الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأمية الحضارية في العقل العربي

عبدالعزيز عبدالله القناعي

2020 / 10 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الكثير من الناس يدعي أو يشتكي بأن الزمن الحالي يفتقر إلى التربية والتعليم الصحيح، بعد الحديث عن أن تطور المجتمعات، تكنولوجيا وعلميا قد أفضى إلى تغيير كبير في سلوك وطبائع الناس، قد يكون إلى الأحسن أو الأسوأ بحسب البيئة وعوامل أخرى. لكن ما يجمع هذه التحولات، وما يخلق هذا التطور أو التخلف، هو وجود عنصر التربية الذاتية أو الأسرية أو المجتمعية في حياة البشر، وقد أدى ظهور عدة مدارس بعلم التربية إلى اختلاف وجهات النظر حول مفهوم وماهية التربية الصحيحة للأجيال الحالية والقادمة. فكيف ننظر كمجتمعات عربية إسلامية إلى التربية والتعليم بوقتنا الراهن؟؟. قد يكون السؤال الأول هو من سيحدد طريقة نمط ما نسعى إليه كأفراد ومجتمع بالتوصل إلى رؤية شاملة للنهوض الاجتماعي والسياسي. فمن يسبق من؟ هل التربية قبل التعليم، أم إن التعليم أولا يفضى إلى وجود تربية صحيحة؟ . فالتربية تستفيد من النظريات المختلفة التي جاءت بها العلوم الإنسانية والفلسفية والاجتماعية التي تفسر مختلف الظواهر النفسية والاجتماعية والعلاقات السلوكية الإنسانية المتعددة، والناظر الي الواقع التعليمي العربي يرى ان التعليم في العالم العربي والإسلامي قاصر على نوع معين من الأخذ بالعلوم وهو التعليم الديني، وإن هناك انتقائية وازدواجية في التعاطي مع المعارف الأخرى، ويظهر هذا الأمر جليا في تحريم الفلسفات النظرية لعلماء متنورين حداثيين، وتحريم دراسة هذه النظريات بما يفتح مدارك الشباب والناشئة حول الكون والوجود والإنسان ولعل أهمها نظرية التطور. مما أفضى أن تعيش المجتمعات العربية في حالة متأخرة تعليميا، وذلك بسبب تفشى الأمية، ونعنى هنا، ليس الأمية التقليدية التي شارفت على الانتهاء، ولكن الأمية الحضارية التي أصبحت أكبر عائق في العقل العربي المسلم يمنعه من تجاوز أزمة الانغلاق والتطرف.
وفي جانب المؤسسات المضطلعة بالتربية والتعليم في الوطن العربي، حددت لنا الخطة الشاملة للثقافة العربية التي وضعتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في ثمانينيات القرن الماضي، الدور الذي ينبغي أن يضطلع به النظام الثقافي بعامة، ومن ضمنه النظام التربوي، في حياتنا المستقبلية العربية، بحيث يتضمن: زرع الثقة والأمل، وضع الأسس الفكرية والحضارية للمجتمع العربي، تنمية الأهداف الكبرى للوطن العربي ومنها الحرية والمساواة والتنمية، فأين وصلنا كشعوب عربية بتطبيق هذه المبادرة؟ وهل ما زالت المؤسسات التربوية العربية تحظى بالاحترام؟.
من منطلق الحفاظ على الإسلام والهوية والخصوصية، الي آخر تلك الديباجة المؤدية الي الجمود والانغلاق والتعصب، تقوقع التعليم العربي في زمن الماضي خوفا من فقدان الهوية العربية الإسلامية، دون تقديم أي مشروع حضاري تعليمي يواجه تحديات الحداثة وآفاقها الإنسانية التى تقلص الفوارق وتدمج الإنسانية في بوتقة الحرية والإخاء والمساواة، ما عدا من ترقيعات اسلاموية وبراهين علمية قاصرة وموائمات فقهية عاجزة، وخطاب اسلامي عاطفي لا يزال يعتمد على النقل والتقليد ويحارب النقد والشك والحوار. لقد غاب النظام التعليمي العربي بكل حدة عن الواقع الحالي ومعطياته الحضارية، ووجد في التاريخ الإسلامي المعين