الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلوم والتكنولوجيا مع مفهوم الدين في بلاد الرافدين

عضيد جواد الخميسي

2020 / 9 / 30
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تطورت العلوم والتكنولوجيا في بلاد الرافدين خلال فترة أوروك (4100 -2900 قبل الميلاد) وفترة السلالات المبكرة (2900-1750 قبل الميلاد) ؛ تحت مسمى "الحضارة السومرية ". إذ وضع السومريون أساس التقدم العلمي والتكنولوجي في بلاد الرافدين عندما اكتشفوا لأول مرة ؛ تطبيق الفرضيات العلمية ؛ والعمل على الابتكار. من هذين المفهومين خلقوا الكلمة المكتوبة ، وأسسوا لكل من الرياضيات المتقدمة ، علم الفلك ، وعلم التنجيم ، وحتى أنهم صمموا فكرة للوقت ، فكانت أهم اختراعاتهم : العجلة ، الشراع ، الكتابة ، البناء المقوّس ، أدوات الرّي والزراعة ، تشييد المدن ، تصميم الخرائط ، قواعد الرياضيات ، الوقت وأجزائه ، علم الفلك والتنجيم ، الأدوية الطبية والجراحة .
ابتكر السومريون هذه الأشياء في محاولة لتحسين معيشتهم ، فقد كان عليهم أن يفكروا بها بسبب حاجتهم إليها ؛ فقاموا أولاً ؛ في تحديد المشكلة ، ثمّ اقترحوا حلولاً تمّت تجربتها فيما بعد .
يعترض بعض العلماء على استخدام مصطلحات مثل " العلم " أو " المنهج العلمي " ، في الإشارة إلى الاختراعات والابتكارات السومرية في بلاد الرافدين ، لأن الدين كان يلعب دوراً مهمّاً في حياة الناس ، كما أُعتبرت إرادة الآلهة هي المسؤولة الوحيدة عن كيفية عمل الكون والحياة على الأرض . لكن مهما كان الخلاف في ذلك ؛ فإن " المنهج العلمي" هو المصطلح الأكثر دقة عن كيفية تصرّف الناس إزاء التحوّل والتغيير المرتقب ؛ بسبب ان سكان بلاد الرافدين ، قد سمحوا لأنفسهم بتخيّل عالم يعمل وفق قوانين الطبيعة ، مع الحفاظ على مفهوم الدين لديهم . وفي محاولة لمعرفة مدى نجاح فكرتهم ، وضعوا الأسس العلمية لتحقيق ذلك ، والتي تم تطويرها فيما بعد من قبل المفكرين المصريين واليونانيين ، ثمّ انتقالها إلى علماء العصر الحديث . لكن هذا لا يعني أن سكان بلاد الرافدين القدامى قد مارسوا نفس الأساليب والطرق المتبعة في البحوث العلمية التي يسلكها الباحثون في الوقت الحاضر .
أمّا أولئك الذين يعترضون على استخدام كلمة "العلم" أو مصطلح "المنهج العلمي" فيما يتعلق بمفهوم التطوّر الحضاري الذي قاده الشعب الرافديني ، نقول لهم :
اعتقد سكان بلاد الرافدين القدامى ؛ بأن الآلهة قد خلقت النظام الكوني من الفوضى ، ومن ثمّ خلقت البشرمن بعده ، وكان القصد من ذلك ؛ هو مشاركة البشر مع الآلهة في الحفاظ على ديمومة النظام . وبما ان الآلهة كانت مصدراً لجميع الأشياء سواء مرئية أوغير مرئية ، لذا فإن الهدف من تلك الابتكارات والاختراعات المتنوعة ؛ هو فهم كيفية أداء هذا النظام والعمل على تطويره بدعم واسناد من الآلهة .

