الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصلة بين المدرسة التاريخية و التأويلية الرومانسية.

جميلة الزيتي

2020 / 9 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


1- المأزق الذي تتضمنه فكرة التاريخ الكلي:

إن الوعي التاريخي بالنسبة لغادامير Gadamerخطوة أساسية في عملية التأويل، وهو الأساس الذي تقوم عليه علوم الروح من حيث إنه يمكننا من فهم ذاتنا والآخر، وإنشاء علاقة تواصل مع التاريخ والتراث. ومن أجل هذا فإن تأويلية الوعي التاريخي تسعى إلى تحديد شروط الفهم. لهذا السبب فإنه انتقد أساس الوعي التاريخي الشائع من خلال نقد المبادئ التي يتأسس عليها.
تساءل عن الكيفية التي يفهم بها المؤرخون عملهم انطلاقا من نظريتهم التأويلية، ولقد توصل إلى نتيجة مفادها أن عمل المؤرخين يركز أساسا على دراسة التاريخ في كليته وليس النص الفردي، ولذلك فإن المؤرخ غير قادر على فهم التاريخ الإنساني في كليته، لأن النص الفردي ليس قيمة في ذاته، بل هو مجرد وثيقة تخبرنا عن الأحداث التي وقعت في سياق تاريخي معين. وهذا ما يفسر عدم اعتماد المدرسة التاريخية على تأويلية شلايرماخر Schleiermacher، لأن هذا الأخير يؤكد على ضرورة تأويل النص انطلاقا من البعدين النحوي والسيكولوجي، وذلك من خلال التركيز على البنية النحوية للنص ودخول العالم النفسي لمؤلفه.
لا يهتم المؤرخ بالفرد، بل الأحداث التاريخية في كليتها، إلا أن الرومانسية قد ركزت على الفرد، حيث اتخذت من مبدأ الفر دانية منطلقا لها.
اهتمت المدرسة التاريخية بدراسة التراث وجعلته في متناول الحاضر، الأمر الذي جعلها تتصور أن الدراسة المنهجية المطبقة على كل نص تصلح كمنهجية للتاريخ الكلي. فكما ننطلق في دراسة النص من الأجزاء لكي نفهم السياق العام أو الكلي للنص، فإن المدرسة التاريخية فهمت النصوص الفردية انطلاقا من السياق التاريخي العام، و هذا ما جعلها تهمل الجانب الفردي لصالح الجانب التاريخي.
يمكن القول إن نقد غادامير للوعي التاريخي السائد كان منصبا أساسا على المدرسة التاريخية التي كان يمثلها في القرن التاسع عشر كل من درويزن Droyzen و رانك Ranke ، والتي تشكل امتدادا للتأويلية الرومانسية التي مثلها شلايرماخر ودلتاي Dilthey. فهذا الأخير وسع التأويلية الرومانسية لتصبح منهجا تاريخيا وابستمولوجيا لعلوم الروح، لأنه طبق على التاريخ المبدأ التأويلي الذي يقول بفهم الأجزاء انطلاقا من الكل، وهو ما جعله يعتبر أن الواقع التاريخي نص يجب أن نفهمه.
ورغم انتقاد دلتاي للمدرسة التاريخية لأنها أكدت على ضرورة التزام المؤرخ بالحياد والموضوعية عند دراسة التاريخ، فإنه قد سقط في الأخير فيما فكر فيه رانك و درويزن وتحول إلى مجرد مؤول للمدرسة التاريخية.
نفهم الآن سبب انتقاد غادامير تأويلية دلتاي الرومانسية، فهذا الأخير في نظر غادامير لم يخرج عن تصورات المدرسة التاريخية حول التأويل. بل أثرت التأويلية الرومانسية على نظرية البحث التاريخي في القرن التاسع عشر. وكان لهذا التأثير حسب غادامير تأثيرا سلبيا على علوم الروح و على الرؤية التي قدمتها المدرسة التاريخية عن العالم.
إن لفلسفة التاريخ عند هيغل دلالة بالنسبة لكينونة الروح، أكبر مما أدركه المؤرخون الكبار، مع العلم أن المدرسة التاريخية لم تقبل تصور هيغل للتاريخ، وتمردت عليه واعتبرته منهجا لا يصلح لها. وأخذت بدلا من ذلك مفهوم شلايرماخر عن الفردية الذي كان مجرد وسيلة لنقد التركيب القبلي لفلسفة التاريخ، وأعطى للعلوم التاريخية توجها منهجيا.
وهكذا أصبحت الدراسات التاريخية شبيهة بالفيلولوجيا La philologie التي تركز على تدقيق النصوص وتحقيقها دون الاهتمام بالأفراد والوقائع التاريخية التي تحكم التاريخ. وهو ما دفع المدرسة التاريخية إلى اعتبار أنه لا غاية للتاريخ ولا شيء يوجد خارجه، وهي نفس الفكرة التي نجدها عند التأويلية الأدبية التي تقول إن معنى النص يجب أن يفهم من ذاته.
أكد غادامير أن اكتفاء المؤرخ بالمضمون الذاتي لن يفيده في التأريخ للتاريخ الكلي، وأكد أيضا على أننا منغمسين في التاريخ. ونحن من نؤوله لأننا نتموقع فيه كحلقة مترابطة مشروطة ومتناهية ولا تعرف الانفصال. وبالتالي فالتاريخ الكلي هو أساس البحث التاريخي، فهو الذي يسمح للكائن البشري بالتعرف على ذاته وفهم تاريخه الفردي والجماعي. وعليه، لا يوجد إلا التاريخ الكلي لأننا غير قادرين على فهم دلالة الجزء إلا من خلال الكل.
ورغم رفض المدرسة التاريخية تصور هيغل للتاريخ بمبرر أنه أقام تركيبا قبليا للتاريخ، فإنها أكدت أن البحث التاريخي وحده الكفيل بإيصالنا إلى نظرة كلية للتاريخ، ولم يتح هذا إلا عبر نقد هردر Herder لمخطط فلسفة التاريخ لعصر التنوير التي ترى أن كلية التاريخ تتحقق عن طريق العقل، لكن هذا النقد أظهره ونكلمان Wincklman حيث أكد على مفهوم الطبيعة النموذجية للحياة الكلاسيكية، إذ لكل ثقافة خصوصياتها، فالفن الإغريقي له طبيعته النموذجية، وهناك أشياء متميزة في الماضي لا يمكن أن تتكرر. وبالتالي لكل مرحلة تاريخية مميزاتها الخاصة، ولا يمكن أن نقبل فكرة بأفضلية عصر كلاسيكي، أو عصر على آخر.
إن الفكر التاريخي الأصيل هو الفكر الصادر عن مفهوم استمرارية التاريخ، وهو الذي عبر عنه هردر بنظام تعاقب الأحداث. وهذا التعاقب هو التجلي الأساسي للواقع التاريخي نفسه.
وحسب غادامير فإن عصر التنوير رغم نقده التصورات الميتافيزيقية التي قدمت للتاريخ، فانه لم يخرج عن خطاطاتها، لأنه أخذ تصورا ميتافيزيقيا آخرا هو التسلح بالعقل. وليس لاستمرارية سيرورة التاريخ هدف ثابت يمكن اكتشافه من خارج هذه السيرورة ولا توجد ضرورة فاعلة في التاريخ يمكن أن نعرفها قبليا. ويرجع سبب هذا إلى أن غائية التاريخ الأساسية تفرز انطلاقا من التعاقب المستمر لأحداثه.


