الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أركيوبتركس

مصطفى مجدي الجمال

2020 / 9 / 24
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها


أظن أنه طوال العقد الأخير من حكم عبد الناصر لم نكن نسمع عن الناصرية كأيديولوجية ولا كتيار سياسي. كنا نسمع فقط عن عبد الناصر الزعيم الفذ الملهم.

وحينما أنشئت منظمة الشباب الاشتراكي بدوراتها التثقيفية التي أشرف عليها ماركسيون سابقون أو متأثرون بالماركسية، فقد حرص المنظمون على الترويج لـ "الاشتراكية العربية" (وأمعن البعض في تعريفها بـ "التطبيق العربي للاشتراكية العلمية") وكانت المحاضرات والمناقشات في مجملها تعتمد "ميثاق العمل الوطني" مرشدًا لها.

ورغم ذلك فقد كانت الأيديولوجية اليمينية تعبر عن نفسها أيضًا في كل مؤسسات الدولة، وهو ما وضع التيار اليساري في منظمة الشباب الاشتراكي (وفي تنظيم "طليعة الاشتراكيين" الحكومي أو ما عرف بـ "الجهاز السري") تحت ضغط جعله يستسلم للتشديد على سبعة فروق رئيسية فيما أذكر بين أيديولوجية النظام والماركسية: الدين، القومية، الملكية الخاصة، الصراع الطبقي، الدموية...الخ.

غير أنه بعد وفاة عبد الناصر انتقل فريق كبير من أبناء نظامه إلى صف السادات بحجج وتنظيرات مختلفة، غير أن الأساس كان المصلحة الطبقية والذاتية والحفاظ على الأوضاع الحكومية. إلا أن هناك فريقًا كان في مناصب عليا في نظام عبد الناصر (أسماهم السادات "مراكز القوى") لم يكن أمامه مفر من الاصطدام وتبعه قطاع من الشباب في المنظمة أو الجامعة عمومًا.

ومع ازدياد وقاحة نظام السادات بالتحول من نفاق عبد الناصر إلى الانقلاب الكامل عليه، بدأ التيار المناوئ للحكم يميز نفسه عن هذا بالتركيز على أنه المنتمي الصادق لأفكار وأفعال عبد الناصر.. وتم استيراد مصطلح الناصرية من سياسيين شوام للإشارة إلى تيارهم المناوئ للسادات.

ومن المؤسف، وربما من الطبيعي جداً، أن التيار الناصري العريض قد دخل في دورات انقسامية حادة زادتها تدخلات عربية بوسائل مختلفة بعضها غير شريف. ومن الغريب أن معظمهم في فترة السبعينيات قد توافقوا على رفض أي تحالف مع الماركسيين، بل والحرص على إعلان التمايز عن الفكر الماركسي وربما التهجم عليه.

وكان التيار الماركسي قد أخذ يتكون من روافد متعددة: الشيوعيون القدامى، وأبناء منظمة الشباب الاشتراكي وبعض أعضاء التنظيم الطليعي السابقين الذين انتقلوا إلى مصاف الفكر الماركسي، وبعض قيادات الحركتين الطلابية والعمالية الاحتجاجيتين الذين تحولوا من وعي وطني عام أو نقابي خاص صوب الفكر الماركسي. وتعرض التيار الماركسي عمومًا لهزات انقسامية عنيفة تحدثت عنها في مواضع أخرى.

وبالنسبة لموضوعنا هنا، فقد اتسم موقف الماركسيين من ثورة يوليو بالتباين الكبير، وهو ما انعكس أيضًا على العلاقات بين التيارين رغم تعرضهما معًا لهجوم عارم واحد من نظام السادات وحلفائه من الإسلاميين واليمينيين عامة. فكان هناك من يعتبر أن ثورة يوليو قد أخرت والتفت على إمكانيات تطور النضال الشعبي في مصر، كما كان هناك من اعتبر أن ولاءات الماركسيين للأممية يناقض الانتماء الوطني، وهكذا كانت هناك درجة من التنافر بين التيارين، زادها تفشي مرض الزعامة الشخصية والشللية والحلقية.

وازداد الأمر سوءًا مع إنشاء منبر التجمع (الحزب فيما بعد) حيث رفض معظم الناصريين الانضواء فيه، أما من دخل منهم التجمع فسرعان ما ذهب إلى صدامات قوية مع ماركسييه، وللأسف كانت جلها صراعات ذاتية توشحت بالفكر والسياسة وأدت في النهاية إلى خروج معظم الناصريين من التجمع.