اتخذ شكل النظام الكوني نموذجاً متطوّراً من "الأشياء" الأساسية في الحياة التي يتعامل معها الناس ، وهذا يتطلّب ملاحظة ردود أفعالهم ، والتي تعتمد نوعاً من الفرضيات حول مدى تأثيرها في حياتهم ، وذلك من خلال التجربة والاستنتاج . على الرغم من أن هذه الطريقة تتّبع الشكل الأساسي للمنهج العلمي في عصرنا الحديث ، إلا أن الرافدينيون القدامى كانوا يعتبرون الآلهة لها القدرة في أن تدرك جميع المتغيرات التي قد تحصل على مصادر ونمط معيشة البشر في حياتهم اليومية . وبدلاً من سؤال الآلهة ؛ كيف يمكن للبشر معرفة ذلك؟ ، يكون السؤال ؛ كيف يمكن للبشر إنجاز أعمالهم في تلبية حاجاتهم ، وماهي سبل تحسينها أو تطويرها ؟ فقط ؛ ليتماشى دورهم مع الآلهة كشركاء في حفظ النظام الكوني .
لن يسأل المزارع السومري القديم " لماذا أصبح حقلي أجرداً ، بينما حقل جاري ما زال مخضرّاً ؟ "؛ لأن الإجابة واضحة لديه ؛أنها إرادة الآلهة !. ولكنه بالتأكيد كان يسأل " كيف يمكنني التأثير على إرادة الآلهة ، لجعل حقلي مخضرّاً ؟ ". يمكن أن يكون الأمر بسيطاً ! ؛ فقد تطلب منه الآلهة بذل جهود اضافية أكبر من التي يبذلها جاره في إصلاح حقله ! ، ولربما أيضاً ، تريد من الشخص القيام بشيء لم يقم به أحد من قبل ؛ عندما تعمدّت بافتعال تلك المشكلة عن قصد ، كي يخترع نظام الرّي ، ليستفيد منه هو ، وغيره من المزارعين ! .

يبدو فعلاً أن "الحاجة أم الإختراع "، لكن تلك الاختراعات كانت تتماشى مع الجوهر الأساسي لعالم الآلهة المنظّم ، وطالما بقيت الأمورعلى حالها منذ الخليقة ، فإن مهمة الفرد في ذلك الوقت ، كانت مواجهة التحديات التي فرضتها الآلهة ، والعمل على تطوير ما يمكن تطويره ، وقبول ما لا يمكن تغييره .

العجلة ـ الشراع
كانت الكتابة والعجلة ، أكثر الإختراعات أهمية في بلاد الرافدين . على الرغم من أن بعض العلماء يؤكدون أن العجلة قد أُبتكرت في آسيا الوسطى (بسبب العثور على أقدم عجلة في العالم هناك) ، لذا فمن المقبول والمعقول ، أن المفهوم قد نشأ في سومر بسبب اختراعها للطاحونة الحجرية في طحن الحبوب ، ويُعتقد أنه تمّ تحويرها في صناعة العربات الصغيرة ، ومن ثمّ الى مركبات نقل البضائع ، لسهولة الانتقال بسرعة أكبر من مكان إلى آخر .

أن مبدأ اختراع العجلة نفسه قد انطبق على اختراع الشراع الذي بدا بسيطاً على الأرجح بالنسبة لسكان بلاد الرافدين ؛ وذلك من خلال ملاحظة تأثير حركة الهواء على قطعة قماش (ربما عند تجفيفها بعد غسلها) والتي كانت السبب وراء الفكرة ، ولكن عند وجود قطعة قماش أكبر ؛ ستُسلّط عليها قوة أشدّ من الريح ، وعليه فقد سعى الرافدينيون إلى توظيفها في قوارب النقل النهري لزيادة سرعة حركتها وسهولة قيادتها . تُعدّ هذه نقطة تحوّل خاصة في حقل التجارة ، نظراً لوفرة القنوات المائية واستغلالها في عملية التبادل التجاري مابين المناطق ، لكن الأمر يبدو صعباً وبطيئاً ، عندما يكون التجذيف بعكس اتجاه تيار الماء والرياح ، إلا ّ أن الشراع قد عالج هذه المشكلة من خلال التحكم باتجاهاته ومبادلة المجذّفين .

