الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أيّ معنى -للإرهاب- باعتباره قصّة؟ المسكيني متحرّكا ضمن عدم دلاليّ

رضا كارم
باحث

2020 / 10 / 31
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


سأل مراسل "ذوات" الباحث عيسى جابلي الأستاذ فتحي المسكيني في لقاء نشرته مؤمنون بلا حدود، فقال:
"عيسى جابلي: هل يمكن ربط ظاهرة الإرهاب التي تستمدّ مقولاتها ظاهريّاً من الدين، بالكراهية؟ هل هي ناتجة عن "حالة امتلاء" بالكراهية؟
د. فتحي المسكيني: لو كان يمكن عزل ظاهرة "الإرهاب" في أصولها النفسيّة لكان يمكن حقّاً أن نؤسّس مفهوم الإرهاب على الكراهية. لكنّ الأمر أكثر تعقيداً. طبعاً، ليس الإرهاب درساً في المحبّة، وإن كان يزعم ذلك في مستوى من خطابات المنتسبين إليه. إذْ لا يمكن إقناع هذا العدد الهائل من الناس بالموت من أجل ما يعتقدونه دون منحهم جرعة كافية من المحبّة. وكما ينبغي الفصل بين الدين واللاّهوت السياسيّ، كذلك ينبغي الفصل بين الإرهاب والكراهية. أجل، إنّ ثقافة الكراهية هي أفضل غذاء أخلاقيّ للتكفيريّين. إنّ ثقافة الكراهية عمل تكفيري أو لا تكون. من يكفّر فنّاناً أو كاتباً مثلاً هو يشرّع لقتله بواسطة جهاز الكراهية الذي يوجد في جراب الإرهابيّين. وذلك يعني أنّه يخلق أفقَ انتظار سرديّاً ناجعاً تماماً من أجل دفع أحدهم إلى الإقدام على الولوج إلى فضاء التجربة. لا يقتل الناس دوماً إلاّ داخل قصّة ما. من يخلق القصّة يجعل كلّ الأدوار ممكنة. ومع ذلك قد توجد حالة امتلاء بالكراهية لكنّها لا تنتج إرهاباً أو تكفيراً. وذلك أنّها كراهية من جنس آخر، ونعني تحديداً أنّها لا علاقة لها بالدين التوحيدي. الكراهية لا مضمون لها، في حين أنّ الإرهاب هو عمل موقَّع دوماً".

