الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إكسير المناعة المعرفية

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2020 / 11 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مقدمة كتاب
أسرار الدماغ البشري
بنيات وآليات عمل دماغ الإنسان العاقل
إعداد وتقديم: د. مصعب قاسم عزاوي
تعريب: فريق دار الأكاديمية
الطبعة الثانية 2020
صادر عن دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن

يمثل دماغ الإنسان الوحدة البيولوجية الأساسية لصياغة كينونة الإنسان كحيوان اجتماعي عاقل، وتوطيد إحساس حامل تلك المنظومة البيولوجية بتلك الكينونة. وتلك المسلمة لم تثبت وجودها فعلياً وتؤصل القبول بها إلا مؤخراً، وخلال بضعة العقود الأخيرة بشكل حاسم. وإلى اللحظة الراهنة لا يزال هنا بعض المجادلون من مواقع تنظيرية بأحسن الأحوال إن لم تكن اعتباطية تجادل بطريقة المعاندة المعرفية للحقائق والكشوفات العلمية لاعتبار وعي الإنسان بذاته مرتبطاً بعلاقته بقوى غيبية افتراضية معظمها أساساً من تخليق الإنسان نفسه خلال صيرورة تطوره البيولوجي التي امتدت على سبعة ملايين من السنين أنتج خلالها كثيراً من الأفكار والطروحات والافتراضات الفلسفية في محاولة لفهم ذاته بعلاقته بالواقع المحيط به، فكان القلب حيناً مصدر الشجاعة والغضب والعواطف، وكان الجَنَان أحياناً منبع الصبر والمصابرة، والقياس على ذلك كثير؛ على الرغم من أن جميعها ناتج فعلي ومباشر لتفاعل وعمل الخلايا العصبية في الجهاز العصبي المركزي، والجهازين العصبيين الودي ونظير الودي، وبشكل خاص الدماغ البشري، وهو الناتج الذي يمكن أن يضاف إليه كل أنماط وأشكال تلاوين السلوكات البشرية، وحتى أمراضها، وأعطابها النفسية، و حتى الكثير من اضطراباتها الجسدية.
وإن محاولة تلمس واستكشاف الآليات الداخلية الناظمة لكيفية عمل الدماغ البشري تمثل الخطوة الأولى التي لا بد منها لأجل تمكين الإنسان من فهم أعمق لذاته، وأسباب وتحركات تفاعلاته النفسية والسلوكية بعجرها وبجرها، وانزياحاتها الاستثنائية بين حدي السواء والمرض.
وقد يكون اطلاع الإنسان على الآليات التطورية التي حكمت صيرورة و آلية التكوين التشريحي و الوظيفي الدماغ للبشري خلال رحلة جنس بني البشر التطورية التي امتدت على سبعة ملايين من السنين أفرزت الكثير من الدارات العصبية البنيوية المبتناة عضوياً في أدمغة البشر عبر آليات الاصطفاء الطبيعي، وهي الدارات التي تمثل الأرضية التي تنتج الكثير من السلوكات البشرية التي يمثل البعد الفطري الغريزي التطوري جزءاً كبيراً من العناصر المكونة لها، وخاصة فيما يتعلق بتلك الوظائف والسلوكات الأساسية التي كان يناط بها حفظ نوع بني البشر من الانقراض، كالغضب، والتعاضد، والتراحم، والتعاون، والارتباط العاطفي، والعنف، والنهم الغريزي، والسلوكات التكاثرية الإنجابية، والميل العفوي للإدمان وغيرها الكثير من قائمة تطول لتلك السلوكات التي يحكم تشكلها الكثير من الدارات العصبية المبتناة عضوياً في أدمغة البشر وتم تصفيتها وتنقيتها عبر آليات الاصطفاء الطبيعي عبر ملايين السنين.
وذلك النسق الأخير في تفهم آليات عمل الدماغ المحكوم بشروط تطوره الطبيعي لا بد أن يقود إلى الاستنتاج الطبيعي بأن أدمغة بني البشر الذين قضوا معظم رحلتهم التطورية على امتداد سبعة ملايين من السنين في مرحلة الجمع والصيد لم تتطور فعلياً لتتلاءم مع شروط الحياة المدنية المعاصرة التي لا يمثل عمرها سوى لمحة عين خاطفة في الرحلة الطويلة لبني البشر؛ مع الإشارة الضرورية إلى أن تشريح أدمغة بني البشر الراهنين لا يختلف من الناحية التطورية عن أسلافهم من فصيلة الإنسان العاقل Homo Sapiens الذي ينتسب له كل بنو البشر الحاليين، وهي الفصيلة التي بدأت بالحلول محل الأجناس الأخرى السليفة من البشر منذ حوالي مئتي ألف عام و نيف بالحد الأدنى. وهو ما يشي بأن الكثير من أسباب العلل والأمراض وصعوبات التكيف النفسية والعقلية التي يعاني منها بنو البشر على شكل جائحة سرطانية يكمن أُسُّها في عدم تطور أدمغة بني البشر للتكيف مع متطلبات الحياة العصرية. وقد يكون فهم آليات عمل الدماغ الفيزيولوجية، والنهج العضوي التطوري في عمله المقدمة الضرورية، والتي لا غنى عنها في فهم أسباب تلك الأعطاب التكيفية التي يكابدها جل بني البشر، تمهيداً للسعي لإيجاد حلول لها بالاستناد إلى