في هذه الفترة من السبعينيات كان بعض الناصريين يراهنون (وكان هذا واضحًا بشكل خاص في لقاءات ناصر الفكرية بجامعة عين شمس) على مقولة أن "الشارع ناصري" ومن ثم رأى قطاع منهم أن الشعار الممكن هو "إعادة تثوير الاتحاد الاشتراكي" وليس إنشاء حزب ناصري لأن الفكر الناصري عندهم ضد التحزب والحزبية.. ثم تبين فيما بعد أن تنظيمات ناصرية شديدة السرية كانت تتشكل وتتمتع بدعم خارجي.

ومن تجاربي الشخصية في هذا الشأن أنني كنت أحضر لقاءات ناصر الفكرية بدعوة خاصة، وحدث في لقاء عام 1975 أن تساءلت عن سبب تلكؤ الناصريين في إنشاء تنظيمهم الخاص فجاء الرد علي عاصفًا بأن وقف أحد زعماء التيار واتهم هذه الدعوة مني بأنها "مؤامرة خبيثة لتدمير التيار الناصري من داخله". بل تطور الأمر إلى حد مناقشة البعض اقتراح طردي من اللقاء لكن أغلب القيادات رفضت ذلك بحسم، لأنني "الأقرب إليهم على الإطلاق" من كل تياري.

كانت فكرتي الحاكمة وقتذاك (ومازالت) أن أقرب تيارين لبعضهما في معسكر الوطنية التقدمية المصرية هما التياران الناصري والماركسي. وطبعا سيظل داخل كل تيار جماعات مناوئة بحدة للتيار الآخر.. لكن هذا على المستوى الذاتي/ التنافسي أما على المستوى الموضوعي/ النضالي فأرضيتهما متقاربة على الصعيد المرحلي بل والأمد المتوسط.

ومن المضحك أن بعض الناصريين كانوا يهاجمون بحدة أي ناصري يستفيد من منهج التحليل الماركسي أو حتى يتعاون نضاليًا مع الشيوعيين. وبالمقابل كان هناك ماركسيون يسخرون من كل رفيق يذكر محاسن لثورة يوليو، إلى حد نفي الماركسية تماما عنه واعتباره ناصريًا، أي في درجة أدنى من التطور الفكري.

وبالطبع كانت الأجهزة الأمنية المحلية والخارجية وأحزاب عربية تلعب دورًا مهمًا في تأجيج هذه الصراعات الخائبة التي لا تستطيع التفرقة بين الاختلاف الحزبي والوحدة الجبهوية.

وكنتُ كلما حضرت مؤتمرًا أو تجمعًا طلابيًا وقتذاك يسألني من يوافقون ومن يعارضون رأيي: "أنت ماركسي أم ناصري يازميل" فأجبت مرة بطريقتي التلقائية المعروفة لدى أقراني: "أركيوبتركس"!!

ظن البعض أول الأمر أن هذا تيار فكري أوربي مثلاً!! فطلبوا مني الإفصاح عن كنهه. فقلت إن الأركيوبتركس هو الكائن الذي افترض علماء نظرية التطور وجوده، واعتبروه الحلقة المفقودة بين الزواحف والطيور.. وقد اكتشفت حفريات له فيما بعد بما يؤكد نظرية التطور.

كان النقاش عادة يتحول إلى جو رفاقي مرح.. إلى أن أمسك أحدهم بخناقي ضاحكًا: وأي من التيارين تعتبره من الزواحف ياصاحبي؟!!

قد تفرق الأيديولوجيا بين التيارين، ومع ذلك فكل منهما يستفيد من الآخر، فيتعمق البعد الاجتماعي الطبقي عند كثير من الناصريين، كما يتأكد لدى كثير من الماركسيين أن طرق التوجه صوب الاشتراكية ليست نمطية إجبارية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكر
فؤاد النمري ( 2020 / 9 / 24 - 03:18 )
شكراً للرفيق مصطفى
لقد غاب عنا طويلاً وليته يكتنب عن التاريخ الحديث
وأن يدعوه الحوار المتمدن لمحاورة القراء
مع فائق التقدير

اخر الافلام

.. بودكاست -غزة اليوم- حلقة وصل بين ضيوفنا الغزيين في الاستوديو


.. أبرز الأحداث التي عاشها قطاع غزة منذ بدء هجوم السابع من أكتو




.. تجدد القصف الجوي على صور


.. إطلاق رابع رشقة صاروخية من غزة نحو مواقع إسرائيلية




.. تونس: فوز قيس سعيد بولاية رئاسية جديدة حسب استطلاعات لآراء ا