الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من وحي كتاب -سيكولوجية الجماهير-

زكريا كردي
باحث في الفلسفة

(Zakaria Kurdi)

2020 / 10 / 31
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لا شك أن الانسان الفرد يحملُ في طويته الخاصة ، كثيراً من العواطف المتنوعة والمشاعر الفيّاضة المُختلفة ، بالإضافة إلى أنّ ذهنه يطفح بكثير من الأفكار المُتعدّدة حول شتى المعارف والفِكَر..

وكما نعلم جميعاً ، فإن كثيرا من العلماء والمُفكرين ، قد درسوا منذ القدم نفسية هذا الانسان الفرد ، وحاولوا بدأبٍ وجدٍ ، فهم دوافع سلوكه ، وأسس تصرفاته .

لكن هناك علماء وفلاسفة كثر ، لاحظوا أنّ الانسان يتغيّر جداً بسلوكه وتصرفاته ومناحي تفكيره ، بل قد يَصير شخصاً أخر تماماً ، حين ينتمي إلى جماعة ما ، أو حزب ما ، أو معتقد ما ، أو حين ينضمُ في وقت ما ، إلى مجموعة من الناس أو حشد من الحشود .

لذلك شدّد بعضٌ من "علماء النّفس الاجتماعي" على حقيقة مفادها ..

أنه إذا أردنا حقاً فهم سلوك الإنسان الفرد جيداُ، فلابدّ لنا من فهم ودراسة وبحث سلوكه ضمن الجماعة .

و قد ذكر صاحب كتاب "العقد الاجتماعي " الفيلسوف "جان جاك روسو" من أنه :

" سيكون لدينا علم قليل عن قلب الانسان ، إنْ لم نتمكن من دراسته داخل الحشود "

في تقديري يُعتبر العالم الفرنسي " غوستاف لوبون" ( 1841 - 1931) من أفضل الدارسين لسلوك الانسان الفرد ونفسيته ضمن الحشود وسلوك الجموع البشرية .

حيث استطاع بلورة نظرية قيّمة، في فهم نفسية الشعوب والأعراق البشرية. و تمكن فبها من تناول (ظاهرة سلوك الجماهير ) بالدراسة والبحث بطريقة علمية ومتماسكة على ضوء علم النفس.

التي قدمها لنا في كتابه الشهير " سيكولوجية الجماهير " الذي بيّنَ فيه أهمية دراساته شارحاً :

" أنّ معرفتنا لسلوك الجماهير أو الحشود ، سوف يساعدنا كثيراً ، على معرفة مسار الماضي ، وفهم تقلبات التاريخ وتعاقب أحداثه" .

و قائلاً : " أنه في الجموع - وليس في الافراد عامة -، نجد حس التضحية بالنفس لنصرة العقيدة أو الفكرة. هذا الحس المتلهف للبطولة والمجد ، يأتي في أغلبه من اللاوعي . لكنه مع ذلك ، هو الذي كتب لنا أغلب صفحات التاريخ ".

لقد عرّف " لوبون " المُجتمع البشري بأنه مجموع الافراد الذين يتشاركون فكرة ما أو معتقد معين.

وهو كـ غيره من المُفكرين استقى فكرته عن المجتمع في تقديري من المعلم الأول الفيلسوف " أرسطو" . من أنّ الناس ينقسمون إلى قسمين :

- قسم الأشخاص المُفكرين . أو لنقل - مجازاً - صُناع الأفكار ( النُخبة )

- وقسم العاملين . أو قسم العامة من الشعب أو الجمهور ( الدهماء )

و رأى لكل منهما سمات ذهنية عامة تميزها عن الأخرى .

فالعامة مثلاً ، تميل إلى الأفكار السطحية واللغو ، ولديها نزعة شديدة ، إلى تقبّل ظاهر الأحداث والمعلومات ، وسرعة في التصديق دون نقاش أو مساءلة ، أو أدنى تمعّن عميق في الأسباب والربط المنطقي للأحداث.

كما و تعاني هذه الفئة أي ( العوام أو الناس العاديين ) من ضعف القدرة على استقصاء النتائج، والإحاطة الذهنية الدقيقة بمجريات الواقع كما هي ..

ولعل هذا هو بالضبط ،( في زعمي ) السبب الرئيس، وراء تشكيل وظهور معظم الثورات والانتفاضات الجماهيرية عبر التاريخ.

ولاحظ" لوبون" في كتابه ، إلى أنّ التفكير المنطقي لدى الفرد العادي يتوقف تماماً ، حينما ينخرط في أتون المجموعة ، أو حين يُصبح جزءاً مُنسجماً مع مَوجات الحشد .

