الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النمط الألماني من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (3)

عبدالله تركماني

2020 / 10 / 15
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


أما هيغل (1770-1831)، فإنّ نظرية الدولة والحق وفلسفة التاريخ عنده ليست سوى أجزاء من مجموعة منتظمة، لهذا فإنه قلما اهتم في الترتيب العام للتاريخ العالمي. وفي التاريخ الكلي، ليس الشأن شان المفرد، فـ" الروح " يتجلى في التاريخ عبر " كليات مشخصة "، أي شعوب. و" الروح "عنده هو" الروح القومي "، أي " النمو لمبدأ تحيط به أولاً صورة توق غامض، ويتجلى في الخارج، وينزع لأن يكون موضوعياً. وهو ينتشر في الدين والعلم والفنون والمصائر والأحداث ".
لقد أكد هيغل، لاسيما في درسه الافتتاحي في جامعة برلين، على التطابق التاريخي بين الدولة لبروسية والدولة المثالية والعقلية التي تفضي إليها فلسفته في الحقوق والتاريخ، والشعب الذي كان محط النظر في زمانه هو الشعب الجرماني. وقد أشاعت المدرسة التاريخية الفرنسية بأنّ هيغل هو من برّر الحكم المطلق البروسي، وبأنه المدافع عن الحقوق المطلقة للدولة قبالة الفرد. ومن المؤكد أنه ليس مسؤولاً عن النزعة الاستبدادية للإمبراطورية الألمانية في الحقبة البيسماركية، وإن ظهر أنه قد اعتقد، على الأخص في السنوات 1818-1830، بانه وجد في الدولة البروسية تجسيداً تاريخياً لنظريته في الدولة الحديثة، فلا يبدو من الممكن أن يُلام لأنه أيّد أنّ هذه الدولة المشخّصة قد كانت أفضل تنظيم سياسي ممكن.
وفي الحقيقة، يتخذ هيغل موقفاً معاكساً لموقف فلاسفة القرن الثامن عشر و" صنّاع دساتير " الثورة الفرنسية، ففي نظره، بما أنّ كل ما يوجد إنما هو إبداع تاريخي للروح، هنالك فيما سبق بل على الدوام عقل في ما هو موجود، كما سبق وأن وجدت هنالك حرية. ففي كتابه " مقدمة فلسفة الحق "يقول: إذا صدّقنا منظّري " الدولة الصالحة " قد يبدو " أنه ما كان هنالك – بعد - في العالم أجمع دولة أو دستور لدولة، وأنه يجب الآن البدء من البداية ". وهذه فكرة خاطئة في نظر هيغل، فلا يمكن البحث عما قد يمكن أن تكون عليه الدولة لأنّ الدولة سبق وأن وُجدت. فالبحث عن الدولة " الصالحة " لا يمكن أن يكون إلا نظرية عقلانية الدولة التي توجد.
كما رأى هيغل أنّ خطأ كانط والفلاسفة الليبراليين يكمن في أنهم لم ينظروا في الإرادة الحرة للذات المفكرة إلا تجريداً، في حين يجب البحث عن الحرية في تنظيم عقلي وكلي لها. والسياسة، حسب هيغل، هي علم التحقيق التاريخي للحرية في تجسيداتها المتعاقبة والتدريجية عبر وساطات مشخّصة (الأسرة، الهيئات الحرفية، الدولة)، فالدولة هي " دائرة التوفيق بين الكلي والخاص "، وهي الوساطة التي تصنع " ثقافة " الجمهور، كيما تقوده ليعقل نفسه كـ" شعب "، أي كجماعة حرة من البشر، الذين أدركوا أنّ الدولة إنما تجسّد هذا الكلي الذي ارتقوا هم ذاتهم إليه، بوقوفها فوق المصالح الخاصة.
وخلاصة القول، إنّ هناك حرية في الدولة إذا تحقق، حسب هيغل، الشرطان التاليان (11):
(أ)- إن أُمكن للمواطن العاقل أن يجد فيها تلبية رغبات ومصالح معقولة يستطيع أن يبررها أمام نفسه، من حيث هو كائن عاقل ومفكّر.
(ب)- إذا أُمكن لقوانين الدولة أن يعترف بها، كقوانين عادلة، جميع أولئك الذين عدلوا عن الحياة حسب غريزتهم الطبيعية المباشرة أو " حسب اختيارهم "، وجميع أولئك الذين فهموا أنّ الإنسان الطبيعي ليس حراً في الواقع، بل أنّ الكائن العاقل والكلي فحسب هو الذي يمكن أن يكون حراً.
