الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة كرونولوجية في الفكر التأويلي

سلام المصطفى

2020 / 9 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يقول الفيلسوف "فريدريك نيتشه" : " ليست هناك حقائق ...هناك فقط تأويلات " , و يقول المفكر الفرنسي "بول ريكور" في كتابه "الهيرمينوتيقا و نقد الأيديولوجيات" : " إن من لا يتمكن من إعادة تأويل ماضيه , لا يكون قادرا أيضا على أن يبني بشكل مشخص تصورا استباقيا عن مصلحته الخاصة لأجل التحرر " .
يبدو من الوهلة الأولى أن موضوع الهيرمينوطيقا من المواضيع الهامة و المرموقة في الفكر الفلسفي المعاصر لا سيما في إبستيميته , فالإنسان في هذا النظام المعرفي المعاصر هو "كائن هيرمينوطيقي" , فالعقل التأويلي يمثل الإله الأخير في معبد الفكر بعد العقل الأنطولوجي و العقل الإبستيمولوجي , و الهيرمينوطيقا أو نظرية التأويل هي مبحث خاص بدراسة عمليات الفهم , و خاصة فيما يتعلق بتأويل النصوص و الخطابات التاريخية , فنحن نعيش في العالم و في التاريخ و في الشهادة و لسنا نعيش في عالم و تاريخ آخر بل في تاريخنا و عالمنا و كل معنى هو معنى متعلق بوجود تاريخي عيني محدد , معنى مرتبط و تاريخية معينة , ويشتمل وجودنا ككائنات على موقفنا و موقعنا , و على أدوات في متناول أيدينا نتناول بها العالم و نفصح عنه , و على فهمنا المسبق للعالم , و الهيرمينوطيقا مرت بالعديد من المراحل ابتداءا من نظرية تأويل النصوص الدينية و انتهاءا كتيار فكري فلسفي معاصر , و في هذا المقال سنسلط الضوء على هذا العلم (الهيرمينوطيقا) و تاريخه و علاقته بالعلوم الإنسانية و الفكر الفلسفي , و هنا وجب الإشارة إلى أن الهيرمينوطيقا اقتحمت مجال العلوم الطبيعية المعاصرة , فالفيزياء المعاصرة مثلا أصبح واقعها افتراضي و مصنوع يؤوله الفيزيائي رياضيا بما و يتوافق مع النتائج التجريبية .
تعد الهيرمينوطيقا أحد التيارات الهامة في الفلسفة و الفكر المعاصر , و التي اشتغلت على مختلف النصوص القابلة للفهم و التفسير , و مصطلح الهيرمينوطيقا مصطلح قديم بدأ استخدامه في الدوائر اللاهوتية ليشير إلى مجموعة من القواعد و المعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني , و الهيرمينوتيقا كأي مفهوم وجب تفكيكه إيثيمولوجيا , فنجد أن هذا المفهوم أتى من فعل اليوناني Hermeneum و يعني "يفسر" و الإسم Hermenéca يعني "التفسير" و يبدو أن كلاهما يتعلق لغويا بالإله "هرمس" رسول آلهة "الأولمب" , الذي كان بحكم وظيفته بتقن لغة الآلهة و يفهم ما يجول بخاطر هذه الكائنات الخالدة , ثم يترجم مقاصدهم و ينقلها إلى أهل الفناء من بني البشر .
و الآن سنحاول أن نعرف هذا المفهوم , و قبل تعريفه وجب الإشارة إلى صعوبة إعطاء تعريف محدد و مؤطر للهيرمينوطيقا , كونها مرت بالعديد من المراحل الفكرية و أصبح تعريفها محدد نسبة للتيارات الفكرية التي تنتمي لها , و حتى استعمالاتها فمتعددة فإذا تكلمنا من ناحية إصطلاحية سنجدها ترادف التحول و الشرح و التفكير و المعنى و القدرات و الملامح و البيان و الوضع , أما من ناحية استعمالها الفلسفي سنجد كلمات مثل الشرح و التفسير و النص و الكتاب و الرمز و الدين و تأويل الوجود الإنساني أو الواقع الإنساني , أما بنسبة لتعريف الهيرمينوطيقا ففي المرحلة الأولى عرفت كنظرية لتأويل الكتاب المقدس , و في مرحلتها الكلاسيكية و الرومانسية عرفت كعلم الفهم اللغوي و الأساس المنهجي للعلوم الإنسانية (شلايرماخر-ديلتاي) , أما مرحلتها الفلسفية فقط اعتبرت كفينومينولوجيا للوجود و الفهم الوجودي (هايدغر-غادامير) , و مرحلتها الأخيرة تتجلى في ما هو تأريخي وعلمي و إجتماعي و سياسي و بنيوي و تفكيكي ..الخ (ريكور-دريدا-هابرماس-فوكو-إيكو ..) , و الآن سنمر إلى تناول هذه المراحل أو التحولات التاريخية لهذا العلم , و جنيالوجيا هذا المفهوم بالتفصيل و الترتيب الكرونولوجي .

