الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسومات شارلي إبدو وعالم المسلمين المنغلق

عبدالعزيز عبدالله القناعي

2020 / 10 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



في زمن لم يعد فيه بالإمكان إخفاء أي تعبير فني أو فكري أو سياسي عن المطالعة والمشاركة والتعليق والتعبير، أصبح من الضروري أن تتغير الأفكار والايديولوجيات والمفاهيم وحتى الأخلاق، للتعاطي مع هذه المتغيرات أو لفهمها وعقلنتها، أو تبنيها أو رفضها بشكل حضاري. فما يحدث اليوم في عالم العولمة والتكنولوجيا المفرطة وما بعد الحداثة، لا يمكن السيطرة عليه بفتوى دينية أو قانون دستوري أو محاربة سلطوية. فالواقع يقول لنا دائما أن التطور هو الصيغة المثلى لبناء ما يمكن تسميته بالتوافق المدني. بمعنى أن تكون كل المتغيرات موجودة ومتاحة، بشرط أن يحميها رغبة الإنسان في التعلم والمشاهدة والابداع وكسر الحواجز واليقينيات والمطلقات، ويدافع عنها الرأي والحوار والتعددية بدلا من العنف والهمجية في الرد والتعليق. ورغم أن العنف، يعتبر بالضرورة، أحد أوجه السلوكيات البشرية منذ وجود الإنسان على سطح الأرض، الا أن تقليص نسبته أو تزايد مفاعيله، يخضع بكل تأكيد الي عوامل أخلاقية وبنيوية وسياسية واجتماعية واقتصادية.
منذ أيام مضت، إنشغل العالم بما يحدث في فرنسا، وما يفعله الرئيس الفرنسي ماكرون في تعاطيه مع الإسلام، وتحديدا الإسلام الراديكالي بحسب وصفه. وهذا التعاطي، وبحسب الثقافة الغربية، والاوروبية تحديدا التي تخلصت من هيمنة الدين على الفضاء العام، كان بالضرورة تعاطي واضح وشفاف وجريئ في التعامل مع مسلك الأديان وممارسة معتنقيه وتأثيرهم على الأمن الوطني والتعايش المجتمعي. ذلك التعايش الذي ضحت من أجله الشعوب الأوروبية الكثير، ودفعت ثمنه بالدماء والضحايا والحروب والإنقسامات حتى توصلت للشكل المنهجي والديمقراطي والأخلاقي في التعايش مع الاختلافات واحترام الحريات الفردية، وغيرها من الحريات التي شكلت قوام تلك الدول ومسار تلك الشعوب المتقدمة. لقد كانت العلمانية ذلك الخيار المتفق عليه، في فرنسا تحديدا، بكل ما تعنيه من وضوح سياسي واجتماعي في فصل الدين عن الدولة وحماية الإنسان، هو الخيار العقلاني الذي جاء تتويجا للثورة الفرنسية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وبالتالي اهتدت الأمم والشعوب الي مخلصها الفكري الحداثي، ذلك المنتج الفلسفي الفكري الذي استطاع إعادة الدين الي مساره الشخصي، وإعادة الشعوب الي عملها وصناعتها وابداعها ومستقبلها.
هذا الإنجاز التاريخي الذي مازالت فرنسا تفتخر به، بل وتدافع عنه أمام اليمين السياسي واليسار الراديكالي والرجعية الظلامية، تلازم مع إخفاق أوروبي بدأ منذ ثورات الربيع العربي، منذ الإحساس بالظلم الذي طال الشعوب العربية وممارسة الحكام الديكتاتوريين العرب ضدهم أبشع وسائل التعذيب، منذ أن خرجت غالبية كبيرة من المهاجرين العرب الي دول اوروبا بحثا عن الأمان والاستقرار والحياة، بدأ منذ أن انتصرت الشعوب الاوروبية بغالبيتها لحقوق الإنسان واستضافة أعداد كبيرة بل ومهولة من اللاجئين على طول وعرض القارة العجوز أوروبا، بدأ منذ أن استقرت تلك المجاميع في زوايا الدول الاوروبية وبدأوا في تشكيل غاتوهات سكنية وجمعيات خيرية ومساجد طائفية ومناهج دينية أرادوا فرضها على من استضافهم، ليس بطرق ديمقراطية تؤمن بالاختلاف والتنوع، بل بطرق تهديدية إلزامية. هؤلاء وبعد أن استقروا وشبعوا وامتلأت بطونهم بدل عقولهم وعرفوا معنى الحريات وحقوق الإنسان والعلمانية، انقلبوا بكل جدارة على مستضيفينهم، وطفقوا يهددونهم بثقافتهم ودينهم وشريعتهم، ولم يتوقف الأمر عند هذا، بل طلبوا أموال الدعم من دول الخليج النفطية وجماعات الاسلام السياسي في الوطن العربي، وسكنت مدنهم جماعات الاخوان المسلمين والسلف وكل التيارات الوحشية ذات السلوكيات والأفكار المتطرفة القاتلة الاقصائية. ولم يشفع لهم أن تلك الدول الاوروبية ساعدتهم في تجاوز الأمرين، بل وأوصلت بعض لاجئيهم الي مناصب وزارية وسياسية لا يجروؤن حتى على الحلم بها في مجتمعاتهم العربية والاسلامية. حتى جاءت لحظة الصدام والمواجهة وتطبيق الشريعة بحذافيرها على الشعوب الاوروبية الكافرة المارقة من دين الله.
