الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوجودية السارترية 2 / 2

داود السلمان

2020 / 10 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الوجودية السارترية:
وسارتر يرى: إن الوجود سابق على الماهية، أو أن الذاتية تبدأ أولاً.
وهو بهذا المعنى يريد القول هو إن الانسان الاصل في الوجود، واذا وجد وجدت ماهيته، وليس العكس، ويوضح اكثر، في أن الوجودية تحدد الانسان طبقًا لما يفعل.. أنها تضع مصير الانسان بين يديه، وهي ليست فلسفة متشائمة، كما يدعي خصومها، بل هي فلسفة أخلاقية: عمل والتزام. بمعنى اكثر دقة هي تضفي الكرامة على الانسان، ولا تعامله كشيء من الاشياء، بحسب تعبير سارتر.
لذلك يقول: "أنا أكره الضحايا الذين يحترمون جلاديهم". لأن سارتر يريد من الانسان أن يكون قويًا، فكرًا وارادة، وأن يدرك قيمته الحقيقية، وأنه كيان مستقل، لا يجب أن يضعف أو أن يداهن على حساب كرامته وكيانه. بمعنى آخر، وكما هو نفسه يعبّر " أن تموت واقفًا على قدميك خير من أن تحيا راكعًا على ركبتيك". فعيش الركوع تحت قبضة الطاغية هو الذل بعينه، بل الذل الذي ما بعده ذل.
وهو – أي الانسان- من جانب آخر عليه التزامات بخصوص حياته، للحفاظ على كيانه تجاه الآخرين، "فالإنسان يلتزم في حياته، وهو في التزامه يرسم صورة ما سيكون عليه وجوده. وكل ما يمكن أن يكون عليه هذا الوجود يرسمه الانسان داخل هذه الصورة. لكنه لا يصنع شيئا كان من الممكن أن يكونه خارج الصورة".
ويسوق لنا سارتر قصة حقيقية حدثت له، هو إن أحد طلابه جائه في يوم من الايام واراد أن يستشيره في قضية، وهذه القضية إن أخاه الاكبر قد استشهد في معركة دفاعًا عن وطنه فرنسا في الاحتلال الالماني لها، ويفترض سارتر لو أن الطاب هذا ذهب الى رجل دين لقال له هذا الرجل: اذهب وقاتل كما فعل اخيك، ولو ذهب الى رجل سياسي لقال له نفس الكلام، لكن سارتر عرف من خلال الطالب هذا أن والدته ترفض ذهابه الى القتال، متعذرة بأن حياتها متعلقة بحياة ولدها هذا، بعد فقدان الابن الاكبر لها، فتتوسل اليه أن يبقى بقربها، لكن الاخ الصغير يريد أن يأخذ بثأر اخيه من الاوغاد المحتلين لبلده والذين قتلوه وهو يذود عن أرضه وشعبه.
فسارتر كما يذكر إنه قال لهذا الطالب أن قرر أنت بنفسك وأعرف اين تكمن مصلحتك، لأن الانسان هو من يصنع مصيره بنفسه لا الاقدار ولا الآخرين، لأن الانسان اعرف بمصلحته اكثر من الآخرين.
وعليه قرر الابن أخيرًا أن لا يذهب الى القتال ويبقى بجانب أمه، فعاش هو وعاشت أمه مسرورة بوجوده بعد فراق الابن الاكبر. يقول سارتر: "وقد اخترنا نحن أن نبدع قيمنا، وما دمنا نحن الذين نبدعها فليس من المعقول أن توجد حياة مسبقة، فالحياة ليست حياة حتى نحياها. وأنت وحدك الذي تعطي للحياة معنى، وقيمة الحياة ليست الا المعنى الذي تختاره أنت لها. لذلك، كما ترى، تستطيع الوجودية أن تخلق مجتمعًا إنسانيًا متضامنًا".
فقول سارتر: "الإنسان محكوم عليه أن يكون حرًا، لأنه ذات مرة ألقي في العالم، وهو مسؤول عن كل ما يفعل". هو يختزل المعنى الذي تطرقنا اليه من حديث الطالب الذي استشار استاذه سارتر بخصوص ذهابه للقتال. فحرية الانسان دائمًا ما تعطينا نتائج صحيحة مثمرة تؤدي الى غاية نود أن نصل من خلالها الى مآربنا، بعكس القرار الذي نتخذه ونحن مرغمين، أو لم نحكّم به عقولنا ونحرك ارادتنا، بل جعلنا من يقرر لنا ذلك، وليس نحن.