1-المرحلة الأولى (أرسطو-القديس أوغسطين –كلادينيوس)
لقد ارتبط مفهوم الهيرمينوطيقا عند الإغريق بالإله هرمس الذي كان يمثل الدور الوسيط بين الآلهة و البشر , ذلك أن هرمس كان يقوم بعملية شرح و تفسير الرمز المغلق للناس و فك الطلاسم , و الشيء الذي يجعل وجود الوسيط ضروري هو ذلك الإختلاف الموجود بين لغة الآلهة و لغة البشر , فالوسيط هو البون الفاصل بين تفكير الآلهة و تفكير البشر .
و مفهوم التأويل ظهر مع الفيلسوف اليوناني الكبير و المعلم الأول "أرسطوطاليس" فقد رأى أن اللغة هي الوسيط بين الأفكار و المتلقي أي أن التأويل عند "أرسطوطاليس" هو "التعبير" , فهذا الأخير هو الفهم الذي يخرج من الأفكار للوصول إلى المتلقي , و المصدر الأول للهيرمينوطيقا ظهر مع "القديس أوغسطين" بالمعنى الحقيقي للمصطلح حيث يقول " إن الإنسان يخشى الله و يبحث بعناية عن إرادته في الكتابات المقدسة , و يجب أن يباشر مناقشة و توضيح المقاطع الظنية في النص المقدس " , فالكتاب المقدس مليئ بالرمزيات و بالتالي وجب تأويله و تحويله من معناه الظاهري إلى معناه الباطني , و على الإنسان أن يكون متوافرا أو جاهزا لبعض الشروط حتى يبلغ درجة تأويل النص الديني و فك غموضه و من بين هذه الشروط :
-أن يكون يخشى الله و البحث عن إرادة الله في الكتابات المقدسة .
-أن يبلغ أشد درجات التقوى التي يستطيع بها أن يتجاوز الغموض الموجود في هذه النصوص .
-أن يكون ذو كفاءة حتى لايفشل في الوصول إلى الحقيقة .
لعب "القديس أوغسطين" دورا كبيرا في ازدهار و بناء علم الهيرمينوطيقا , و بعده سيأتي "كلادينيوس" الذي يمثل نموذجا مثاليا للفكر التنويري , فأبحاثه بمجملها تنصب على قضية التأويل , فقط كان "كلادينيوس" ينادي بتأسيس منفصل للتأويل يتميز عن كل من الفيلولوجيا أو فقه اللغة و نقد النصوص , و كان السؤال الأساس الذي يشغله هو : هل بالإمكان وضع قواعد أو أحكام لعملية التأويل ؟ و جوابه يتجسد في جهده و توسعه في هذه الإشكالية , و الهيرمينوطيقا عند "كلادينيوس" هي فن تقني ضروري للدراسات التي تعتمد على تأويل النصوص كالتاريخ و الشعر و اللاهوت و القانون و الإنسانيات , ببساطة هذه كانت رؤية موجزة للهيرمينوطيقا في مرحلتها الأولى , فقط وجب الإشارة إلى أن هذا العلم في مراحله التوليدية ظهر عند العرب فلا ننسى مجهودات المعتزلة في عملية تأويل الآيات القرآنية لتتوافق مع العقل كما فعل "واصل بن عطاء" و "القاضي عبد الجبار" , و كذلك الشيخ الأكبر و الفيلسوف المتصوف "محيي الدين إبن عربي " في منهجه الصوفي التأويلي لرمزيات الآيات القرآنية , بالإضافة إلى قاضي القضاة "أبي وليد إبن رشد" في تقسيمه للآيات القرآنية إلى قسمين : الأولى ظاهرية للعوام و الثانية باطنية للفلاسفة و الفقهاء و المفسرين , و هذه الآيات الباطنية وجب تأويلها و البحث عن معناها الباطني .
بعد المرحلة الأولى و من هذا المنطلق أصبحت الهيرمينوطيقا علما قائما بذاته المسمى بعلم التأويل و أصبح يشمل النصوص الدينية و الغير الدينية كالتاريخية و العلمية و الاجتماعية و الأدبية و غيرها من الميادين .