ويبدو أنّ الفلاسفة الألمان، بالرغم من اختلاف منظوراتهم إلى مسألة الدولة القومية، قد أعطوا التبرير والشرعية للدولة الألمانية الحديثة، مستندين إلى الأفكار الرئيسية الثلاث: العضوية Das Ganze، والدينامية Streben، والتميّز Eigentulichkeit. بحيث أنّ العضوية تعني كلية الدولة وأسبقيتها على المواطن الفرد، وما المواطن إلا جزء من كل تجسّده الدولة وتربطه بها رباطاً عضوياً. والدينامية تعني الاندفاع بلا حدود نحو الإرادة، التي غدت عند نيتشه الإرادة نحو القوة. وعندما اختلطت الفكرتان (العضوية والدينامية) تولّد تصوّر جديد للفرد، من حيث كونه أحد أعضاء الكل (أي الدولة)، فيوجه اندفاعه وأفعاله من خلالها، بحيث تصبح الدولة التجسيد الحي للإرادة نحو القوة التي لا تعرف الحدود.
لقد انتهت القومية الجرمانية الجامعة إلى تمجيد الحرب والتوسع، حيث ظهرت في القارة الأوروبية وفي المستعمرات الألمانية في آن واحد، وقد تلاقى الليبراليون والمحافظون في رابطة " الجرمانية الجامعة "، وشاركوا في الحماسة القومية نفسها. ولقد أعلن الإمبراطور غليوم الثاني، في يوم 13 أغسطس/آب1907، قائلاً : " سيكون الشعب الألماني، تُوَحّدُهُ روح الوفاق الوطني، صخرة الغرانيت التي سيستطيع إلهُنا أن يبني عليها العمل التمديني الذي ينوي عليه في العالم وسيكمله "، وبالفعل اندلعت الحرب العالمية الأولى بعد سبع سنوات.
ثم جاء أدولف هتلر (1889-1945)، زعيم الحزب العمالي الألماني القومي الاشتراكي، ليجسّد الدولة التي لا تعرف الحدود، وذلك ما طرحه في كتابه كفاحي Mein Kampf (1925-1927). ففي أول لقاء شعبي كبير للحزب بميونيخ، يــوم 25 فبراير/شباط1920، عرض هتلر على الجمهور برنامج الحزب في خمس وعشرين نقطة. نجد فيه، على الصعيد القومي الداخلي: التجديد العرقي (التمييز بين البشر ذوي الدم الألماني، مواطني الرايخ وحدهم، المقبولين وحدهم في الوظائف العامة، وغير الألمان، ومنهم اليهود، غير المواطنين، الخاضعين لاحتمال الطرد، حماية الأم والطفل، إلزامية التربية البدنية والرياضية، الإصلاح العميق لكل منظومة التعليم في اتجاه أكثر عملية ومع تلقين فكرة الدولة في القاعدة، فضح الفساد البرلماني والروح اليهودي - المادي والكذب السياسي الإرادي في الصحافة ، بدلاً من الحقوق الرومانية الكلية والمادية، إقامة حقوق مشتركة ألمانية، إعلان ضرورة مركزة قوية للرايخ، تأكيد مسيحية وضعية - إيجابية مستقلة عن كل مذهب خاص أو طائفة خاصة - وفيما عدا ذلك، حرية أية طوائف أو مذاهب دينية في الدولة " طالما لا تضع وجود الدولة في خطر أو تخالف شعور اللياقة والأخلاقية للعرق الجرماني ").
وعلى نفس الصعيد القومي، لكن في المضمار الخارجي، نجد الأهداف الرئيسية الثلاث: جمع كل الألمان في ألمانيا كبرى على أساس حق الشعوب في تقرير مصيرها، إلغاء قيود معاهدة فرساي، إعادة المستعمرات الألمانية: " الأرض اللازمة لإطعام شعبنا ولتصريف فائضنا السكاني عن طريق الاستعمار ". وفي الواقع، كانت هذه النقاط الخمس والعشرون لسنة 1920، تقدّم هيكلاً أساسياً كاملاً لكتاب " كفاحي ".
لكنّ الكتاب كان أكثر طموحاً من برنامج الدعاية المباشرة لعام 1920، فالزعيم القومي - الاشتراكي، بخلاف زعماء أحزاب جمهورية فايمار، يقصد الإتيان لا بشعار انتخابي جديد، بل بـ" تصوّر فلسفي جديد ذي أهمية أساسية ". رؤية للعالم مصاغة، مثل دين حقيقي، في عقائد واضحة محددة. رؤية للعالم سيكون للدولة الجديدة، الأداة وحسب، كعلة وجود، أن تخدمها، في الداخل والخارج على حد سواء. ويتضح قوام هذا التصوّر للعالم في الفصل الحادي عشر، وعنوانه " الشعب والعرق "، حيث نجده يؤكد على:
(أ)- كل حيوان لا يتزاوج إلا مع مجانس من نفس النوع، وإذا ما تمت مخالفة هذه القاعدة، فإنّ الطبيعة تطبّق جميع الوسائل للنضال ضد هذه المخالفات.
(ب)- الانتصار الكامل والنهائي للذين يمثلون القيمة الأعلى.
(ج)- إنّ دور الأقوى هو أن يسيطر لا أن ينصهر مع الأضعف.