الكتابة
أُخترعت الكتابة خلال فترة عام ( 3600-3500) قبل الميلاد ، كوسيلة لنقل المعلومات عبر مسافات طويلة بهدف التجارة. كانت الكتابة البدائية الأولى عبارة عن رسوم بيانية أولية ، والتي يمكن أن تنقل أخباراً أو أوامراً يُراد ايصالها الى طرف معلوم ؛ مثل ؛ " اثنان من الأكباش - معبد في أوروك". لكن لم يتضّح الغرض من الكبشين ، هل يتمّ جلبهما إلى المعبد أم حملهما منه ؟. وهل هما حيّان أم ميّتان ؟. كتب عالم السومريات "صموئيل نوح كريمر" ، في كتابه ( يبدأ التاريخ في سومر ) ، التعليق التالي :
" كان من المحتمل ، ومنذ حوالي خمسة آلاف سنة ، جاء السومريون بفكرة الكتابة على الطين ؛ بسبب حاجاتهم الاقتصادية والإدارية . محاولتهم الأولى كانت بدائية وتصويرية ؛ إلاّ أنها مكنتهم من استخدامها في الرموز الإدارية البسيطة فقط . لكن في القرون التي تلت ، قام الكتّاب والمعلمون السومريون بتعديل وصياغة نظام الكتابة الخاص بهم تدريجياً ، لدرجة أنه فقد صفته الصورية تماماً ، وأصبح نظاماً للكتابة الصوتية التقليدية البحتة . في النصف الثاني من الألفية الثالثة قبل الميلاد ، أصبحت تقنية الكتابة السومرية طيّعة ومرنة بدرجة كافية للتعبير عنها في المؤلفات الأدبية والتاريخية الأكثر تعقيداً ، وبدون صعوبة " .
يُعرف هذا النظام للكتابة باسم "المسمارية" ، المشتق من الاسم اللاتيني لـ " إسفين wedge " ، لأن الكلمات قد كُتبت بالضغط على قلم يشبه الإسفين في طين رطب تم تجفيفه فيما بعد . في حين لم يطلق السومريون أنفسهم على الكتابة بـ "المسمارية " ؛ بل هي تسمية علماء الآثار في العصر الحديث ، وينطبق ذلك أيضاً على تسمية الحضارات المختلفة المستخدمة بهدف التعريف والمقارنة .
انتشرت الكتابة المسمارية السومرية عند الحضارات العظيمة الأخرى في بلاد الرافدين والأناضول ، والتي تضم كل من :
الحضارة الأكدية ، البابلية ، الآشورية ، العيلامية ، الحيثية ، الآمورية ، و إمارات الحوريين .

في وقت مبكر من عام 3200 قبل الميلاد ، كان هذا النظام من الكتابة متطوراً و واسعاً ، ليتطلب نوعاً من القواميس - المعروف بـ "المعجم "، والذي عرّف بعض الرموز على أنها كلمات ، وأعطى ترجمة لكل كلمة ورمز في جميع اللغات السومرية ، الأكدية ، والحيثية .
أُستخدمت المسمارية في جميع مجالات الحياة اليومية لإعداد او اصدار نفس صفة المستندات التي يمكن للمرء أن يفكر بها في الوقت الحاضر؛ ابتداءً من الرسائل الشخصية وعقود العمل ، سندات الأراضي ، الإيصالات ، الفواتير ، التبليغات القانونية ، التاريخ والأدب . كما ان ملحمة گلگامش ، ونصوص التراتيل لإنهيدوانا ، وأدب نارو ، وجميع روائع الأدب الرافديني القديم ؛ كانت مكتوبة بالخط المسماري . وقد ظلّ هذا النظام من الكتابة في بلاد الرافدين قيد الاستخدام حتى ظهور نصوص الكتابة الأبجدية حوالي عام 100 قبل الميلاد .

الزراعة والهندسة المعمارية
في مجال الزراعة ؛ ابتكر السومريون طرق وأساليب الرّي ، ونثر البذور، واختراع كل من المحراث والمِعوَل ، ويبدو أنهم اخترعوا أيضاً الجهاز المعروف باسم " لولب الماء ـ السيفون ، أو لولب أرخميدس Archimedes’ Screw " ، وذلك قبل فترة طويلة من محاولة الإغريق في صناعته . لولب الماء ؛ هو جهاز يقوم بسحب المياه من المستويات الأدنى إلى المستويات الأعلى (من المياه الجوفية أو الجداول والنهيرات إلى قنوات الري) .