2-المرحلة الكلاسيكية (شلايرماخر-دلتاي)

-الهيرمينوطيقا عند شلايرماخر
يعد "شلايرماخر" من أبرز المفكرين الألمان الذين أسهمو في نقل المفهوم (الهيرمينوطيقا) من الإستخدام اللاهوتي إلى الإستخدام العلمي أو الفني و جعله علما قائما بذاته يقوم بنفسه بعملية الفهم و التفسير و "فريدريك شلايرماخر" كان لاهوتيا و فيلسوفا مثاليا ألمانيا , و لم ينل ما يستحق من الشهرة في مراجع تاريخ الفلسفة المتداولة , فقط كان منصرفا إلى اللاهوت بشكل رئيس , و يعتبر شلايرماخر أبا الدراسات الثيولوجية و الدينية الحديثة , و كان شلايرماخر هو من مهد الطريق للفلاسفة الذين جائو من بعده للبحث عن التفسير و الفهم في العلوم الإنسانية , و كان هدف "شلايرماخر" هو تأسيس هيرمينوطيقا عامة وصفها بأنها فن الفهم .
وضع "شلايرماخر" أول تعريف دقيق نسبيا للهيرمينوطيقا في العصر الحديث , و ذلك بقوله : " فن امتلاك الشروط الضرورية للفهم " , ثم يشير إلى أن الفهم مهمة لامتناهية و للنص تفسيرات متعددة غير متناهية , تكون هذه التفسيرات بعدد المفسرين و خلفياتهم الفكرية , أصر "شلايرماخر" أولا على أن القراءة "فن" و على قارئ النص أن يكون فنانا بنفس القدر الذي يكون عليه مؤلف النص , بمعنى آخر اعتبر "شلايرماخر" أن القراءة فعل إبداعي كما هي الكتابة أيضا , كما يقول : " إن الهيرمينوطيقا تتغير باستمرار , و التفسيرات كلها تحث فقط على السعي لتحصيل رؤى جديدة " , و يصر أيضا على أن يفهم المفسر النص كما يفهمه مؤلفه , و بعد ذلك يتوجب عليه فهمه بشكل أفضل من المؤلف .
و يشير "شلايرماخر" على أن القارئ و المؤلف يشتركان في اللغة من أجل تأسيس الهيرمينوطيقا عامة , و قد وصف هذه الهيرمينوطيقا بفن الفهم و يقول يجب على مفسر النص أن يفهم النص كما يفهمه مؤلفه , و بعد ذلك يتوجب عليه فهمه بشكل أفضل من المؤلف , و لكي يفهم القارئ قصد المؤلف وجب أن يقوم بعمليتين أساسيتين الأولى تسمى "التـأويل النحوي" و الثانية "التأويل التقني أو السيكولوجي" , فالتأويل الأول ذو اتجاه موضوعي يسعى إلى اكتشاف الحدود اللغوية التي تكون "النص المؤلف" , باعتبار أن اللغة هي الوسيط بين المؤلف و القارئ , و التأويل الثاني وهو ذو اتجاه ذاتي و سيكولوجي يكون بواسطته معرفة ذهنية المؤلف بإعادة بنائه التاريخي و اكتشاف تأثير اللغة في التعبير عن أفكاره الداخلية ليغدو المقصود هو فهم المؤلف و ليس فهم النص أو فهم النص باعتباره تجربة حية عن حياة المؤلف , و يشير "شلايرماخر" أن عملية فهم النص تمر بطريقة التفسير و يكون ذلك بمعايشة أفكار المؤلف لهذا النص و نفسيته , و يجب على التفسير أن يكون هدفه هو الشعور , بالظروف التي مر بها المؤلف , فالفهم كما يراه "شلايرماخر" هو فن إعادة بناء التفكير من خلال تفسير حديثه .