حينئذٍ تتعطل إرادته الحرة تماماً ، وتجده يقوم بأفعال لا عقلية . كما وتنتج سلوكياته بشكل آلي ، لا روية تفكير فيها ولا منطق مترابط لها أحياناً .

و يقول : " في المجموعة كل شعور يكون معدياً للآخرين ، مهما كان سخيفاً ولا معقولاً، بل وقد يكون مُعْدياً، لدرجة أنّ الفرد يُضحي باهتماماته وأهدافه الخاصة ، لأجل اهتمامات واهداف المجموعة ، بكل حماسة و رضى وطيب خاطر" .

و المثير في الأمر، أنّ جلّ الأفكار التي تُحرك الجموع البشرية تلك ، لا تأتي من أحد أفرادها أو من ثلة منها ، بل تأتي الأفكار من أولئك المُفكرين المُميّزين، الذين أطلقنا عليهم صنّاع الأفكار (النُخبة ) .

الذين يُدركون جيداً أنّ الناس يتفاوتون فيما بينهم ، في القدرات والذكاء والفهم وسعة الذهن ..

والذين أيضاً قد يمتلكون مصالحاً وأهدافا بعيدة كل البعد عن صالح العام أو عما يفهم أولئك الأدوات من المجموع في الشعب و الحشود أو العامة.

ولهذا قد تجدهم، يبثّون لهم أفكاراً مقصودة ، وحقائق منقوصة ، أو شعارات مرسومة بدهاء ومكر ، تُشكل وجدانهم ، وتؤطر سلوكهم ، كي يسهل التحكم بهم وإدارتهم نحو الغايات العليا .

ومن تلك الحقائق المنقوصة والأفكار المرسومة مثلاً كالقول :

أنّ اعقد الأمور هي ذات وجه واحد ، أو أنّ كل أزماتهم لها حلٌ واحد ، أو أنّ الحقيقة ( التي يجب أنْ يهبوا لنصرتها ) ، لها طرف مسؤول عنها واحد بعينه ، ومكان واحد ، أو أنها حقائق بيّنة جداً ، وهي قريبة في متناول يدهم ، أو تحت أول خبطة من أقدامهم أو عند أعلى صرخة من أفواههم أو...أو ..الخ.

وكلما اقتربت تلك الأفكار المبثوثة من دائرة الإيمان والتقديس عند الجماهير ، كلما كانت أكثر تأثيراً ، وأوسع نفوذاً و أثراً و صدى .

وكما يقال : يكفي أن تغلف أية فكرة بصبغة دينية حتى تقنع الجماهير باتباعك ..

والحق أنه يُمكننا أن نلاحظ - وبسهولة - عبر التاريخ ، كيف أنّ كثيراً من الأفكار العظيمة، والشعارات البرّاقة والإنسانية الرائعة ، قد حوّلها الجهلة الثوار ورثاث الدهماء من العامة والبسطاء، الى أحداثٍ مؤسفة ، ومأسٍ إنسانية مُفجعة، بل وحروبٍ مَهولة ، إذا رأينا كيف أنهم تسبّبوا بعنف مريع لمجتمعاتهم وأوطانهم ، على نحو لا يصدقه عقل .. .

لكن و كما أنّ الناس العاديين أو الدهماء أو العامة لا يستطيعون أن يقودوا أنفسهم بأنفسهم، لكونهم لا يملكون المَقدرة على التفكير المُجرد ، ووضع الخطط العامة و الاستراتيجيات السياسية والاجتماعية البعيدة في صناعة المستقبل للجماعة.

كذلك قد لا تستطيع الفئة الضئيلة ذات مستوى الذكاء العالي، من المثقفين النُخبة من المفكرين والفلاسفة التواصل و قيادة هؤلاء العامة ..

وذلك لافتقارهم الى أدوات التواصل ( كلغة الخطاب البسيطة ) مع تلك الفئات الدنيا من المجتمع ، ولانشغالهم شبه الكلي بعوالم التفكير المجرد ومعارج التأمل العميق ، والانهماك التام في إيجاد الحلول للإشكاليات الفكرية والعلمية والاجتماعية العامة .

من هنا اعتقد " لوبون " أنه من الواجب ظهور " القادة الواعين المُتنورين" من سياسيين أو روحيين ). الذين يكونون بمثابة صلة الوصل الضرورية ، بين المُفكرين المثقفين أو الفلاسفة وصناع الأفكار( النخبة) وبين باقي جماهير الشعب من العاديين أو العامة من الناس ..

الذين يفتقرون - كما ذكرنا سابقاً - الى القدرة على التفكير الواضح والمنطقي ، ويعانون من ضبابية الادراك وبساطة الأهداف .