تطوير تخمير شراب البيرة وحساب ضريبتها يُعد جزءاً لايتجزأ من المهام الزراعية التي تقع على عاتق الدولة والمجتمع في بلاد الرافدين ، ومن خلال البيرة ، اخترع السومريون البيروقراطية الحكومية ، التي تشرف على إنتاج وتوزيع المحاصيل الزراعية وتوزيع الحصص المائية . كتب كريمر في كتابه " السومريون " التعليق التالي عن الرّي :

" ...عندما جعل السومريون للفرد قيمة في المجتمع ، وذلك كل حسب عمله وكفاءته ، كان الرّي أحد العوامل المهيمنة التي عززت روح التعاون القوية بين الأفراد والمجتمعات ، لذا اعتمدت عليه سومر بالكامل في رفاهية شعبها . وبما ان الرّي هو عملية معقدة تتطلب جهداً وتنظيماً جماعياً ؛ فكان لا بدّ من حفر القنوات والحفاظ عليها ومن ثم صيانتها باستمرار ؛ ولا بدّ أيضاً من تقسيم المياه بالتساوي على جميع المستفيدين . ولضمان ذلك ؛ كان يجب وجود سلطة أكبر من قوة مُلاّك الأراضي ، لتطبيق هذا المفهوم إلزامياً . عند ذاك نمت المؤسسات الحكومية ، وبرزت الدولة السومرية ". ( السومريون ص5)

نشوء الدولة وعمرانها
نشأت فكرة الدولة عند الكيانات المجتمعية الصغيرة المعروفة باسم "الأسر المتعايشة" التي لم يكن أفرادها جميعهم من الأقارب ، تربطهم مصالح مشتركة فيما بينهم ، وذلك من خلال ملكية بعض الأراضي والخدمات المعروضة . إذ كان التسلسل الهرمي الصارم ، يحكم تلك الأسر الذي يبدأ بـ "الرجل الكبير" المعروف باسم "إسي " وفيما بعد " لوگال " ، وزوجته من بعده ، ثم الآخرون الذين يتبعونهم من العمال المهرة وغير المهرة ، وبالتالي تطورت تلك الأسر الصغيرة الى البيوت الحاكمة مع تطور المدن ، ثمّ نشأ مفهوم المَلَكية .
تركزت المدن عند مجمّع المعبد ، ودعت تلك المجمّعات إلى تطوير أبنيتها تكريماً لآلهتها الذين يقيمون فيها. وقد كان لكل مدينة معبدها وإلهها الخاص ، مع فسح المجال في حرّية الناس للعبادة ، ويشتد التنافس بين هذه المجمّعات كي يكون معبد كل مدينة مثيراً للعجب بأكثر من غيره . على الرغم من أن المعبد كان جانباً مهماً في حياة الناس ، إلاّ ان المدن كانت تتطلب تصميم مبان لها مداخل رئيسية ، و مداخل إضافية لمرافقها الأخرى ، وكان لا بد من إيجاد بعض الوسائل لتصميم تلك المباني .
يشرح لنا البروفيسور"ستيڤن پيرتمان " ، كيف تم مواجهة هذا التحدي من خلال المقطع التالي :
" ثبت أن الحل الهندسي هو البناء القوسي . والقوس ؛ هو اختراع سومري من الألفية الرابعة قبل الميلاد . يبدأ القوس بفتحة في الجدار ثم يعلو . والسرّ في ذلك ، هو توزيع الأوزان التي تتحملها الأقواس الى الجانبين ومن ثم إلى الأرض ، بدلاً من ان تحملها على نفسها فقط . ومن خلال بناء سلسلة الأقواس المتلاصقة معاً ؛ تمكن المهندسون من بناء (أقبية ) أستخدمت كأنفاق . بالإضافة إلى تشكيل الممرات . كان القوس وسيلة قوية وفعالة لدعم البناء الذي يعتليه ، وبسبب الأشكال القوسية ، فالمبانى تُعد اقتصادية أكثر في استخدام الحجر والطابوق ." (ص 190)
كانت أولى المحاولات هي بناء " الطَّنف Corbel Arch "؛ وهي السقيفة التي تبرز من فوق باب الدار للحماية من المطر ، ومن ثمّ طُوّرت فيما بعد لتصبح قوس حقيقي . أُستخدم هذا التصميم في جميع الحضارات الأخرى من المصريين إلى الإغريق ، والأكثر شهرة ، كان في روما .