https://www.mominoun.com/articles
يجيب الأستاذ المسكيني باعتماد القياس والمماثلة والاستتباع الطّرديّ، فيفصل بين الإرهاب والكراهيّة، ثمّ يستدرك ليفصل بين المحبّة والإرهاب، ثمّ يعود إلى عرض خطاب الدّاعين إلى الإرهاب ويمنحه منطقا داخليّا عندما يشرحه، فهو خطاب للإقناع بالموت تحتاج فيه الخبرة الإرهابيّة إلى قدر من المحبّة. أي أنّ المحبّة صناعة حجاجيّة أي إقناع عاطفيّ واستمالة شعوريّة تتدبّرها الذّات السّيّدة لحمل الذّات التّابعة على القتل في سبيل قضيّة مّا. وبذلك فإنّ الإرهاب يقوم على محبّة ما تختزنها الذّات المقبلة على الجريمة الإرهابيّة باعتبارها، في نهاية التّحليل، ضربا من الطّاعة ونمطا من الاعتراف وردّ الجميل تجاه المدبّر المحبّ سواء كان شخصا ماثلا أوّل النّصوص باعتبارها حركة تنتقل من النّصّ إلى الذّهن وتستقرّ في النّفس محبّة ما، أو إلها آمرا يطبّق الإرهابيّ أوامره تعلّقا بالجنّة بما هي جائزة المؤمن البارّ.
ونستنتج من عرض المسكيني أنّ الإرهاب يتضمّن صيغة من صيغ المحبّة الضّروريّة ليقتنع الإرهابيّ بالموت. ومعنى أنّه يحتاج المحبّة ليموت، يستدعي أنّه يحتاج المحبّة ليقتل أوّلا، فالقتل خاتمة لبداية تتشكّل
من الحياة. ولمّا كانت الحياة محبّة فهل يمكن أن تكون الإماتة كراهيّة؟
يبدو أن المسكيني يستبعد ذلك بل يذهب إلى تمييز الكراهيّة من الإماتة (الإرهاب) ليس باعتبارهما جوهرين مختلفين مثلما قد يتبادر إلى ذهن أرسطي تصنيفيّ بل لسبب آخر يتعلّق بأنّ الإرهاب او القتل " لا يحدث إلّا داخل قصّة" ولا يمكن "عزل الإرهاب في أصوله النّفسيّة". فهل يقتل القاتل كارها أم لا يفعل؟ لنتجاوز مشروع المحبّة الّذي أسّس عليه شجاعة القتل، أ لم يكن القاتل محتاجا إلى خزّان كراهيّة ليقتل؟ أ ليس حريّا بمن يقتل محبّا أن يقتل كارها؟ ولنذهب أبعد من هذا مع الفيلسوف المسكيني. فإذا كانت في الإرهاب نبذ من محبّة، أ فلا يجعله ذلك ذا أصول نفسيّة؟ أ ليس في قوله هذا دعوة إلى تمرين بسيكولوجي لفهم أنظمة الشّعور الّتي تحضر لتدبير سلوكات تتناقض من حيث المبدأُ مع بنياتها المعلنة؟
إذن فالإرهاب سواء كان منبنيا على كراهيّة ينفيها المسكيني أو محبّة يعترف بها عرضا، له أصوله النّفسيّة دون شكّ.
ولكن ليست هذه أطروحة يهتمّ لها المسكيني نفيا ودحضا وتجاوزا، إنّها محض مقدّمة لعرض أطروحته الفعليّة. فالكراهيّة ثقافة وغذاء أخلاقيّ و"جهاز يوجد في جراب الإرهابيين". وتتأثّر الكراهيّة مجدّدا بخطاب التّكفير فتحرّك الذّات الإرهابيّة ليتحرّك السّكّين في يدها وتتكلّم الجريمة في حركتها وتنطق المحبّة في صيغة الله أكبر مناجاة للإله واعترافا بتفوّق عظمته. فالكراهيّة ليست محض حسّ هائم بين أكوان أحاسيس متفرّقة، بل هو شعور منظّم؛ جهاز قائم يحتاج آلة تحريكه وحجّة استدعائه واستعراض خبراته. ويحضر في هذا المستوى دور المكفّر المستقلّ عن الإرهابيّ وفق مقالة المسكيني، ولا يشرح الفيلسوف ما إذا كان المكفّر محبّا بدوره أو كارها وخاصّة أنّه يقنع القاتل معتمدا المحبّة سبيلا إلى إرشاده.
يهمّ المسكيني أن يخرج الإرهاب من النّقاش السّطحيّ، مثلما قد يتصوّره القائل إنّ الكراهيّة مولد الإرهاب وغذاؤه الرّئيس، وأنّ الفضاء الوجوديّ للإرهابيّ يستقرّ بالكراهيّة أداة وفيها نظاما وإليها نهاية . بما يعني أنّ الإرهابيّ حالة كراهيّة منغلقة على ذاتها ضمن حلقة من الأدائيّة والتّبرير وإعادة إنتاج الفعل الإرهابيّ عن طريق صيغة الكراهيّة. يدعونا المسكيني إلى الكفّ عن هذا الرّأي – لعلّه يدعو الآخر الغربيّ أساسا- ويستدرجنا إلى لعبة تأويليّة يراقصنا ضمنها معتمدا الزّخرفة المتأنّقة فارّا من المواجهة السّوسيولوجيّة نحو الأفق التّخييليّ المنفلت من رقابة الاختبار العلميّ.