هنا، لم يفهم هؤلاء اللاجئون وربما حتى اليوم، وهنا أعني بعضهم الكثير وليس جميعهم حتى لا يتم اتهامي أنا أيضا بالتعميم والتجريح. لم يفهم هؤلاء المتطرفون أن حرية الرأي والتعبير حق أصيل للشعوب الاوروبية، وأن ما يمنع الإنسان الاوروبي من الوقوف أمام هذا الحق، بل ويتم محاسبته وسجنه، إذا تجاوز حق الرأي بالتعبير الي التهديد بالقتل أو اشاعة العنف والعنصرية أو تهديد الأمن العام والسلم الوطني. لم يفهم هؤلاء أن تلك الصحيفة المغمورة التى لا يتجاوز عدد نسخها بضع مئات في بداياتها، وأصبحت الآن أيقونة الحريات بعد مقتل رساميهم، هي صحيفة لا تجد لها انتشار أو تشجيع كبيرين، لأن مسألة السخرية من الأديان والأنبياء ومعتنقيها أمر تجاوزته تلك الشعوب ولا تلقى له أي أهتمام كبير، بل أن السخرية من الأديان في المجتمعات الغربية عموما أمرا ليس بالشائع، ولكن كما يقال رب ضارة نافعة، وهو ما استفادت منه هذه الصحيفة في الانتشار والدفاع عنها واعتبارها رمزا لحق الإنسان في التعبير عن رأيه مهما كان مخالفا لرأي الآخرين طالما لا يدعو الي ما قلناه أعلاه.
المشكلة هنا إذا ليست في الصحيفة ولا في الرسامين ولا في محتوى النشر، بل المشكلة التي يواجهها هؤلاء اللاجئون، ويواجهها أيضا جمع غفير في مجتمعاتنا العربية والاسلامية، هي في الثقافة الداعشية التي تجد حاضنتها وفكرها وتاريخها وأخلاقياتها لدينا هنا. تلك الثقافة التي تواجه المختلف بالقتل، والمرأة بالتحجيب، والحريات بالتحريم، والعلمانية بالتكفير، والمختلف بالإزدراء والسجن والنفي والقتل. تلك الثقافة التي لم تعد ثقافة شعبية أو جماهيرية بل اصبحت ثقافة مؤسساتية تجد مكانها في مناهج التعليم وفي مؤسسات الدولة وفي قرارات الحكام ورجال الدين. تلك الثقافة التي لم يجرؤ أحد من المؤسسات الدينية الرسمية على الاعتراف بخطورتها وهمجيتها وقدرتها على تجنيد القتلة والمخربين في أقاصي الدنيا وأطرافها لقتل الإنسان بدم بارد بلا ضمير. تلك الثقافة التي منعت الحياة وشوهت الأديان وحاربت القيم الحضارية ودمرت معنى التعايش والاختلاف والحب والفن والحياة. تلك الثقافة، لم تعد عربية واسلامية فقط، بل تحورت مثل الجينات والفايروسات القاتلة الي ثقافة معولمة وجدت ضالتها في أماكن الحرية والعدالة والقانون والعلمانية، حتى تبطش بأراضيهم وتهدد بقاءهم وتمنع عنهم الأمن والحب والسكون. تلك الثقافة الداعشية، بدأها العرب والمسلمين عندما استسلموا للقمع والوصاية والاسلام السياسي وسلطة رجال الدين باسم الحفاظ على الاسلام من التغريب والعولمة والعلمانية، عندما تساهلوا مع المتأسلمين واعتبروهم أخوانا لهم بينما هم أفاعي تتحرك وتخطط لتدمر ما بقي لنا من صورة معتدلة أمام العالم. تلك الثقافة التي قتلت مدرس التاريخ الفرنسي، وقتلت قبله الكثير من الأبرياء من أجل تطبيق الشريعة والدفاع عن الدين. تلك الثقافة التي شربت من مناهجنا التعليمية واختلطت بالعادات والتقاليد ومارست التدين والنقل والتقليد وسكنت المساجد والمبرات والجمعيات الخيرية، ومنعت كل حرية رأي وحرمت كل معنى للقيم الأخلاقية ودمرت كل خطوة للسلام واحترام الإنسان مهما كان مختلفا.
إن رسومات شارلي ابيدو، لم تكشف لنا إلا على عمق أزمة الإسلام والمسلمين في فهم معنى الحريات وحقوق الإنسان ومعنى الدولة العلمانية. كشفت لنا عن ماهو مكنون في القلوب، عن ما يرغبه البعض في كيفية الدفاع عن الإسلام، عن ما تفعله الفتوى الدينية في تجهيز القتلة والمسلحين، عن ما تمارسه المنابر الدينية في التحريض والدعوة بالهلاك على الغرب وأوروبا وكل من لا يؤمن بالإسلام. كشفت عن عالم منغلق يعيش فيه المسلمون دون أن يعرفوا أن العالم قد تغير، وأن الإنسان قد تطور، وأن التاريخ لم يعد هو الماضي الديني، وأن ما يحاربه السيد ماكرون هو البداية والخطوات العقلانية للتخلص من الإسلام الراديكالي في أوروبا، ونأمل أن نستكمل نحن تلك النهاية بالتخلص من الإسلام السياسي السني والشيعي، حتى نعيد على الأقل بهجة الحياة، ونبني من جديد دولنا الحديثة والمواطن العربي المسلم ذو الهوية العلمانية والمجتمع الديمقراطي.
عبدالعزيز القناعي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. متظاهر بريطاني: شباب اليهود يدركون أن ما تفعله إسرائيل عمل إ


.. كنيسة السيدة الا?فريقية بالجزاي?ر تحتضن فعاليات اليوم المسيح




.. كيف تفاعل -الداخل الإسرائيلي- في أولى لحظات تنفيذ المقاومة ا


.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم




.. لم تصمد طويلا.. بعد 6 أيام من ولادتها -صابرين الروح- تفارق ا