الذي لا ينضب من التراث ليكون بديلا عن الحضارة الحداثية، ولم تفلح دعوات التقارب والوسطية في خلق مناخ تعليمي علمي عربي، بل أنتج التعليم والمناهج الدراسية نماذج التيارات الإسلامية المتطرفة التى ملئت المجتمعات العربية بالعنف والدمار والرجعية، ووضعت المواطن العربي في صراع، ليس مع ذاته من أجل البناء، ولكن مع الآخر المختلف في الرأي والفكر والعقيدة مما جعل مخرجات التعليم العربي تواجه الحياة والوجود بنظرات التحدي وثنائيات الكفر والايمان او الحلال والحرام.
لطالما تعتبر التنمية المعرفية هي طريق المجتمعات المتقدمة في الوصول إلى تربية وتعليم عاليين، في حين أن جامعاتنا العربية والبحث العلمي فيها في أسفل درجات التقييم للمعايير الدولية، ولم يعرف فضاؤنا العربي بروز مجتمعات المعرفة والابتكار والخلق، فالعقول المبدعة تهاجر الي الخارج بعد أن تواجه المحرمات والعراقيل الادارية والبيروقراطية المزمنة في بلادها، بينما تجد هذه العقول العربية، غاية الإبداع والخلق والصناعة والعطاء متي ما توافرت لها بيئة حرة وحاضنة لكي تبدع في المجالات المختلفة، وليس هناك أكثر من العلماء والمفكرين العرب الذين يعيشون في الغرب ونسمع عن اختراعاتهم العلمية والثقافية، ونحن نتحسر ونتألم لواقعنا الذي مازال يجتر إرث الماضي ليبحث وينقب فيه عن حكايا الإعجاز والتفوق الديني الوهمي.
لقد تبنت الأمم المتحدة إعلان الألفية الثالثة بشأن التنمية في سبتمبر/أيلول 2000، وتضمن ثمانية أهداف أساسية تصبو إليها البشرية، من أجل عيش أفضل، ومن ضمنها تحقيق تعميم التعليم الابتدائي، فأين وصلت الدول العربية في تضمين التعليم الابتدائي لكل أطفال العرب، بل أين وصلت الأنظمة العربية في جعل التعليم الابتدائي النواة الأساسية لكي ينشأ الطفل وهو ذو عقلية تحررية فكرية، متقبلا للسؤال والنقد والشك، ورافضا للقمع والتلقين والحفظ. هنا في الواقع لن نجد الا أجيالا ممسوخة الهوية، وضائعة في التقليد والتبعية والجمود، هنا في مجتمعاتنا، نجد الجيل الجديد يلبس افخم الماركات ويقود اغلى السيارات ويسافر في الصيف الي دول الغرب الكافر، لكنه يفكر مثل الصحابة في العصر الاسلامي، يؤمن بالغزو ونشر الاسلام بالسيف وقهر المرأة وفرض الوصاية عليها، يؤمن بقتل المرأة اذا مارست الجنس دون زواج، يؤمن بقتل وقمع المختلف عنه في الدين والمذهب. هذه التناقضات والأزمات النفسية، لم تصنعها الحداثة ولا العلمانية ولا نظرية التطور، وإنما التعليم العربي بكل ما فيه من مناهج وخطاب عقيم غير قادر على مواجهة الواقع بعقل نقدي حديث.
بعد ثورات الربيع العربي، وفي كثير من الدول العربية، استبشرت الشعوب العربية، وربما أنا أكثرهم، بأن الثورة على الأنظمة القمعية سيلحقها ثورة تعليمية ثقافية كبرى تقتلع النماذج التعليمية السابقة وتضع الانسان العربي على سكة التعليم العلمي الموازي للتقدم والتفوق، وتستجلب نماذج الحداثة والتنوير وتستلهم من الثورة الفرنسية الغايات الكبرى والأهداف العظيمة لبناء الانسان ومبادئه وتطلعاته الي دول أكثر حرية، والي شعوب ومجتمعات أكثر تمدنا وعلمانية، ولكن دائما، وكما يقال تجرى الرياح بما لا تشتهي السفن، فلم تزال دول الثورات العربية تعاني من إنسدادات تاريخية وصراعات دينية مذهبية عطلت التحول والإنتقال الديمقراطي، الي دول ومجتمعات مدنية تعتمد على الإنسان في البناء والتغيير والمستقبل، فلم تتمكن الحكومات