-الهيرمينوطيقا كمنهج للعلوم الإنسانية عند فيلهلم ديلتاي
بدأت الهيرمينوطيقا الحديثة مع "شلايرماخر" , لكنها لم تنحصر بجهوده بل تعدته إلى أشخاص آخرين , و يعد "فيلهلم ديلتاي" الشخصية الثانية المؤثرة في هذه الحقبة الهيرمينوطيقية , فمضافا إلى قبوله لهواجس "شلايرماخر" و جعل هدفه متابعة سعي "شلايرماخر" .
بعد وفاة "شلايرماخر" انحسر طرح توسعة الهيرمينوطيقا العامة بشكل تدريجي و صارت تستخدم في مجالات خاصة من قبيل التأويل التاريخي , لكن في أواخر القرن التاسع عشر , تابع "فيلهلم ديلتاي" عمل "شلايرماخر" , و عمل أيضا على توسعة مجال الهيرمينوطيقا , لقد سعى لكي يكون علم الهيرمينوطيقا بمثابة مبنى منهجي لكل العلوم الإنسانية و الاجتماعية , أي مبنى لتأويل النصوص و الكلمات و السلوك الإنساني و الأفعال التاريخية و الأثار الفنية و الأدبية , كان هاجسه الأساس تشييد مناهج للوصول إلى تأويلات صائبة موضوعيا لتعبيرات الحياة الداخلية .
يرى "ديلتاي" أنه يوجد فرق أساس بين العلوم الإنسانية و العلوم الطبيعية , لأن العلوم الإنسانية لا تبحث عن الوقائع و الأحداث المرتبطة بالإنسان الساكت , بخلاف العلوم الطبيعية التي موضوعها الوقائع و الظواهر المرتبطة بالإنسان الساكت و الذي لا يبدي أي ردة داخلية أو باطنية ( و هنا وجب الإشارة إلى أن "ديلتاي" كان يجهل بتطورات العلوم الطبيعية المعاصرة , لأن الفيزياء المعاصرة أثبتت تدخل الذات في الموضوع و العكس الصحيح , لكن هذا موضوع آخر و لايهمنا الآن ) , و يشير "ديلتاي" إلى أن منهج العلوم الطبيعية مبني على الإستقراء العلمي , بينما يعتمد منهج العلوم الإنسانية على التأويل , فالإنسان يصنع التاريخ .
اعتبر "ديلتاي" نفسه أنه مكملا للفكر النقدي لكانط , فكما أن "كانط" شيد المباني المعرفية للعلوم الطبيعية في كتابه "نقد العقل المحض" , كذلك فعل "ديلتاي" في العلوم الإنسانية في كتابه "نقد العقل التاريخي" , فهو يعتقد أن ما ذكره "كانط" لا يكفي في بيان العلوم التاريخية و لا يناسبها أيضا .
أخذ التأويل أهمية خاصة مع "ديلتاي" الذي فرق بين العلوم الطبيعية و العلوم الإنسانية , ذلك أن كل منهما و منهجه الخاص , فالأولى تعتمد على الشرح أي أنها تشرح الظواهر , أما الثانية فاعتمدت على الفهم لأنها تفهم الظواهر , و انطلق "ديلتاي" من مشكل الفهم التاريخي و إرادته في "نقد العقل التاريخي" مكنته من تدشين التفكير الإبستيمولوجي حول العلوم الإنسانية حيث كان همه المعرفي هو إيجاد براديغم و قاعدة العلمية تستند إليها الإنسانيات , و هذه القاعدة تتمثل في الفهم , فمن خلال الفهم يمكن التعرف على الظاهرة ذلك عن طريق التأويل , فالفهم لا يكون من دون تأويل , فباستعماله نستطيع دراسة النصوص التاريخية , و الحياة أيضا حسب "ديلتاي" لها تأويلها الخاص .
المقصود من "هيرمينوطيقا ديلتاي" هو أنه حاول أن يقيم للعلوم الإنسانية منهجا مختلفا عن العلوم الطبيعية , فهذه الأخيرة تبحث في الظواهر الطبيعية عكس الأولى التي تبحث عن الفهم الإنساني , و هنا يقول "ديلتاي" : " نحن نفسر الطبيعة لكن الإنسان نفهمه" .

