عليهم؟ فالشيخ أبو الحسن علي الصنهاجي كان ينادي برفض حكم بني مرين و يدعو إلى إخراجهم من البلاد، و هو الذي كان قد نال الحظوة و الإحسان من طرف هؤلاء، فقد كان يدخل ديار ملوك بني مرين فتتلقاه النساء و الأولاد فيقبلون يديه و قدميه، و يدفعون إليه الحوائج الرفيعة و الذخائر النفيسة كما أنه كان يرفض ما يعطى له من ملوك بني مرين من خاصة الملابس الفاخرة التي كان يأخذها ليغمسها في الزيت، لكن ألا يمكن أن يفسر رفضه لهبات ملوك المرينيين و عبثه بما يعطاه من فاخر اللباس، على أنه رفض راسخ لدى الشيخ للمرينيين و حكمهم، غطته حالة الملامتية التي عرف بها؟ فكان الرفض السياسي مغلفا بطابع طرقي.
لما انهزم أحمد الوطاسي وتفرقت جموعه تبعته خيل محمد الأعرج و أخيه محمد الشيخ السعدي سنة (943هـ) فكاد أن يسقط أسيرا في أيديهم، فحضر هناك رجل على فرس أنثى يحول بينه و بينهم و يقول له: سر يا أحمد لا تخف، و سار معه إلى أن رجعوا عنه و أمن الطلب (كان الرجل هو الشيخ الزبير بن محمد المصباحي ترجع له في الممتع تحت عدد 138)
لا يتردد ابن قنفذ في إبراز فضل و علم الخليفة الحفصي المتوكل الذي كان يدعو للشيوخ خاصة جد ابن قنفذ الشيخ البويوسفي و تحقيقه لجميع مطالب الشيخ و حرصه على إرضاءه بل و ملاطفته بالقول: "لا تأخذ عنا يا سيدي و نحن أولادك" و رد الشيخ: "غيار الوالد عن الولد بالظاهر لا بالباطن" و هي ملاطفة متبادلة بين الشيخ و السلطان، بل إن بركة أبي مدين و ظهور عناية الشيخ البويوسفي تنال المنتسب إلى الزاوية فيكرمه العلماء و الصلحاء و السلاطين
من مظاهر تودد السلاطين للشيوخ أيضا، ما كان من دعوة السلطان أبو محمد عبد الله الغالب للشيخ أبي العباس أحمد بن موسى الجزولي (تـ 971هـ) عند قدوم الأخير مراكش رفض دعوة السلطان إلا بعد أن شرط الأخير على نفسه ألا يطعمه إلا الحلال، و مع ذلك لم يقبل الشيخ الشرط إلا بعد أن أقسم عليه السلطان.
لم يتورع السلطان إذا عن الإقرار بوجود شبهة الحرام في مطعمه بقبوله القسم للشيخ الجزولي على أن لا يطعمه إلا حلالا، كل ذلك من أجل نيل شرف حضور الشيخ إلى مائدته، لكن كل مجهود السلطان ذهب سدى، إذ أن الشيخ رغم قبوله دخول بيت السلطان، فهو لم يقبل الإصابة من طعامه حفاظا على سلامة قلبه إذ رأى أن "من يأكل طعام السلطان و هو حلال أظلم قلبه أربعين يوما، و من يأكله و فيه شبهة مات قلبه أربعين سنة"
كان الشيخ أبو العباس أحمد بن موسى الجزولي سبب البركة في ملك السلطان أبي محمد عبد الله الغالب، ذلك أنه أرسل في طلب شيخ من الشيوخ ليتعلم على يديه، و بعد بحث طويل تم التوصل إلى الشيخ أبي العباس أحمد بن موسى الجزولي فرحل السلطان إليه فخرج الشيخ ليتلقاه و هيأ له النزول... فمكت في ضيافته ثلاثة أيام فطلب منه أن يتخذه وسيلة إلى الله، و سأله مع ذلك تمهيد الملك و اعتذر له بأنه لا يمكنه العيش بدونه، و لا يأمن على نفسه، و لا تأويه الأرض إن هو تخلى عنه فقال الشيخ: "يا عرب، يا بربر، يا سهل، يا جبل أطيعوا السلطان مولاي عبد الله، و لا تختلفوا عليه" ثم انصرف السلطان إلى بلده فبقي مدة و هو مسكن في عافية، ثم أتى الترك إلى بوغاز طنجة و سبتة فخافهم فأبرد بريده إلى الشيخ سمعه يقول يا ترك ارجعوا إلى بلادكم، و يا مولاي عبد الله هناك الله في بلادك بالعافية فارتحل الترك من فورهم