سارتر واديب عربي:
يذكر الاديب الكبير يوسف إدريس في كتابه (جبرتي الستينات)، لقائه، بسارتر ويوضح بشأن الحديث الذي دار بينه وبين هذا الفيلسوف الوجودي الكبير، بعد مقدمة طويلة اعرضنا عن ذكرها.
سارتر يسأل إدريس هل إنه قرأ كتبه واطلع على آرائه؟.
"قلتُ: أنا للأسف لم أقرأ من أعمالك إلا مَسرحياتِ الحائط، ولا مفر، والأيدي القذرة، ومجموعة قِصصٍ قصيرة.
قال بدهشةٍ ونوعٍ من الفرحة: قرأتها، قرأتها حقيقة، في القاهرة! بأية لغة؟!
قلتُ: بالعربية والإنجليزية.
قال: جميل جدًّا، هل تهتمون بها لديكم؟ ماذا يقولون عنها؟ وما رأيُك أنت فيها؟
قُلتُ لنفسي: حتى سارتر هو الآخرُ يصنع مثلنا وينتظر بِشغَفٍ آراء الآخرِين في أعماله.
وقُلتُ له: أعمالٌ رائعةٌ كلها، أذهلَتني.
قال: ماذا أعجبك فيها؟
قُلتُ: هل تريد الحقيقة؟ أَعجبَتني لما فيها من فن، وليس لما فيها من رأي. إن فيها فنًّا مُذهلًا رائعًا هو البطل المجهول المُتواضِع الذي يختفي وراء الكواليس لِيترُك الفلسفة والآراء تَقِف وحدها أمام المُتفرِّجِين وتَحظَى بالمجد والتصفيق.
إني لأتساءل: ماذا يُسعِد رجلًا عظيمًا مثلك، أن يقرأك الناس ككاتبٍ أم كفيلسوفٍ؟
ضحِك وقال: أعتقد أن الإنسان يَسعَد لمُجرَّد أن يقرأ الناس إنتاجه، سواءٌ أكان فنًّا أم فلسفة.
قُلتُ: إذن أحيانًا يكون النعيم هو رأي الآخرِين.
وضَحِك أهرنبورج (الذي يترجم الحوار) أولًا، وحين ترجمها أغرق سارتر في الضحك؛ إذ إن له رأيًا وجوديًّا مشهورًا يقول إن الجحيم هو الآخرون.
وجرَّأَني الضحِك فقلتُ: الواقع لو كان وجودُ الآخرِين يُخلِّف التعاسة التي صوَّرتَها لقتَلنا بعضَنا البعض من زمنٍ بعيد، لا بُد هناك أشياءُ أخرى لم تَذكُرها هي التي أَبقَتنا أحياءً في مجتمعٍ واحد.
قال: يعجبني أن شابًّا غريبًا مثلك يناقشني بلا حذر أو اصطلاحاتٍ فلسفية، بالتأكيد هناك أشياء لم تُعرف بعدُ.
قلت: وقد تغيَّر إذا عَرفتَ نظرتنا إلى الوجود والإرادة المستقلة؟
قال: وقد تغيَّر، ممكنٌ. ممكنٌ جدًّا.
قُلتُ: لماذا لا نعتبر أي فلسفةٍ إذن مُجردَ نظريةٍ نتركها تتصارع مع غيرها من النظريات والاكتشافات، بلا تعصُّب ودون أن نُحاول أن نُقيم من أنفسنا مُحامِين لهذه النظرية ومُدافعِين عنها؛ فالتعصُّب لهذه الفلسفة أو تلك ممكنٌ أن يعوق وصولنا إلى الحقيقة.
قال: لكن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها إلا بصراع، والصراع لا يمكن أن يتم إلا بين مُتعصِّبِين؛ فاعتناق النظريات والدفاع عنها يُقرِّبها من الحقيقة ولا يُبعِدنا عنها.
قلت: الصراع بين الوجودية والاشتراكية مثلًا يُقرِّبنا من الحقيقة؟
قال: طبعًا. على شرط ألَّا يتم الصراع في قلب الشارع. أقصد الصراع بين المُفكِّرِين الواسعِي الأُفق.
قُلتُ: مجرَّد تَساؤل قد يكون سخيفًا، ولكني أرجو أن يسمح لي به أعظم كاتبٍ اشتراكي وأعظم كاتبٍ وجودي. الوجودية تعتبر الفرد مسئولًا عن اختياره وتصرُّفاته ومصيره. والاشتراكية تعتبر المجتمع هو المسئول، أليس من المحتمل إذن أن تنشأ في القريب نظريةٌ ثالثةٌ تجمع الوجودية والاشتراكية وتملأ الفجَوات وتُفسِّر بدرجةٍ أَوضحَ وتُحدِّد بدرجةٍ أَدقَّ حركة الفرد بالنسبة لحركة المجتمع، والعلاقة بين الوجود الفردي والوجود الجماعي؟".
ولا يخفى إن غايتنا من نقل هذه الحوار بكامله، والذي يجري بين كاتب عربي وبين فيلسوف كبير مثل سارتر؛ نعم لا يخفى، الهدف أو المغزى من هذا النقل، واعتقد إن المغزى لم يفت القارئ اللبيب.