والحال هناك نوع من البشرية، حسب هتلر، متفوّق، هو العرق الآري الذي هو" مستودع تطور الحضارة البشرية "و" بروميثيوس البشرية ". هكذا، فإنّ مسألة الدم والعرق هي مفتاح تاريخ العالم: " كل شيء في هذه الدنيا يمكن أن يصير أفضل، كل هزيمة يمكن أن تكون أُمّاً لنصر مقبل، كل حرب خُسرَت يمكن أن تكون سبب نهوض تالٍ، كل نكبة يمكن أن تُجْعَلَ خصبة العزيمة البشرية، وكل اضطهاد يمكن أن يثير القوى التي تنتج بعثاً معنوياً، طالما الدم حُفظ نقياً. لكنّ خسارة نقاء الدم تدمّر إلى الأبد السعادة الداخلية، تخفّض الإنسان إلى الأبد، وعواقبها الجسدية والمعنوية لا تمحى...في الدم، وحده، تكمن قوة أو ضعف الإنسان. الشعوب التي لا تعترف ولا تقدّر أهمية أسسها العرقية تشبه أناساً يريدون أن يمنحوا نوع كلاب الوبر الطويل المجعّد صفات الكلاب السلوقية، دون أن يفهموا أنّ سرعة الكلب السلوقي وطواعية كلب الوبر الطويل ليستا صفتين مكتسَبتين بالترويض، بل هما ملازمتان للعرق نفسه. الشعوب التي تتخلى عن صون نقاء عرقها تتخلى بذلك عينه عن وحدة نفسها...".
أما عن رسالة الدولة، حسب رؤية هتلر في كتاب " كفاحي "، فهي أنها دولة مناهضة لليبرالية، مناهضة للبرلمانية، مناهضة للأحزاب، دولة مؤسسة على مبدأ وصوفية الزعيم، ومحركها حزب واحد أحد، وسيط بين الجماهير والزعيم. الدولة، بالنسبة لهتلر، ليست إلا جهازاً إدارياً من حكام ومكاتب ووسائل إرغام، جهازاً وآلية في خدمة غاية، هي بقاء وتطور جماعة من كائنات بشرية من نوع واحد مادياً وخلقياً. هي: " دولة لا تكون آلية غريبة عن شعبنا، في خدمة حاجات ومصالح اقتصادية، بل تكون عضوية نابعة من الشعب، دولة جرمانية لأمة ألمانية ". والهدف الأسمى للدولة هو جمعها، حفظها، حمايتها، جعلها أخيراً تصل، ببطء ولكن بأمان، إلى وضعية مهيمنة.
وفي وصيته السياسية من أجل الموقف الألماني في الخارج، قال هتلر في خلاصة كتابه: " لا تسمحوا أبداً بأن تتشكل في أوروبا قوتان قاريتان. في كل محاولة لتنظيم قوة عسكرية ثانية على حدود ألمانيا، رُدُّوا هجوماً ضد ألمانيا...احرصوا على أن لا يكون مصدر قوة بلدنا في مستعمرات، بل في أوروبا، في تراب الوطن. لا تعتبروا أبداً الرايخ مضموناً ما لم يتمكن من إعطاء كل فرد من شعبنا، لقرون، قطعته من الأرض..". وفي السطور الأخيرة من خلاصة كتابه، المكتوبة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1926، وقت كان قد أعاد تنظيم الحزب النازي، وجدّده، وكيّف تكتيكه مع العمل البرلماني، كتب: " إنّ دولة، في عصر تلوّث العروق، تسهر بغيرة على صون أفضل عناصر عرقها، لا بدَّ أن تصير ذات يوم سيّدةَ الكرة الأرضية "(12).
وبفضل الأزمة الاقتصادية (1929-1932) التي أدت إلى البطالة والبؤس، تقدم الحزب القومي -الاشتراكي بخطى واسعة نحو الحكم، إذ أصبح هتلر مستشاراً للرايخ في سنة 1933، حيث بدأ الانتقال من النظرية إلى التطبيق العملي. وبذلك، رأينا كل قسمات " الأمير الجديد "حسب مكيافلي، أمير جديد مكيّف للقرن العشرين، قرن الجماهير والأساطير الاجتماعية أو القومية المنفلتة من عقالها، قرن الوحشية العلمية الباردة أيضاً.
الهوامش
11 - توشار، جان: تاريخ الأفكار...، المرجع السابق، ص 180-181.
12 - شفاليه، جان جاك: المؤلفات السياسية...، المرجع السابق، ص ص 356-376.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ألعاب باريس 2024: اليونان تسلم الشعلة الأولمبية للمنظمين الف


.. جهود مصرية للتوصل لاتفاق بشأن الهدنة في غزة | #غرفة_الأخبار




.. نتنياهو غاضب.. ثورة ضد إسرائيل تجتاح الجامعات الاميركية | #ا


.. إسرائيل تجهّز قواتها لاجتياح لبنان.. هل حصلت على ضوء أخضر أم




.. مسيرات روسيا تحرق الدبابات الأميركية في أوكرانيا.. وبوتين يس