3- المرحلة الفلسفية ( هايدغر-جادامر)

- الهرمينوطيقا الأنطولوجية عند هايدغر
يعتبر المفكر الألماني السيد "مارتن هايدغر" من أقوى المفكرين الذين أقاموا جدلا واسعا في القرن العشرين خصوصا في مجال الهرمينوطيقا أو الفكر الهرمينوطيقي ، بحيث قام "هايدغر" بمنعرج هيرمينوطيقي من النسق الإبستيمولوجي نحو التأمل الأنطولوجي للفهم الهرمينوطيقي ، فقد حول وظيفة الهرمينوطيقا من الإنشغال بتفسير النصوص الإنسانية إلى الإنشغال بكيفية الفهم و ذلك بالفلسفة و تطبيقاتها ، حيث كانت الإشكالية المطروحة عند "هايدغر" هي ما الفهم ؟ أو بعبارة أخرى أنطولوجية الفهم ، لذلك فقط كانت جل أبحاث "هايدغر" مرتبطة باللغة ، فيقول : " إن اللغة هي المعبرة عن الكينونة نفسها " ، و يعني بذلك أن الوجود ينكشف عن ذاته بواسطة اللغة ، فاللغة هي بيت الوجود ، و الوجود الوحيد الذي يعي كينونته هو الوجود الإنساني ، أطلق عليه "هايدغر" بمصطلح "الدازاين" فالإنسان أو " الدازاين" يمر في مواجهة الظواهر الموجودة في هذا العالم و فهمها ، و بالتالي نحن هنا أمام مفهومين و هما : الفهم و الوجود ، و إذا اتحد المفهومين سنحصل على ما يسمى ب " الهيرمينوطيقا الوجودية" أو " الهرمينوطيقا الأنطولوجية" ، لأن الوجود عند "هايدغر" لا يفهم إلا من خلال اللغة و التأويل ، و هنا أقام "هايدغر" نقلة كبيرة أدخلت الهرمينوطيقا إلى عالم الفلسفة ، بحيث أقام الهرمينوطيقا على أساس فلسفي أو أقام الفلسفة على أساس هيرمينوطيقي ، طالما أن الفلسفة هي فهم الوجود ، و بالتالي تصبح الهرمينوطيقا ملازمة لفلسفة "هايدغر" الوجودية ، لأن البناء الفلسفي لوجودية "هايدغر" يرتكز على إدراك الوجود من خلال إدراك الوجود الإنساني الذي يتميز عن بقية الموجودات بحال الوعي الوجودي .
أسهم "هايدغر" في تأسيس منهج قائم بذاته للعلوم الإنسانية مثله مثل "ديلتاي" ، فأعطى الوجود نظرة تأويلية فالوجود لا يفهم إلا باللغة و التأويل و من خلال الفهم نستطيع أن ندرك وجود الفرد في العالم ، و بالتالي فالفهم هو شكل من أشكال الوجود ، لأن الفهم لا نكونه بل هو موجود معنا و بواسطته ندرك وجودنا ، وهنا في هذا السياق يقول "هايدغر" : " نحن لا نتكلم اللغة بل اللغة هي التي تتكلمنا " .