نَهَضت المدن ، ونَمَت التجارة ، مما دعت الحاجة إلى ابتكار خرائط لقياس المسافة والاتجاه بين أقاليم ومدن سومر، مع تلك التي في شمال البلاد ، والبلاد البعيدة مثل مصر، والهند . صُممت الخرائط إما عن طريق عمل الطبعات على الطين الرطب - على غرار الخط المسماري - ، أو عن طريق نحت الرسومات على مواد أخرى . إذ كان قياس المسافات ؛ قد اعتمد على عِلمٍ آخر في بلاد الرافدين ، ألا وهو علم "الرياضيات" .

الرياضيات ـ الوقت ـ علم الفلك / التنجيم
ربما تطورت الرياضيات من التجارة كضرورة لمسك دفاتر الحسابات ، ولكن من الواضح أنها كانت ركناً أساسياً أيضاً في الهندسة المعمارية لتخطيط وبناء المدن ومعابدها . في سياق تشييد تلك المدن العظيمة والصروح الكبيرة ، يبدو أن السومريين قد اخترعوا النموذج الرياضي لنظرية المثلث القائم الزاوية ـ نظرية فيثاغورس (قبل قرون من ولادة فيثاغورس) . كان هذا ليس مفاجئاً أبداً ؛ لأن مدن بلاد الرافدين كانت معروفة كمراكز كبيرة للثقافة والعلم آنذاك ، وأبرزها مدينة بابل ( 1792- 600 ق.م) ، حتى قيل أن الفيلسوف اليوناني "طاليس المالطي" ، قد تتلمذ فيها .
طورت بلاد الرافدين نظاماً رياضياً متقدماً للغاية ؛ وهي القاعدة الستينية الذي تتضمن ترميز الأعداد من الرقم (1) الى الرقم (60 ) ، ( بينما القاعدة الحالية العشرية ، هي من 1 الى10) . وتضمّن هذا النظام ، العمليات الأربع في الحساب (الجمع ،الطرح ،الضرب ، والقسمة ) ، وكذلك الجبر والهندسة ، النسبة والتناسب ، الأُسُسْ ( القوّة ) ، والجذور التربيعية .
القاعدة الستينية التي ألهمت السومريين في ابتكار التوقيت ، بناءً على معنى العدد (60 ) ، ولهذا تمّ تعريف الساعة بـ 60 دقيقة ، والدقيقة 60 ثانية. كان قياس الوقت بواسطة الساعة الشمسية ( المزولة ) أو الساعة المائية ( كالبسدرا) ، وقُسّم اليوم إلى فترتين من شروق الشمس إلى غروبها ، وشروقها مرة أخرى ، 12 ساعة منها إلى النهار، و 12 ساعة الى الليل، مما جعل اليوم في أكمله ( 24 ) ساعة.
كانت مدة السنة الواحدة 360 يوماً بعد احتساب أيّام الفصول الأربعة ، ومن أجل معرفة الأوقات التي تُعد مناسبة للقيام ببعض الأنشطة والفعّاليات على مدار العام ، تم تطوير علم الفلك لرصد النجوم وتحديد المواسم ، وأدى ذلك إلى اختراع "التقويم" .
استخدم سكان بلاد الرافدين تقويماً شهرياً ؛ وقد جعلوا بداية كل شهر ؛ هو أول ظهور لهلال القمر.
المحاولات الأولية لتعريف السنة التقويمية ، كانت أقل من السنة الشمسية الحقيقية ، لكن بحلول القرن السابع عشر قبل الميلاد ، تطور علم الفلك إلى درجة حددت فيها السنة الكاملة ، وكذلك الدورات الزمنية الأخرى .

