الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي

بلدوزر.. تجار حشيش و مقابر.. تاريخ ملاحقة الكتاب الرخيص

نائل الطوخي

2006 / 7 / 5
المجتمع المدني

تاريخ ملاحقة الكتاب علي أيدي العسكر هو تاريخ قديم و حاشد بالحرق و المصادرة و تسميم المفكرين و نفيهم. في سور الأزبكية وحده تغدو للملاحقة أبعاد مختلفة، إذ أن المستهدف من هذه الحرب هو الفكر منخفض السعر بالتحديد، مع زبائنه الدائمين، المثقفين الفقراء و بائعي الكتب الأكثر فقرا. في الأيام الماضية ترددت أخبار عن الإعداد لنقل السور إلي مقابر البساتين بسبب البدء في إنشاء المرحلة الثالثة لمترو الأنفاق حيث تزمع هيئة المترو إنشاء محطة تهوية في موقع السور مباشرة. أثارت هذه الأخبار هلعا بين البائعين، فلا أحد عاقل يرغب في مجاورة المقابر و الثعابين و العقارب، خاصة إذا كان تاجر كتب يعتز بمهنته التي لا يجيد غيرها .
أكد رئيس حي الموسكي، اللواء محمد عادل أحمد، لنا أن الخبر غير صحيح. قال أن تغيير موقع السور سيكون للخلف عدة أمتار، حيث سيحل محل الساحة المتواجد بها تمثال محمد فريد حاليا، و حيث يفترش عدد من الباعة الجائلين الرصيف، و الذي سيتم إخلاءه منهم، و تخصيص لكل بائع كتب مكتبة جديدة ستتكلف حوالي 10750 جنيها، و الكلام لسيادة اللواء. أضاف أن السبب في هذا هو محطة التهوية التي ستفتتح في مكان سور الأزبكية و أن هيئة مترو الأنفاق هي من ستتحمل كافة نفقات إنشاء ال132 مكتبة الجديدة تعويضا منها للبائعين. هذا الخبر ليس جديدا، أو أنه ليس جديدا بما يكفي ليكون مأساويا للبائعين، و الذين يحتفظون في ذاكرتهم بتاريخ أكثر مرارة من النقل و المطاردة و ملاحقة البلدية لهم، فإذا كان السور قد انتقل صعودا و هبوطا من جبل الدراسة سابقا، إذن ما الذي تثيره ملاحقتهم عدة خطوات للخلف غير الذكريات المريرة عن السلعة القيمة منخفضة الثمن التي تداس في طريقها، بينما تحظي نظيرتها الغالية بأفخم الأماكن لعرضها.

***

بدأ الأمر منذ عقود طويلة بأحمد الحكيم الكتبجي و الذي انتقل عام 1923إلي سور الأزبكية، مع الكتب التي كان يبيعها، هاربا من مطاردة البوليس للباعة في شوارع الأزهر. بدأ يشتري الكتب من تجار الجمالية و من بائعي الروبابيكيا و يعيد بيعها. في عام 1952سيتم منح الباعة تراخيص لمزاولة عملهم علي يد فؤاد سراج الدين وزير الداخلية آنذاك، حيث سيكون عدد البائعين قد وصل أربعين بائعا. سيعرف الكتاب الرخيص حينها بعض الاستقرار النسبي، حيث هذه الفترة هي التي أسست لاسم سور الأزبكية الذي كان مرتبطا وقتها بمضمونه.
لن يكون للأمر مشهديته الدرامية إلا في عام 1983، حينما سيحضر بلدوزر و يهدم بعض المكتبات في خطوة نحو هدم السور بكامله. سيطلب من الباعة إخلاء مكتباتهم لهدمها. سيرفض محمد علي، صاحب مكتبة الوعي الإسلامي التي لا تزال موجودة حتي الآن، الإخلاء. سيتم هدم مكتبته بالبلدوزر أمام عينيه لإخافة سائر التجار، و الكلام لعم محمد أبو عتاب أحد باعة الكتب المخضرمين بالسور. ستغطي جبال الكتب أرض الشارع و سيطلب الباعة مساعدة المارة في تحميل كتبهم علي الميكروباصات إلي بيوتهم. حينها انتقل السور من شارع حمدي سيف النصر إلي امتداد شارع فؤاد، يسترجع محمد إبراهيم، البائع المخضرم بالمكتبة الإبراهيمية بالسور، عملية النقل إلي امتداد شارع فؤاد، واصفا إياها بأنها معركة 5 يونيو، حيث تمت العملية في هذا اليوم الذي لم يكن كارثة عسكرية فحسب و إنما كارثة ثقافية كذلك، علي حد تعبير المخرج رأفت الميهي في أحد أفلامه. ¢وضعونا علي بنوك فارغة في امتداد شارع فؤاد لشهرين كاملين. بعدها قالوا لنا أن لكل واحد منا أربعة أمتار, متران لعرض الكتب و متران فارغان لكي تظهر الحديقة من وراءنا. بعدها هدموا الحديقة غير أن هذا لم يزد مساحة المترين الذين نمتلكهما. ظللنا محصورين في هذا المكان الضيق¢.