و لكي يصف و يؤول "هايدغر" الوجود الإنساني أو " الدازاين" ، قام بدراسة فينومينولوجية لهذا "الدازاين" في كتابه الشهير " الوجود و الزمان " ، و هنا وجب الإشارة إلى معنى " الدراسة الفينومينولوجية " فهايدغر كان مثأترا بأحد عمالقة الفكر في الألمانيا في عصره ، و هو عالم الرياضيات و الفيلسوف العملاق " إدموند هوسرل " مؤسس علم الفينومينولوجيا و الذي اعتبره أساس كل العلوم المنبثقة ، منها العلوم الطبيعية و العلوم الإنسانية ، فالفينومينولوجيا كتعريف بسيط و مختصر تعني دراسة الظواهر الطبيعية و الظواهر الإنسانية عن طريق قصدية الشعور و أفعاله ، و الشعور هنا ليس الشعور النفسي الطبيعي بل الشعور الخالص أو الشعور المتعالي الذي يقصد الوجود ، ليكون هذا الوجود عبارة عن ظواهر شعورية خالصة وجب دراستها و وصفها عن طريق المنهج الفينومينولوجي ، و هنا "هايدغر" أخذ المنهج الفينومينولوجي و حاول تطبيقه لوصف الوجود الإنساني أو "الدازاين" ، رغم أن "هوسرل" كانت له حساسية مضاعفة تجاه الفكر الهيرمينوطيقي إذ يعتقد أن الفكر الهيرمينوطيقي هو فكر تاريخاني ، و هو ما يتعارض مع أحد أسس الفينومينولوجيا و هي "الإيبوخيا" و تعني رفض كل التفسيرات السابقة للشيء أو الموضوع المراد دراسته ، لذلك نهض صراع جدلي بين "هوسرل" و "ديلتاي" ، و كذلك بشكل خاص جدله الأكثر سرية و الأكثر مرارة الذي خاضه مع تلميذه "هايدغر" لدرجة أنه لم يقرأ كتابه "الوجود و الزمان" و اعتبره "هوسرل" أنه كتاب لا قيمة له في الفكر الفينومينولوجي ، و هنا غضب "هايدغر" و قال : " إذا أردت أن تكون فينومينولوجيا فليس بالضرورة أن تكون هوسرليا " ، و هنا نجد أن هذا الصراع الذي نشأ بين "هوسرل" و "هايدغر" مفاده أن "هايدغر" ليس هو ذلك التلميذ الذي أراده "هوسرل" ليكمل مشروعه بعد مماته ، ف"هوسرل" أراد أن يقيم علما كليا صارما تنطلق منه جميع العلوم الممكنة ، لكن "هايدغر" أراد أن يصنع توجهه الخاص و فكره الخاص .
و من خلال هذا المنهج الفينومينولوجي حاول "هايدغر" أن يفسر الوجود الإنساني تفسيرا توضيحيا الذي يوصف بأنه تحليل فينومينولوجي هيرمينوطيقي ، أو ما يعرف عنده بإسم الهرمينوطيقا الفينومينولوجية التي تدرس ماهية ظواهر الوجود الإنساني و من بينها الفن و الشعر ، التي تفسر لنا كيف نفهم الوجود ككل و هذا سيكون تقديما للهيرمينوطيقا التي بحثت في أصل العمل الفني ، فلا نستطيع أن نعرف الفن إن لم يكن العمل الفني ، أي أن"هايدغر" يبحث عن الأصل الحقيقي للأشياء الفنية أو بالأحرى ماهية العمل الفني عن طريق الهرمينوطيقا الوجودية .