حتى اليوم من تغيير النمط العربي السائد قديما الي نمط متغير حداثي، فالبنية العقلية العربية ما تزال ترى في الآخر هو العدو، وما زالت ترى في التنوير والعلمانية محددات للكفر والزندقة، وهو ما ينبأ بمستقبل أكثر ظلاما وأكثر تخلفا طالما بقيت الثقافة التراثية الرجعية تتحكم في الانظمة العربية، وطالما لم يتم فصل الدين عن الدولة كحل نهائي ووحيد لمواجهة الصراعات الطائفية والعرقية. حتى وبعد أن خفت هدير الثورات العربية برز على سطح النقاشات الثورية العربية بعد أحداث الربيع العربي، موضوع الإصلاح السياسي لهياكل الدول العربية..ومن ضمن تساؤلاتنا الحائرة، ومن ضمن الواقع العربي التعيس، اختفت تلك التساؤلات العميقة: كيف نضمن دخول أهمية التربية والتعليم الحديثين ضمن هذا الإصلاح السياسي؟ ومن يقوم به؟ وهل علمنة المجتمع تسبق تحديث التعليم؟. خصوصا إذا علمنا أن الشعوب العربية لا تريد أن تناقش نظام عاداتها وتقاليدها وثقافتها الدينية، وتضع آلاف الخطوط الحمراء والسوداء لمنع المناقشة والحوار والنقد في مسائل العادات والتقاليد والاسلام.
إن الخروج من مأزق التربية والتعليم في العالم العربي ضمن عالم سريع الخطى نحو المتغيرات، يتطلب من الشعوب العربية والاسلامية وقبلها الأنظمة السياسية، القيام بممارسة نقد الذات، وتفكيك الثقافة الموروثة، والاعتراف بالأخطاء حتي نستطيع ان نصحح المستقبل، فالأجيال القادمة تنتظر منا ما هو مستقبلهم، وما قد نؤسسه اليوم من قيم ومبادئ إنسانية عالية سوف نري ثمارها لاحقا فيما يحمله الانسان العربي من مبادئ ثورية وعقلانية علمية يعمل بها من أجل مجتمعه ووطنه بعيدا عن كل ما يسئ الي وطنه ونفسه والآخر. إن زمن التعلق بالماضي وحكايا المعجزات قد أنتهي، وأصبح بديله المنطق والعلم، فما يحققه الانسان اليوم هو الحضارة، فيجب علينا أن نبني عقول الشباب بكل ما هو عقلاني، وأن نعلمهم حب الاكتشاف والبحث عن كل ما هو ممكن حدوثه، متسلحين بالايمان الصحيح، والاساليب العلمية الحديثة، عندها فقط نكون قد أورثنا أجيالنا القادمة ما يفخرون بحمله معهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليم عربى أم إسلامى
طاهر المصرى ( 2020 / 10 / 16 - 18:34 )
الأستاذ/ عبد العزيز القناعى
أحييك على المقالة التى تلخص الأزمة العقلية التى يعيشها المسلم العربى منذ أكثر من 1400 سنة، تلك الأزمة التى فشل المسلم فى تطبيع إيمانه مع إنسانية البشر، وأقصد أن المسلم منذ كتابة القرآن وحتى اليوم يرفض أن يعتبر الآخر مجرد إنسان أخ له فى الحياة وشريك له فى الوجود، وبكل وقاحة وإصرار يريد أن ينعت الآخر بالكافر والكفار وإذا عاتبته على هذا الأسلوب التربوى والأخلاقى الغير إنسانى يجيبك: أنا لم أقل شيئاً كل هذا كلام الله وهو الذى أوصانا بذلك!!
إذن الفرد المسلم العربى لا يعيش فى أزمة أو تناقض بأعتبار انه يستهلك منجزات الكفار ويفكر بفكر نبيه محمد وصحابته، وإنما يفكر ما يتم تربيته عليه وتعليمه فى المساجد والهيئات الدينية وأساتذة المدارس الذين دائماً يتكلمون بلسان الصحابة، ويتعلم التلاميذ والطلاب منهم أن الغزو فرض لجلب السبايا وقهر وقتل المرأة التى تلوث شرف الرجل، وعليهم الأستعداد للخلافة الإسلامية العالمية وهذا قليل من كثير يقال فى المساجد وفى المدارس من مدرسين ومدرسات!!
متى يكف المسلم والمسلمة عن نعت الآخر بالكافر؟ هذا هو المستحيل الإسلامى الكبير.
شكرا