من خلال هذه الرواية نخلص إلى أن السلطان كان يبحث عمن يتعلم على يديه و انتهى بحثه إلى الشيخ أبي العباس أحمد بن موسى الجزولي، فالسلطان تكلف الانشغال و التفكير و البحث عن الشيخ و تسخير الوسائل لأجل ذلك، ثم تجشم مشقة الرحيل إليه ليتتلمذ على يديه أولا، ثم يخلص إلى مطلبه الثاني ألا و هو اتخاذ الشيخ وسيلة في تثبيث ملكه، و على الرغم من تناقض المطلبين فإن الشيخ ساير السلطان في طلبه، ذلك أن المصادر تتحدث عن كون السلطان بعد دعاء الشيخ له بقي مسكنا ممهد الملك، و لا تتحدث عن أحواله في السلوك إلى الله، و هو الأمر الذي كان ظاهر رغبته في لقاء الشيخ.
و يبدو أن هم الملك و السلطة لازم السلطان في علاقته مع هؤلاء الصالحين؛ فهاهو يسأل الشيخ أبي عمر بن أحمد القسطلي الأندلسي المراكشي، و هو من الشيوخ الذين كان السلطان يقربهم، و يتبرك بمظلته، بل إنه حضر جنازته و "حثا التراب على قبره بيده"، يسأله عن وارث سره من بعده و كأنه يريد الاطمئنان على استقرار ملكه، الذي كان يرى أنه ما كان ليتم لولا فضل هذا الشيخ.
لكن في المقابل إذا تجاوز الشيخ العتبة المسموح بها من حيث الظهور و المكانة في أعين الناس، برز اعتراض السلطان، و قد برز الشيخ عبد الله بن حسين كنموذج صارخ لهذه الحالة، لما كثرت عليه الجموع بمراكش و "قصده الناس من كل ناحية" أرسل إليه السلطان الغالب "إما أن تخرج عني أو أخرج عنك، فخرج من فوره إلى تامصلوحت"
إذا كان الشيخ الجزولي سبب بركة السلطان الغالب فإن الشيخ أبو محمد عبد الله الكوش كان سبب سقوط السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ؛ ذلك أن الشيخ الكوش لما بعد صيته و انتشر ذكره وقع في نفس السلطان منه شيئا و خاف على ملكه منه، فأمر بإخلاء الزاوية و رحل الشيخ إلى فاس حيث سكن في دار ملاصقة لمسجد القرويين، و كان يقول لأصحابه إن الله يخرج هذا السلطان من داره في هذه السنة كما أخرجني من داري، فكان خروج السلطان بسبب حركة أبي حسون المريني ضده
لكن في المقابل فإن هذا السلطان كانت له مواقف صارمة تجاه عدد من فقهاء فاس ومكناس ممن عارضوا حكمه، منهم خطيب مكناسة الزيتون أبي علي حرزوز، و قاضي فاس أبي محمد عبد الوهاب الزقاق، وقبل أن يدخل فاس دخلته الأولى كان قد أوعز إلى قتل الشيخ أبي محمد عبد الواحد الونشريسي (ت955هـ) نظرا لمعارضة الأخير نقضه صلح آنماي و رغبته في الإطاحة بحكم السلطان أبي العباس أحمد الوطاسي.
لكن تاريخ العلاقة بين السلاطين و الصلحاء سيعرف منعطفا جديدا خلال القرن الخامس عشر، فقد سمح الدور الكبير الذي لعبته الجزولية في تمكن السعديين من الحكم، بانتشار التصوف الطرقي ليصبح شائعا بين عموم الناس، فتعاظم دور الصلحاء و مكانتهم الاجتماعية و السياسية لتظهر زوايا متصدرة للسلطة عند ضعف دولة السعديين و تفكك السلطة المركزية، و هو الوضع الذي لم ينته إلا بوصول العلويين إلى السلطة و توحيد البلاد تحت حكمهم وانتهاجهم سياسة جديدة تجاه وجوه الصوفية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تساؤلات داخل إسرائيل حول التحول بالموقف الدولي ضدها بعد اعتر


.. نتنياهو: اعتراف دول أوروبية بدولة فلسطينية -مكافأة للإرهاب-




.. وسائل الإعلام الإسرائيلية تناقش اعتراف 3 دول أوروبية بفلسطين


.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين تنشر مشاهد تظهر لحظة أسر مجندا




.. مظاهرة في القدس لعائلات جنود الاحتلال القتلى في معارك غزة