- الهيرمينوطيقا عند جادامر
يرى المفكر الألماني و تلميذ "هيدغر" "جورج هانز جادامر" في كتابه الشهير " الحقيقة و المنهج " ، أن الهرمينوطيقا لا تعد منهجا للعلوم الإنسانية بل هي عبارة عن آلية أو أداة تبحث في الفهم الذي يراه "جادامر" إنه أسلوب وجود الإنسان نفسه ، فمفهوم الهرمينوطيقا عند "جادامر" هدفها الأساس هو الفهم الذي يعبر عن الوجود الإنساني ، و الفهم حسب "جادامر" ليس عملية ذاتية بل هو عملية وجودية ، فلا يوجد تأويل بدون فهم ، و كذلك لا يمكن تصور الفهم من دون حوار ، فالحوار يجعل من الذات منفتحة على الموضوع ، انفتاح الأنا على الآخر للإتفاق و من ثمة للفهم ، و هنا اتفق "جادامر" ، مع "هايدغر" في مسألة الفهم

.4- المرحلة المعاصرة ( فوكو-هابرماس-بارت-دريدا-ريكور )

- الهيرمينوطيقا التاريخية عند فوكو
لعب المفكر الفرنسي "ميشال فوكو" دورا كبيرا في الفكر الهرمينوطيقي المعاصر ، و ذلك يتجلى في منهجه البنيوي الأحفوري أو ما يسمى التأريخ الهرمينوطيقي ، و يبدأ "فوكو" من منطلق اللغة حيث يرى أنها لا تستطيع أن تقول كل ما تعنيه و أنها تتجاوز صورتها اللفظية ، و خاصة حين يتعلق الأمر في حدودها بالخطاب و العبارة ، فعلى مستوى هذين المفهومين يرتكز المجال التأويلي في نظره .
و الخطاب عند "فوكو" ليس مجرد جملة تم التلفظ بها ، أو مجرد نص سبقته كتابته ، بل هو شيء لم يقل أبدا ، و أن كل خطاب ظاهر ينطلق سرا و خفية من شيء ما قد تم قوله ، و هذا ما يسمى ب"اللامفكر فيه" ، و من هنا حاول "فوكو" تفكيك الفكر الغربي أو الخطاب الغربي و البحث عن "اللامفكر فيه" لإعادة بناءه و هنا وجد ما هو هامشي في الفكر الغربي من بينه : الشذوذ الجنسي و الجنون و المستشفى و السجن .

- الهرمينوطيقا الإجتماعية عند هابرماس
قامت نظرية المفكر الألماني "يورغن هابرماس" حول منطق فهم اللغة و العقل التواصلي ، و تطبيقه في فهم و تفسير العلوم الإجتماعية ، فقد صاغ "هابرماس" مفهوم العقل التواصلي حتى يتجاوز العقل الإستراتيجي و تجاوز العقل المتمركز على ذاته .

- الهرمينوطيقا البنيوية و التفكيكية ( بارت-دريدا)
و يتواصل الفكر الهيرمينوطيقي في بعديه البنيوي و التفكيكي ، فالأول عن طريق الناقد الأدبي الفرنسي "رولان بارت" الذي أعلن موت المؤلف تحت شعار "النص و لا شيء غير النص " فالهيرمينوطيقا البنيوية تسعى لكل ما تملك إلى تحديد المعنى في بنية النص ، فدلالة المعنى كامنة في دلالة النص و في وشائج العلاقة بين ألفاظه و مفرداته ، و بوسعها الإستغناء عن صاحب النص و المتلقي على حد سواء ، أما البعد الثاني و هي الهرمينوطيقا التفكيكية و هي عكس الهرمينوطيقا البنيوية تماما ، فالهيرمينوطيقا التفكيكية تسعى إلى هدم البنية الثابتة للنص ، فهي تعلن موت المؤلف و تغييب النص في معناه ، لأن المعنى الحقيقي يحدده المتلقي ، فهو وحده بيده القدرة على إضفاء المعنى الذي يليق بالنص .