يقتل الإرهابيّ عندما تندفع فيه آلة الكراهيّة متأثّرة بخطاب تكفيريّ نطق به غيره فاستحضر الكراهيّة فيه و"خلق أفق انتظار" في ذاته لينفتح الفعل فيه على تجربة القتل. يسمّي المسكيني هذا الحبك الدّراميّ قصّة. والقاتل يقتل باعتباره شخصيّة محكومة بمنطق الرّاوي ومسكونة بأفق انتظار متحكّم فيه من المؤلّف الحيّ في التّوجيه والحيّ في الإدارة والحيّ رغم تودوروف. هي قصّة على شاكلة أعمال دوستويفسكي عندما يحاورك الكاتب داخلها ويستدرك بصحبتك حدثا قد يعتقده غير مبرّر، فيفسّره ويضجرك ويجعلك محض تابع بلا قرار. هكذا يكون إرهابيّ فتحي المسكيني في القصّة الدّوستويفسكيّة النّاشئة، شخصيّة ورقيّة متخيّلة محكومة برغبات المؤلّف ومسكونة بهواجسه ومحض دمية يحرّكها. فهل من معنى لاتّهامها والحال أنّها بلا إرادة فعل ولا حرّية عمل أو اختيار؟ هل مازال من معنى لتحميل الإرهابيّ مسؤوليّة إرهابه؟ كيف ندين دمية تؤدّي أدوارها ضمن عمل فنّيّ محبوك خارج منطقها ومنطقتها؟
يختم المسكيني بالحكم إنّ الكراهيّة جهاز لا ينتج الإرهاب. وينبغي الفصل بينهما مثلما تمّ الفصل بين الإرهاب واللّاهوت السّياسيّ. الكراهيّة لاهوت أخلاقيّ والدّين غير ذلك. ضمن مشروع العلمانيّة لا يكون الدّين بنية تتضمّن السّياسيّ نسقا أو عنصرا، ولكن خارج العلمانيّة هل يمكن أن نتحدّث عن سياسة ضمن حدود الدّين أي ضمن فضائه؟ أين يقع المسكيني تحديدا حتّى نواصل لعبة المشي على حبال غير مستقرّة كالّتي يلعبها غير آبه بنتائج خطابه؟
إذا كانت الكراهية جهازا من خارج الدّين فينبغي على المحبّة أيضا أن لا تكون منه. وإلّا سنتكلّم مثل مؤمن يمضي يومه بين الصّلاة والانتظار وتمنّي موت الآخر والسّلام ختاما. والواقع أنّ الدّين ليس شيئا مختلفا عن النّصوص والسّلوكات والطّقوس والمتخيّل الجماعيّ والتّجربة الجماعيّة والفرديّة لجمهور المتديّنين. وبذلك فإنّ فصل الدّين عن المؤمن حركة منهجيّة يتطلّبها البحث النّظريّ المتبحّر أكاديميّا في عمليّات تقعيد الحسّيّ وتجريده، وكذلك فصل الكراهيّة عن الكاره وجعلها كونا مستقلّا عنه هو قول لا تمثيل له في التّاريخ العينيّ وهو محض تجربة جماليّة فنّية تخترق اللّعبة السّوسيولوجيّة والبسيكولوجيّة والأنتروبولوجيّة والتّاريخيّة.
وهكذا فإنّ رياضة الجمباز تبدو مثيرة للعجب ومستفزّة للذّوق ومحرّكة للخيال لما تختصّ به من إبداعيّة تعجز الذّات المتابعة على محاكاتها إلّا ضمن نسق من التّخيّل أو ضمن قصّة مثلما يقول المسكيني. والفرق بيّن لا محالة بين شقلبة الرّياضيّ وشقلبات المسكيني المبحرة خارج أرضيّة منطقيّة يمكن الإمساك بها. ولذلك يركب البعيد من المعنى ويحمّس القارئ إلى خوض معركة التّأويل ضمن أفق يتحكّم به ويسيّره تماما كدوستويفسكي وجمهور قرّائه.
وحدها الكراهيّة تصنع القصص وتبني الرّوايات وتضمن للشّخصيّات وجودها حتّى تتحوّل إلى شخصيّات قاتلة أو جنود ضمن إسلام معسكر لا مجرّد إرهابيّين وفق تنميط أسمائيّ كولنياليّ لا يمكن تبنّيه بيسر مماثل. لقد أخفقت التّجارب الإسلاميّة أو الإسلامات المتعدّدة السّائدة في خلق نماذج المحبّة، ليس لمشكل خاصّ بها فحسب، بل لأنّها تجارب تابعة لا يحضر الإسلام فيها إلّا قليلا وهي قبله وبعده تجارب موصولة إلى يوميّ تتعدّد خلاله الهويّات وموادّها التّأسيسيّة المختلفة دينا وغير دين. وليست قصّة القاتل وقصّة القتل محض نسج قاصّ محترف دائما. ذلك أنّ القاتل قد يكتب قصّته منفردا غير محتاج إلى كاتب يتابّطه جريدة ويشرب معانيه قهوة صباحيّة وتحيّة اعتراف ثمّ جريمة قتل. هي أيضا تحتمل أن تكون رواية فرديّة من نسج تأويليّ متفرّد يشبه ذئبا منفردا بذاته محتارا بين نصوص معقّدة المعنى وحضور تاريخيّ مفرغ من كلّ معنى. هي رواية تحتمل أن تؤدّى على مسرح الفراغ الدّلاليّ والخواء من كلّ وجود خارج الوجود البيولوجيّ المجرّد من كلّ معنى نظيرا لمنبوذ أغامبن وقروسطيّ فوكو الفارّ من مأزق الطّاعون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البنتاغون: أنجزنا 50% من الرصيف البحري قبالة ساحل غزة


.. ما تفاصيل خطة بريطانيا لترحيل طالبي لجوء إلى رواندا؟




.. المقاومة الفلسطينية تصعد من استهدافها لمحور نتساريم الفاصل ب


.. بلينكن: إسرائيل قدمت تنازلات للتوصل لاتفاق وعلى حماس قبول ال




.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تهدم منزلا في الخليل