***

في عام 1993 حدثت نقلة أخري. أمرت البلدية بإزالة أكشاك الكتب الموجودة في امتداد فؤاد استعدادا لإنشاء محطة مترو العتبة. سيزور أحد المسئولين بالمحافظة في هذه الأيام سور الأزبكية و سيقول للبائعين ¢شيلوا الزبالة دي من هنا¢ كما كتبت مجلة المصور وقتها. بعدها سيجلس عم محمد أبو عتاب أكثر من عشرة أشهر و نصف في البيت. لن يجد ما يفعله إلا انتظار رحمة محافظ القاهرة حينئذ عبد الرحيم شحاتة. يصف هو هذه الفترة بأنها شهدت أكبر معاناة لبائعي السور. يقول بأن زملاء له كانوا يفرشون الكتب علي أرصفة ميادين القاهرة مثل رمسيس و التحرير، في محاولة منهم للتحايل علي البطالة، و منهم محمد إبراهيم، و الذي يصف تجربة وضع كل أربعة منهم علي عامود في شارع الأزهر قبل أن يعترض المرور و يضطر الباعة للجلوس في المنازل قبل صدور قرار نقلهم إلي جبل الدراسة الذي تأخر عشرة أشهر. يحكي ذكريات عن بيعه الكتب علي الأرصفة، و أمام جامعة القاهرة بالتحديد، أثناء فترة البطالة الطويلة. هناك ستطارده بلدية محافظة الجيزة، باعتباره منتميا إلي محافظة القاهرة، و عندما يتم القبض عليه و مصادرة ما يحمله من الكتب لم يكن يسمح له باستردادها إلا بعد دفع غرامة تبلغ مئة أو خمسين جنيها.
في الدراسة لم يجاور بائعو الأزبكية المشرحة فحسب، و إنما كذلك تجار الباطنية. كل هذا كان ¢يقلل رجل الزبون¢ علي المنطقة. كان يتم تفتيش الباعة يوميا خوفا من حمل أحدهم للحشيش بين ملابسه. كذلك كانت الغربة عنصرا مساعدا في تحويل جبل الدراسة إلي جحيم بالنسبة للباعة القادمين من حدائق الأزبكية. يقول عم محمد أبو عتاب ¢ظللنا سنة و نصفا لا يعرفنا أحد. كان يدخل السور علي الأكثر عشرة أو خمسة عشر زبونا في اليوم الواحد.¢

***

الآن الباعة موجودون بجوار حديقة الأزبكية، و التقسيم الموجود حاليا بين أماكن المكتبات هو تقسيم غير عادل. يصف عم محمد هذا التقسيم بأنه يقتل المكتبات الموجودة بالداخل و عددها ثمانين مكتبة. حيث تعاني هذه المكتبات الداخلية من عدم وجود زبون إذ الباب الخلفي للسور قد أغلق بقرار من المحافظة خوفا من هروب الباعة الجائلين من شرطة المرافق، إذ كانوا يستغلون مداخل سور الأزبكية للهرب منهم. و مع إغلاق هذا الباب قل الزبون بشكل ملحوظ للغاية. لا يفهم عم محمد، كأي فقير أصيل، منطق إغلاق الرحمة علي تجار فقراء للكتب بدافع ملاحقة تجار آخرين، و فقراء كذلك، لسائر السلع. يستفهم عن سبب إنشاء سور يتكلف 30 ألف جنيه لا ينتج عنه إلا جلوس ثمانين تاجرا بلا زبون واحد.
وعد رئيس الحي بعدم تغيير موقع سور الأزبكية إلا عدة أمتار. و لكن أحد البائعين قال لي صراحة أنه لا يثق في الحكومة. و إذا أضفنا إلي هذا موجة الهلع التي سادت التجار مع الإشاعات التي ترددت عن نقلهم لمقابر البساتين، لوجدنا مظهرا إضافيا من مظاهر عدم الثقة هذه، و هي عدم الثقة التي لا يمكننا إرجاعها إلي البائعين و لا إلي الصحف التي أثارت هذه القضية، و إنما فيمن يعتبرون الكتب ¢زبالة¢ يجب دوما أن تنقل من هنا، حتي و لو لتحريكها خطوات قليلة للخلف.

التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي

اخر الافلام

.. المئات يتظاهرون في إسرائيل للمطالبة بإقالة نتنياهو ويؤكدون:

.. موجز أخبار السابعة مساءً - النمسا تعلن إلغاء قرار تجميد تموي

.. النمسا تقرر الإفراج عن تمويل لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفل

.. طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة يعيش حالة رعب ا?ثناء قصف الاحتل

.. النمسا تقرر الإفراج عن أموال -الأونروا- التي تم تعليقها سابق

الحوار المتمدن - موبايل الموقع الرئيسي (adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({}); بلدوزر.. تجار حشيش و مقابر.. تاريخ ملاحقة الكتاب الرخيص

نائل الطوخي

الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي

بلدوزر.. تجار حشيش و مقابر.. تاريخ ملاحقة الكتاب الرخيص