تمّ تفسير هياكل النجوم في السماء ، مثله مثل أي شيء آخر ، ومخططها جاء وفقاً لإرادة الآلهة ، وبالتالي كان من الطبيعي على العرّافين ؛ تفسير بعض الظواهر الفلكية ، من أنها رسائل الآلهة . هكذا كانت بداية علم التنجيم ، فقد كانت ممارسة العرافة في بلاد الرافدين قبل نشوء علم التنجيم ، وذلك عن طريق التضحية بالحيوانات وقراءة الطالع من خلال أحشاءها .
أمّا علم التنجيم ، فقد جاء للهيمنة على العرافة ، باعتباره مفهوم ينظر إلى الظواهر الفلكية التي تحصل خلال السنة ، وأن الظواهر الفلكية المختلفة ؛ كانت بمثابة رسائل سماوية مباشرة وواضحة من الآلهة تتعلق بمستقبل الأمة في أسرها ، لتشمل حتى الأمور الشخصية التي تمس حياة الناس اليومية . وعليه ؛ فإن علامات البروج ، وتحديد السمات الأساسية للشخص ومصيره على المدى القريب والبعيد ؛ كانت مفاهيم تم بلورتها لأول مرة في بلاد الرافدين قبل أن يتم تطويرها مستقبلاً من قبل المصريين والإغريق .

الطب والأطباء
ينطبق هذا النموذج نفسه على الرعاية الصحية ، حيث أن العديد من الممارسات الطبيّة التي تبنتها مصر واليونان ، قد نشأت في بلاد الرافدين . إذ كانت الربّة السومرية للصحة والشفاء هي "گولا" (التي عُرفت فيما بعد في مناطق أخرى باسم ـ نينكاراك و نينيسينا ـ) ، وغالباً ما كان يتم تصويرها مع كلبها ، لأن الكلاب كانت مرتبطة أيضاً بالشفاء والصحة والحماية.
إلى جانب كلبها ؛اهتمت گولا بجميع الناس من خلال مساعدة زوجها " پاپيلساج " ( الذي كان إله القضاء ) ، وأبناؤهما " دامو ، نينازو " وإبنتهما " گونورا " .
الشعار العالمي الذي يرمز الى مهنة الطب في الوقت الحاضر على هيئة ثعبانين متشابكين حول عصا أو وتد ؛ هو في الحقيقة لا يمت بصلة الى إله الطب اليوناني "اسكليپيوس" كما هو شائع خطأً ، ولا للربّة السومرية گولا التي هي إلهة الصحة والشفاء ؛ بل لابنها نينازو الذي كان اسمه مقروناً بالثعابين والشفاء ويعني "الرّب المعالج "، وهو الذي يمتلك السيطرة على العالم السفلي أيضاً .

كان هناك صنفان من الأطباء في بلاد الرافدين :
ـ أسو : ممارس طبي Medical Practitioner ؛ الذي يؤدي عمله من خلال التجربة العلمية والعملية لعلاج المريض ، أي بمعنى المعرفة .
ــ أسيبو: المعالج الذي يعتمد علاجه على السحر، أي بمعنى الخرافة ( كهنة المعابد) .
كان هناك أيضاً أطباء من الجرّاحين (الذي يبدو أنهم جاؤوا من هذه الخلفيات الطبية) ، والأطباء البيطريين (الذين يمكن أن يكونوا أسو أو أسيبو) ، كذلك أطباء الأسنان ، أطباء وطبيبات للولادة . ومن المؤكد كان لديهم القابلات "سابسوتو" يساعدن الأطباء والطبيبات في حالات الولادة .
كانت هناك جهود طبية علمية حقيقية متواصلة للتشخيص السليم لبعض الأمراض استناداً إلى الملاحظة التجريبية ، وبما يسمى اليوم "التفسير العقلاني أو المنطقي "، وأشهر مثال على ذلك ؛ رسالة من " زيمري ــ ليم "، ملك ماري ، الى زوجته بشأن امرأة في البلاط الملكي واسمها " نانا "؛ التي كانت تعاني من مرض معد ؛ فأوعز الملك لزوجته بالعزل مع وصيفتها نانا ، والأخريات من النساء العاملات في البلاط ؛ لأن مرض الوصيفة كان مُعدياًً وخشية إصابته هو ايضاً من خلال زوجته ، بسبب ذلك أصدر أوامره .
لم يكن هذا المفهوم للعدوى معروفاً في انتشار الفيروسات ، ومع ذلك ، فقد خلص بدلاً من ذلك إلى أن ؛ نانا قد ارتكبت الخطيئة التي جعلتها مريضة ، وأن التقرّب من الشخص المريض والاصابة بالعدوى ، ما يعني ان الآلهة تسمح بهذا المرض كي ينتقل إلى الآخرين .

نقل الرافدينيون القدامى ، العلوم والتكنولوجيا والمعارف الأخرى إلى الحضارات المختلفة ، التي عملت على تطويرها وصولاً إلى عصرنا الحالي . وقد لخّص البروفيسور البريطاني "پول كريڤاشيك" أهمية مساهماتهم في مجالات العلوم والتكنولوجيا ، كما في المقطع التالي :

" معظم التكنولوجيا الأساسية التي ساعدت البشرية منذ آلاف السنين ، وحتى بداية الإنتاج الصناعي الذي سيطر على عالمنا اليوم قبل قرنين فقط من الزمان ؛ تم ابتكارها لأول مرة في بلاد سومر ؛ ذلك الجزء الصغير من العالم . كان البعض من تلك الابتكارات المنزلية : تخمير البيرة ، وعاء البيرة ، أفران الطبخ والفخر ، نول الحياكة والنسيج . أما في الحقول ، فكان : المحراث ، ناثرة البذور ، والعربة الزراعية . كما أن صناعة القارب وشراعه ، و دوّارة أو مروحة الريح ؛ كانت لها فوائد كبيرة في الأنهار والقنوات . حتى الموسيقا كانت لها حصّة في الاختراعات ، إذ عرفوا القيثارة ، الهارب ( الربابة ) ، وآلة العود . وفي تكنولوجيا البناء ؛ كان الطابوق المفخور، الأقبية ، والمباني القوسية. " (ص47)

كشف صموئيل نوح كريمر في كتابه (يبدأ التاريخ في سومر) عن " 39 أولاً " . تسعة وثلاثون انجازاً من منجزات الحضارة السومرية (نُسب الكثير منها إلى المخترعين اليونانيين ) ؛ قد ظهرت لأول مرة في بلاد سومر خلال فترة أوروك ، وأوائل سلالات بلاد الرافدين . تلك الحضارة الرائدة في مجال الثقافة والعلوم والتكنولوجيا ؛ لا تزال الأقوى في ذاكرة التاريخ الى يومنا هذا ..



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صموئيل نوح كريمر ـ التأريخ يبدأ في سومر ـ مطبعة جامعة بنسلفانيا ـ 1988.
صموئيل نوح كريمر ـ السومريون ـ مطبعة جامعة شيكاغو ـ 1971 .
پول كريڤاشيك ـ بلاد الرافدين وميلاد الحضارة ـ سانت مارتن كرڤن للطباعة ـ 2010 .
ستيڤن پيرتمان ـ الحياة اليومية في بلاد الرافدين ـ منشورات جامعة أكسفورد ـ2005 .
د. روبرت. ب. بيگز ــ الشفاء والجراحة والصحة العامة في بلاد الرافدين ــ جامعة شيكاغو ـ قسم الدراسات الأكاديمية الآشورية ـ 2013 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحن طائر أو بالون عادي.. ما هي حقيقة الجسم الغريب فوق نيويور


.. دولة الإمارات تنقل الدفعة الـ 17 من مصابي الحرب في غزة للعلا




.. مستشار الأمن القومي: هناك جهود قطرية مصرية جارية لمحاولة الت


.. كيف استطاع طبيب مغربي الدخول إلى غزة؟ وهل وجد أسلحة في المست




.. جامعة كولومبيا الأمريكية تؤجل فض الاعتصام الطلابي المؤيد لفل