الانسان والوجود:
إذن، وبعد كل الذي تطرقنا اليه، توصلنا الى إن الوجودية شيدت صرحها على وجود الانسان، كذات فاعلة، وهذه الذات "الانسان" له حرية وكرامة وباعتباره سيد الوجود، لأنه عاقل ويعي اكثر من سواه من المخلوقات الاخرى، والذي تميز بالناطقية والتفكير. وله الافضلية في تقييم نفسه، كما يرى: سارتر أفضل شيء للإنسان أن يعتني بتقييم نفسه، وليس تقييم الاخرين له.
حتى إن سارتر يغالط (كانط) لما وازن كانط بين رجل الغابة والطبيعة والبورجوازي. وقال سارتر "إن الوجود ليعلن صراحة أن الانسان يحيا في قلق ويكابد القلق. وهو يعني من ذلك أن الانسان عندما يلزم نفسه تجاه شيء ما، ويدرك في نفس الوقت أن اختياره سيكون اختيارًا لما سيكونه وإنه لا يختار لنفسه وحدها، بل هو مشروع لنفسه يختار للإنسانية كلها في نفس الوقت- ففي لحظة كهذه لا يمكن للإنسان أن يهرب من الاحساس بالمسؤولية الكاملة العميقة".
ونعتقد إن الفلسفة الوجودية لها اليوم ارض صلدة تسير عليها، بحسب هذه المتغيرات التي حدثت وتحدث في العالم اجمع، وهو ما يطلق عليه بعضهم بـ "الوجودية الجديدة".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجيش الروسي يستهدف قطارا في -دونيتسك- ينقل أسلحة غربية


.. جامعة نورث إيسترن في بوسطن الأمريكية تغلق أبوابها ونائب رئيس




.. قبالة مقر البرلمان.. الشرطة الألمانية تفض بالقوة مخيما للمتض


.. مسؤولة إسرائيلية تصف أغلب شهداء غزة بالإرهابيين




.. قادة الجناح السياسي في حماس يميلون للتسويات لضمان بقائهم في