2-رؤية العالم التاريخية عند رانك Ranke

يعتبر غادامير إن رانك Ranke في تصوره لطبيعة التاريخ جعل مظاهر الحرية هي الروابط التي تخلق الاستمرارية. بمعنى أن هناك شبكة للامتناهية من الحوادث الجزئية الدالة هي التي تشكل القرارات التاريخية، وهذه القرارات عندما تنجز تصبح أفعالا حرة.
وقد ربط بين مفهوم الحرية ومفهوم القوة الحيوية وهما مفهومين حاضرين في أحداث العالم وكذلك في علم الأفكار.
إن القوة بالنسبة له مقولة أساسية في رؤية العالم التاريخية. فالمؤرخ يعرف أنه كان بإمكان الأشياء أن تكون بشكل مختلف عما هي عليه تماما. ويستبعد رانك القوة الآلية ويسميها القوة الحيوية، ولا مانع لديه في أن تكون الحرية محدودة، لأن الضرورة موجودة كذلك.
إن الوجود التاريخي في نظر رانك نابع من الفعالية البشرية، وما هو موجود ينسجم مع ما يوجد. وهذا يعني أن ما يظهر إلى الوجود حر. ولكن هاته الحرية محدودة دائما بما كان قد ظهر إلى الوجود.
بناء على ما سبق، رفض رانك البناء القبلي لتاريخ العالم، وأكد، مقابل ذلك، أن طبيعة الوجود التاريخي هو مصدر القيمة التاريخية، بواسطة انسجام أحداث التاريخ. وعليه فوحدة التاريخ نابعة من التطور التاريخي. ولا تنشأ حضارة ما عن طريق الصدفة، فالحضارة الغربية مثلا هي نتاج حضارات متعددة، وهذه الحضارة الغربية لم توجد من فراغ، بل هي نتيجة لتفاعل ثقافي بين البشر. وهذا ما دفع رانك إلى رفض النظر إلى التاريخ نظرة تأملية، فالتطور التاريخي نابع من الاستمرارية التي تمنح التاريخ تاريخيته. مما يعني أن التطور التاريخي بعيد عن البناء القبلي الذي أقحم التاريخ و أحداث التاريخية ضمن أنساق تأملية.