2 - تناقض جذري
محمد البدري ( 2020 / 10 / 17 - 09:21 )
الايمان في الاسلام اصبح عقبة كاداء في سبيل التقدم بل وفي القدرة علي البقاء ضمن المسيرة الانسانية عامة.
فالاسس القرآنية في الاسلام وبشكلها النهائي التي ارست عليه نظم الخلافة او الدولة الاسلامية اسسها قائم علي التفرقة بين البشر علي اسس عقائدية. فاذا كان العالم اليوم يطالب بمساواه البشر جميعا وتحاشي الفروق الموروثة عرقيا او حنسيا او ثقافيا فان الاسلام بمفاهيمه يطمس كل هذا ويدعي في نفس الوقت انه جاء للناس كافة. اي انه جاء للناس ليفرق بينهم. فما هو تعريف التخريب في ضوء تعليقي هذا؟


3 - إلى طاهر المصري
عبدالعزيز القناعي ( 2020 / 10 / 17 - 13:01 )
شكرا لك عزيزي على قراءة المقال. نعم اتفق معك تماما في رؤيتك حول أن هناك أزمة كبيرة وعميقة في العقل العربي المسلم وهو يتداولها منذ عقود طويلة جدا وهي نفسها التي أدت إلى أن يعيش اليوم بهزائم وخيبات عديدة.
لا شك أن الإسلام بشكله الحالي يعاني من أزمة كما قال ماكرون ولا سبيل لتجاوزها أو فهمها إلا بنقد الإسلام وفصله عن الدولة والمجتمع والقانون.
تحياتي لك


4 - إلى محمد البدري
عبدالعزيز القناعي ( 2020 / 10 / 17 - 13:03 )
تحياتي استاذ محمد
بالتأكيد تعيش المنظومة الإيمانية وتمظهراتها الشكلية بعدة أزمات منبعها التدين التقليدي المؤسس على أفكار الماضي وأهل القبور وتقديس الموتى.
نحن اليوم أمام تحديات ضخمة تتطلب الشدة في تفكيك المنهج الإسلامي ودعم خطوات العلمانية وبناء الدولة الحديثة.
كل الشكر.

اخر الافلام

.. كل سنة وأقباط مصر بخير.. انتشار سعف النخيل في الإسكندرية است


.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب




.. الفوضى التي نراها فعلا هي موجودة لأن حمل الفتوى أو حمل الإفت


.. مقتل مسؤولَين من «الجماعة الإسلامية» بضربة إسرائيلية في شرق




.. يهود متطرفون يتجولون حول بقايا صاروخ إيراني في مدينة عراد با