- هيرمينوطيقا الرمز و الإرتياب عند ريكور
من صعب تأطير المفكر الفرنسي "بول ريكور" في التيار التأويلي لأنه ببساطة تأثر بالعديد من التيارات الفكرية من ضمنها البنيوية و التحليل النفسي و التأويلية الكلاسيكية و الفينومينولوجيا و دراسات اللسانية ، لكن ما عرف عنه هو مدرسته الشهيرة في الفكر الهرمينوطيقي ألا و هي المدرسة الإرتيابية .
قبل أن نتطرق إلى المدرسة الإرتيابية وجب الإشارة إلى أن مجال التأويل عند "ريكور" هو مجال الفكر الرمزي المنفتح على كل الآفاق و الحدود ، القائم على استجلاء المعاني الباطنية من ثنايا التجربة المعيشية اجتماعيا و تاريخيا ، و إن علاقة الرمز بالتأويل علاقة قديمة بها ترتسم معالم الحقل الإبستيمولوجي المؤسس للهيرمينوطيقا ، و الرمز يحمل عنده إمكانية المزاوجة بين تأويلات عدة .
و الآن نعود إلى معنى "المدرسة الإرتيابية" أو "هيرمينوطيقا الإرتياب" ، فقد قام "ريكور" بإعادة قراءة ثلاثة مفكرين أطلق عليهم إسم "أساتذة الإرتياب" و هم بترتيب : "ماركس" و "نيتشه" و "فرويد" ، فالإرتياب كتعريف لفظي معناه الشك و اللايقين ، و يعتبر "ماركس" و "نيتشه" و "فرويد" بحسب "ريكور" هم أول من أزاحوا الغطاء عن "منظومة الوعي" بأصنافه التالية : الوعي الاجتماعي عند "ماركس" و الوعي الأخلاقي عند "نيتشه" و الوعي النفسي عند "فرويد" .
فالوعي الإجتماعي يتجلى في تلك الأفكار الزائفة التي سيطرت على المجتمع الطبقي عن طريق الوجود الإجتماعي ، و مهمة "ماركس" حسب "ريكور" هو الكشف عن المعنى الباطني لهذا الوعي الاجتماعي و إظهار زيفه ، و هذا كذلك ما قام به "نيتشه" أثناء دراسته الجنيالوجية لمنظومة الأخلاق و كشف ارتيابية الوعي الأخلاقي ، أما العظيم "سيغموند فرويد" فقد أظهر ارتيابية الوعي النفسي و تأويل الأفعال اللاشعورية للكشف عن معناها .

هذه كانت نظرة و قراءة موجزة عن تاريخ تطور الفكر التأويلي ، و لا أجد أروع من أن أختم بما قاله المفكر الفرنسي " بول ريكور " : " إن مهمة التأويلية هي أن تفسر العالم في مواجهة النص " .

___________
المراجع :
إشكاليات القراءة و آليات التأويل : نصر حامد أبو زيد .
نظرية التأويل عند بول ريكور : حسن بن حسن .
فهم الفهم - مدخل إلى الهيرمينوطيقا : مصطفى عادل .
التأويل و الحقيقة : علي حرب .
التأويل و فلسفة التواصل : ياسين باهي .
المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا : جان غراندان ، ترجمة و تقديم عمر مهيبل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إسقاط مسيرة إسرائيلية بعد استهدافها في أجواء جنوبي لبنا


.. كيف ستتعامل أمريكا مع إسرائيل حال رفضها مقترح وقف إطلاق النا




.. الشرطة تجر داعمات فلسطين من شعرهن وملابسهن باحتجاجات في ا?مر


.. مظاهرة في العاصمة الفرنسية باريس تطالب بوقف فوري لإطلاق النا




.. مظاهرات في أكثر من 20 مدينة بريطانية تطالب بوقف الحرب الإسرا