3- العلاقة بين النظرية التاريخية و التأويلية لدى درويزن J.G.Droysen

يظهر البعد الفلسفي لكتاب درويزن La théorie de l’histoire في أنه حاول إخراج مفهوم الفهم من غموض العلاقة التشاركية بين الجانب الجمالي ووحدة الوجود عند رانك. حيث حاول درويزن أن يستنبط العلاقة بين الافتراضات المسبقة في هذه العلاقة وهي التعبير، فعندما نفهم فنحن نفهم تعبيرا ما، وفي هذا التعبير شيء ما باطني يظهر بكيفية مباشرة، وهذا الشيء الباطني الذي يظهر هو الواقع الحقيقي الأول.
وهذا ما جعل غادامير يعتبر أن درويزن قد حرر مفهوم الفهم من هذه العلاقة التشاركية.
إن فهم اللغة لا يختلف عن فهم التاريخ لأن هذا الأخير كاللغة تماما ليس وعيا خالصا، وحقيقته تكمن في السعي المتجدد للعقل لفهم كيفية تشكل الأنظمة والتي تتغير بشكل دائم.
ولقد قام درويزن، حسب غادامير، بتصحيح استخدام رانك لمفهوم الحقيقة التاريخية، فالفرد ليس عنصرا في التاريخ بالنظر إلى إمكانية تحقق رغباته إنما هو عنصر في التاريخ بقدر ما يحاول أن يرقى بنفسه إلى مستوى المجال الأخلاقي.
وفيما يتعلق بالحرية فلقد اعتبر درويزن أن الحرية لا تقوم على ضرورة صارمة وقطعية، إنما على حركة القوى الأخلاقية التي يرتبط بها الإنسان، لذلك يقيم درويزن علاقة انسجام إلى حد ما بين الحرية و الضرورة في التاريخ، فالفاعل التاريخي، يربط الضرورة بأوامر أخلاقية غير مشروطة، والحرية بإرادة غير مشروطة، وهما معا تعبير عن القوى الأخلاقية التي تجعل الفرد ينتمي إلى المجال الأخلاقي.
ويرى أن مفهوم القوة هو الذي يبين حدود الميتافيزيقا التأملية حول التاريخ، وهو هنا يلتقي مع رانك الذي ينتقد مفهوم التقدم عند هيغل. فالقوة لا تبقى تجليا أصليا ومباشرا للحياة كما يرى رانك، و لكنها تكون موجودة في توسط العمل و من خلاله تحقق الواقع التاريخي.
كل فرد يشارك في الوسط الأخلاقي ولكن بطرق مختلفة، فهناك من يحافظ على الظروف القائمة ويستمر في القيام الشيء المألوف، وهناك من يحمل أفكارا جديدة ويعبر عنها، فاستمرارية العملية التاريخية تتحقق بالتغلب المستمر على ما هو كائن من خلال نقده ومحاولة الوصول إلى ما ينبغي أن يكون.
لذلك اعتبر درويزن أن الحرية هي المحرك الأساسي للحياة التاريخية. لهذا اعتبر أن القوى الأخلاقية هي التي تحرك التاريخ. و بالتالي فهو يتفق مع رانك في أننا قادرين على رؤية اتجاه حركة التاريخ فقط ولا نقدر على رؤية غايتها.
من خلال ما سبق، يصبح الفهم أمرا ممكنا من خلال البحث في التراث، والغرض هو بناء نص للتاريخ انطلاقا من أجزاء التراث.
* يونيو 2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من


.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال




.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار


.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل




.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز