الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وجودية دوستويفسكي 1 /2

داود السلمان

2020 / 9 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إذا كانت الوجودية تعتبر الانسان كقيمة عليا ومن ثم تتخذ من هذه القيمة معايير اعتبارية، تحاول من خلالها، رفع شأن الانسان، وجعله في قمة الهرم الذي يُبنى عليه كل شيء إنساني يليق به ككيان فاعل في الوجود، بل الصحيح هو الاهم من غيره قطعًا. بمعنى آخر أن يكون الانسان هو هدف الحياة، وبالتالي لا قيمة للحياة بدون الانسان.
واذا كان هذا صحيحًا، وهو مما لا شك فيه، فإن دوستويفسكي، أفاض، من خلال جُل اعماله الادبية، على الوجود كونه اعطى قيمة حقيقية للإنسان، بل ورفع من شأنه، وجعل من سير احداث رواياته، سيرًا يغوص في طبيعة الانسان وذاتيته وشرح مكنونه، بل وحتى حاول أن يدخل في نفسية الانسان، من الداخل، ليراه كيف يفكر.
الامر الذي جعل فرويد أن يقرّر ويعترف بأنه تعلم التحليل النفسي من اعمال هذا الاديب الكبير، دوستويفسكي، حيث وُجد، ومن خلال تلك الاعمال الروائية العظيمة، يحلل نفسية ابطال اعماله كأنه يعيش في داخل أنفسهم، وفي ضميرهم، وكيف أنهم يفكرون ويعملون. حيث لم يسبق لأديب قبل دوستويفسكي فعل مثل هذا.
لهذا نجد الكثير من الفلاسفة والادباء المحدثين يتأثرون به، تأثيرًا واضحًا، مثل فرويد كما ذكرنا، والفيلسوف الاماني نيتشة، وظهر ذلك من خلال كتاب نيتشة الشهير (هكذا تكلم زرادشت) فالسرد الذي قام به هو قريب جدًا مما كتبه دوستويفسكي- من ناحية الفنية- في روايته (مذكرات من عالم سفلي) والتي اعتمدناها في هذا المبحث على وجه الخصوص، وهي بترجمة زغلول فهمي، وكان قد ترجمها غيره آخرون، ومنهم سامي الدروبي.
ومن خلال ما طرحناه، نرى كما يرى الكثير من ذوي الاختصاص بأن دوستويفسكي يُعد من مؤسسي الوجودية، أن لم يكن هو الاول على الاطلاق، ثم هناك توافق بينه وبين الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد على انهما الاثنين قد أوجدا الفلسفة الوجودية أو هما رسما معًا ملامح الوجودية، على إن التاريخ لم يذكر لنا أنهما قد التقيا في مكان أو في محفل ابدًا، وبعضهم أوضح بأن افكارهما كانت متوافقة.
وبقيت مسألة أخرى، هي أن البعض لا يقرّ بأن دوستويفسكي كان وجوديًا، واعتبر أن من يقول بهذا فهو على خطأ، و"خطأ فادح"، إلا وهو الكاتب ابراهيم الزيني، في كتابه (تاريخ الفلسفة- من قبل سقراط الى ما بعد الحداثة) في فصل له حول الوجودية.
وفي هذه المناسبة تقول الكاتبة والناقدة الروسية آ. م. لاتينينا في كتاب (دوستويفسكي- دراسة في أدبه وأفكاره): "تشير مجموعة كبيرة من الابحاث والدراسات الى أن دوافع إبداع دوستويفسكي تتغلغل بصورة واسعة، الى أن الادب المرتبط بالممارسة النفية للنزعة الوجودية. وعلاوة على ذلك، ثمة رأي واسع الانتشار، يقول بأن افكار الكاتب الروسي العظيم كان لها اثرها الكبير على الفلسفة الوجودية ذاتها.
وهكذا ينشأ موضوع "دوستويفسكي والوجودية" وهو موضوع لا يشك في اهميته كل من يطلع على كل الكتب والابحاث والدراسات الادبية الغربية الحديثة، المكرسة لدوستويفسكي وأدبه وأفكاره".
وحيث أن الوجودية تنقسم الى فئتين: الاولى مؤمنة والثانية ملحدة، فدوتسويفسكي هو يعُد من الفئة الاولى، أي هو مؤمن بوجود خالق لهذا الكون ومدبّر.
وهو القائل على لسان أحد ابطال رواياته: "لو لم يكن الله موجوداً لغدا كل شيءٍ مباحاً، حتى الجريمة".

الانسان:
والانسان، كما عبّر عنه الكسيس كاريل، هو كائن مجهول. بينما عرّفه دوستويفسكي بأنه "مخلوق جحود ذو ساقين".
لكن هايدجر يعرفه بأنه "المخلوق الذي يكون في العالم الذي يحدده الموت، ويجربه القلق، بينما يعرّفه سارتر بأنه الكائن الذي لا يعرف الراحة أبداً، ويحيا بمعارضة ذاته، وترى الوجودية أن الإنسان شخص قلق، وممزق ولديه شعور عميق بالمسؤولية، وأن الشخص الذي يكذب غير مرتاح الضمير".
وهذا القلق الذي ينتاب الانسان دومًا، يأتي لعدم معرفته بمستقبله، وبما سيجري عليه في خفايا الايام، واين سيئول مصيره بعد الموت. وهي التساؤلات المشروعة التي شغلت فكره منذ آماد بعيدة، وحتى اليوم.
الانسان هو الكائن المفكر الوحيد من بين جميع المخلوقات الاخرى، وهذا التفكير جعله عرضة ابدية للقلق، بمعنى إنه لم يستقر على حال من الاحوال. لذلك فهو قلق، وهذا ما اطلق عليه بالقلق الوجودي.
واحيانًا يكون منقبضًا على نفسه، وهذا الانقباض، كما يرى دوستويفسكي يدفع بالإنسان الى اقصى حالات الهستيريا.
ففي حديثه عن الانسان، يقول دوستويفسكي: "أما الانسان فهو مخلوق طائش متناقض وربما شابه لاعب الشطرنج الذي يهوى اللعبة في حد ذاتها لا نتيجتها. ومن يدري (فليس ثمة قول مؤكد) وربما كان هدف الجنس البشري الوحيد في الوجود ينحصر في ذلك السعي المتواصل لتحقيقه، أو بعبارة أخرى ينحصر في الحياة نفسها لا في الهدف الذي يجب تحقيقه وهو ما يجب التعبير عنه دائمًا بأنه قانون حتمي كاثنين مضاعفة تساوي أربعة ومثل هذه الحتمية.. ليست هي الحياة ولكنها بداية الموت".
ومن هذا المنطلق، تطرأ على الانسان قضايا كثيرة، وربما ينحرف عن جادة الطريق، ويضل عن الصواب، بل يؤكد دوستويفسكي عن انحراف الانسان، وهو وامر طبيعي.
ومن هذا المنطلق يرى دوستويفسكي، عندما يعلل ذلك فيقول:
"ولكن قد يكون سبب انحرافه فجأة لأن الانسان الواقعي العملي مهما كانت حماقته يخطر على باله أحيانا أن الطريق يؤدي في الاغلب الى غاية ما وأن هذه الغاية أقل شأنًا من عملية بنائه، وأهم ما في الموضوع هو انقاذ (الطفل الطيب) من احتقار الهندسة حتى لا يستسلم للبطالة القاتلة التي نعلم جميعًا أنها أس الرذائل كلها".

الالم:
يعتبر دوستويفسكي إن الالم فيه متعة، نرزح تحتها ولربما لا ندركها، وخصوصًا ألم الضرس، لذلك حينما نتأوه من جراء ذلك. يقول:" فالمتألم إنما هو يعبّر عن متعة التأوهات. فلو إنه لم يشعر معها بمتعة لما تأوه.. فهذه التأوهات إنما تعبّر أولاً عن خلو ألمكم من الهدف، وفي هذا ما فيه من مهانة لإدراككم، كما تعبّر عن نظام الطبيعة المشروع بأسره، ذلك الذي تبصقون عليه بالطبع بازدراء، ولكنكم تعانون منه على الرغم من هذا، بينما لا تشعر الطبيعة بشيء من الألم".
فيرى دوستويفسكي إنه لا يوجد عدو حقيقي تقاومونه، بل كل ذلك ادراكات، وعليه فإنكم تلجؤون للدواء المُسكّن، وإنما تعبّرون عن عبوديتكم لإسنانكم.
واذا لم يجد الدواء نفعًا واستمر الألم، فأنكم ستسخطون وتحتجون على الالم، خصوصًا اذا لم يتوقف ذلك الألم. يقول: "فإذا مضيتم في سخطكم واحتجاجكم فليس أمامك إلا أن تضربوا أنفسكم ضربًا مبرحًا، أو أن تضربوا الحائط بقبضاتكم بكل ما أوتيتم من قوة ارضاء لأنفسكم، وليس في وسعكم مطلقًا أن تفعلوا أكثر من ذلك".
وهذه التأوهات التي يبديها المصاب بألم الضرس، كما يرى دوستويفسكي، هي متعة له، إلا أنها مصدر قلق وازعاج حتى لأقرب الناس اليه(زوجته وابناءه) فيتمنون من اعماقهم أن يكف عن ذلك، لأن متعته هذه أصبحت مصدر قلق لهم لا يمكن يقاوموها.
ويختم حديثه عن الالم بأن يقول: "أن الانسان لن يتخلى عن الألم الحقيقي أي عن التخريب والفوضى. فالألم هو المنشأ الوحيد للوعي والادراك..".
يعني بذلك، إن الانسان، ومن خلال ما يعنيه من الم، وغيره من معاناة أخرى، فأنه من خلال ذلك سوف يعي ويدري ما سيجري له وما ستؤول اليه من قضايا أخرى، وسيعيها عن ادراك.
كما إنه اعتبر العذاب مصدر للإدراك إذ يقول: "إن العذاب هو المصدر الوحيد للإدراك، رغم أنني قلتُ في البدايةِ إن الإدراك هو أسوأُ ما يتميز به الإنسان".
فالألم الذي يشعر به الانسان المتألم لا يمكان أن يدركه سواه، لأنّ الالم لا يألم الا صاحبه (لا يؤلم الجرح إلا من به ألم). وهو عين ما يراه دوستويفسكي بقوله:
"إنّ من الصعب على شخص آخر غيري أن يعرف عمقُ الألمِ الذي أعانيه، وذلك لسبب بسيط هو أنه ليس أنا بالآخر".
فالآخر ليس أنا، وأنا لست الآخر، ألمي اشعر به وحدي، وألم غيري لا اشعر به، بقدر ما يشعر به هو، وهذا منطق العقل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البنتاغون يعلن البدء ببناء ميناء مؤقت في غزة لإستقبال المساع


.. أم تعثر على جثة نجلها في مقبرة جماعية بمجمع ناصر | إذاعة بي




.. جو بايدن.. غضب في بابوا غينيا الجديدة بعد تصريحات الرئيس الأ


.. ما تأثير حراك طلاب الجامعات الأمريكية المناهض لحرب غزة؟ | بي




.. ريادة الأعمال مغامرة محسوبة | #جلستنا