لذلك تبرز أهمية دور أولئك القادة الواعين المُتعلمين ، (وليس النخبة ) في تبسيط و توضيح أفكاراً معينة لهم ، وجعلها هدفهم التدريجي، الذي يجب أن يسعوا وراءه، دون أي تدمير أو عنف كبير ضد منجزات الوطن المتراكمة عبر الأجيال، أو دون سلب للممتلكات المادية والفكرية أو تشويهها ، والتعدي على مكانة باقي فئات المجتمع .

و يرى " لوبون" أن القائد الوسيط (الروحي أو السياسي ) يجب عليه أن يتمتع بكاريزما شخصية ، و حضور خاص في أذهان العامة من الجمهور ، كما ان عليه أن يبدو وكأنه واحد منهم ، يشعر بهم ، ويعرف تماماً مشاغلهم وهواجسهم ..

وأن يتمتع كذلك بمواهب خاصة كـ الخطابة ، و التي يحبها العامة أو الدهماء ويعتبرونها مزية هامة ، و من الضروريات العقلية ، بل ومن اهم أسس امتلاك الحقيقة .

و هذا القائد الوسيط سينجح معهم و بإمساك مقادهم ، فقط ، حين يتعلم اللغة المُناسبة التي تخاطب الأكثرية من الجماهير ، وانْ يدرك أماكن الحساسية لديهم ، و مكامن العواطف في مداركهم . ولكن عليه أن ينتبه إلى ان ليست كل الجماهير أو الحشود ذات طبيعة واحدة ، بل هي تتفاوت - كما الافراد - في الفهم والطباع والاتجاهات والميول والعقائد و .. الخ .

" و من المؤسف حقاً، أن نرى كثيرا من الناس قد ماتوا ، من أجل جملة تعابير أو شعارات أو أقوال لم يفهموها " .

و لعل كلمات كـ " الحرية " أو "الديمقراطية" ، أو عبارة "إسقاط النظام" خير مثال على ذلك..

وهنا يجب ألا ننسى، أن للإعلام دوراً حاسما جداً ، في تثبيت صورة تلك القيادة المُتعلمة والوسيطة في أذهان العامة " حيث يجب أن ينظر العامة ودهماء الشعب الى تلك القيادة ، على انها قوة منيعة، ذات رهبة ، قادرة مُقتدرة ، خارقة للطبيعة.

وبالطبع ، فإن فضاء الاعلام الواسع في وضعه الحالي بالذات، وتغول وسائل التواصل الاجتماعي وسيطرة وسائله التكنولوجية المتعددة ، على كافة مناحي الحياة الانسانية الاجتماعية، يستطيع - بكل تأكيد - أنْ يحوّل القيادي من شخص طبيعي الى شخصية عظيمة ورائعة ، كما يقدم الشيخ أو رجل الدين الجاهل الفاشل دراسياً إلى عبقري فذ، وذو موهبة معصومة لا تطال ولا تضارع.

ولا ننسى أيضاً انه يجب على الإعلام تقديم تلك الشخصيات القيادية (الوسيطة ) دائماً، بشيء من الغموض المثير ، حول قدراتها ومحاسنها وأفعالها وعباراتها و ..و الخ

و بالتأكيد فإن هذا الغموض في أذهان العامة، سيزيد من رهبة القيادي الوسيط ، لأن الخوف من المجهول ، يطغى على التفكير لدى العامة بطبيعة الحال، ولهذا فإن تأليه القيادي أو رفعه إلى مصاف الأولياء والصالحين هو ضرورة لا غنى عنها، لأنه – أي التأليه - يجعل الناس يرهبونه ، ويُصيّرهم أرواحاً مسكونة بالخوف العارم، حتى من مُجرد ذكر اسمه ، أو التفكير في محاولة مناقشة مكانته ، أو مراجعة حقيقة أفكاره أو قدراته.

وبالتالي يصير التشكيك فيما يقول أو يفعل ، أمراً بالغ الصعوبة لدى العامة ، أو لنقل يصبح أمراً غير قابل للتفكير أو التصوّر لدى الجُمهور بشكل عام .

للحديث بقية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإمارات وروسيا.. تجارة في غفلة من الغرب؟ | المسائية


.. جندي إسرائيلي سابق: نتعمد قتل الأطفال وجيشنا يستهتر بحياة ال




.. قراءة عسكرية.. كتائب القسام توثق إطلاق صواريخ من جنوب لبنان


.. عضو الكونغرس الأمريكي جمال باومان يدين اعتداءات الشرطة على ا




.. أزمة دبلوماسية متصاعدة بين برلين وموسكو بسبب مجموعة هاكرز رو