قدرات القشرة الدماغية العليا في أدمغة بني البشر من فصيلة الإنسان العاقل، والتي تدعى في الكثير من الأحيان «الدماغ الجديد» التي يتفوق بها الإنسان على كل أقرانه في مملكة الحيوانات، جراء قدرتها الفائقة على التحليل والاستنباط والاستخلاص وتشكيل الرؤى والتخيل والاستبصار واتخاذ القرارات الإرادية العاقلة، والتي لا يمكن أن تكون واثقة من قدرتها الفعلية على التأثير إلا من خلال استدماجها في سياق فهم الإنسان لآليات عمل دماغه وكيفية تخليقه لأفكاره ووعيه الذاتي و الموضوعي، وخاصة بالاستناد إلى فهم عميق بأن دماغ البشر جهاز معقد تطورياً يحتوي في داخله تطبقات من البنى التي تطورت عبر مئات ملايين السنين أكثرها بدائية هي البنيات التشريحية الموجودة في جذع الدماغ المسؤولة عن الوظائف الأساسية للبقاء على قيد الحياة عبر نظم التنفس، والدورة الدموية، وضربات القلب، وحرارة البدن، والصحو، والنوم، وغيرها من الوظائف الفيزيولوجية الأساسية بشكل يكاد يتطابق بنيوياً ووظيفياً مع ما تقوم به أدمغة الحيوانات الأخرى من فصيلة الفقاريات من ذوات الدم الحار. والرتبة الأعلى منها تطورياً تقع في منطقة الدماغ المتوسط، الذي يشترك فيه البشر مع كل أسلافهم من الفقاريات ذوات الدم الحار عموماً وبشكل أكثر تشابهاً مع أقرانهم من الثدييات، وهو الجزء المسؤول عن نظم العواطف والميولات والرغبات بشكل لا يختلف كثيراً من الناحية الكيفية عن ذلك في أسلاف بني البشر البائدين، وأبناء عمومتهم الأقرب لهم من الناحية المورثية والذين يتشاركون معهم بنسبة تطابق وراثي قد يصل إلى 99%؛ وأعني هنا الأوليات وخاصة قردة الشمبانزي والبانوبو وغوريلا الجبال. و ذلك التوصيف العلمي الأخير قد يفسر نكوص بعض البشر في الكثير من الأحايين إلى أنماط من السلوكات الحيوانية البدائية خاصة إن تعلق ذلك بالخوف أو الغضب أو الغيرة بتلاوينها التنافسية والعاطفية، والميول الثأرية والانتقامية، إن لم يتمكنوا من الاتكاء على قدرات الجزء الثالث في أدمغة بني البشر والذي يدعى الدماغ الجديد والذي يمثل مدخل بني البشر لقدرات العقلنة والتفكير الرشيد والتفكر والتأمل بالعواقب والمآلات، والتخطيط والإبداع الفكري والفني التركيبي وهي القدرات التي يمكن أن تعطي أكلها الفضلى إن تحلى المتكئ عليها بقدرة على تفهم آليات عملها وكيفية استثمارها بالشكل الأمثل، بالتوازي مع استبطان متعقل لطبيعة علاقتها بأجزاء الدماغ الأدنى الأخرى التي يمثل الحفاظ على درجة مرهفة من التوازن فيما بينها مفتاح الصحة والعافية الدماغية والعقلية، والإجحاف بحقها عسفاً، أو قمعاً، أو إهمالاً، أو كبتاً يمثل البوابة التي يلج منها الدماغ والعقل إلى جلجلة المعاناة والكمد والأسى الذي غالباً ما يتظاهر بأمراض وأعراض القلق والاكتئاب التي أصبحت أكثر الأمراض شيوعاً في عالمنا المعاصر.
وإن فهماً علمياً لآليات عمل وفيزيولوجيا الدماغ البشري يمثل المفتاح الأساسي لتعزيز قدرات تواصل الفرد مع أقرانه بالاستناد إلى تعزيز قدرته على فهم أسباب الصعوبات السلوكية والنفسية والوجدانية والإدراكية والعقلية بمختلف تجلياتها في الآخرين الذين يتعامل معهم، وبحيث يمثل ذلك الفهم المدخل لابتناء آليات تواصل فريدة مع كل شخص بعينه بناء على تفهم أعمق للنموذج العقلي الذي يتبناه، وهو ما ينتج في المآل الأخير مستوى أكثر نجاحاً في تواصل الفرد مع محيطه الاجتماعي جراء تواصله الناجح مع أقرانه وأحبابه وخلانه.
و قد يستقيم اعتبار أن العنصر الأكثر جوهرية في محورية فهم آليات عمل الدماغ البشري وما ينتجه من آليات عقلية وإدراكية ووجدانية يكمن في أنها المدخل الأول الذي لا بد منه لتشكيل المناعة المعرفية التي لا بد منها لمواجهة طوفان الوسائل والأدوات الوحشية التي أنتجها البشر أنفسهم، والتي تحاول استغلال نقاط ضعف بني البشر لتحقيق أرباح مادية قذرة على حساب حيوات وصحة بني البشر، كما هو الحال في استغلال الميل الفطري لبني البشر للإفراط في تناول الطعام، و السعي الدائب بكل ما يمكن أن يسهم بتعزيز إفراز النواقل العصبية المختصة بالمكافأة والثواب والسعادة والحبور من قبيل الدوبامين، والأفيونات والقنبيات الداخلية الإفراز في الدماغ، والتي تحفز بني البشر على السعي لكل ما قد يسهم في استمرار حيواتهم ونقل مورثاتهم إلى الأجيال اللاحقة من بعدهم لحفظ نوعهم من الانقراض سواء كان ذلك عبر التعاون والتعاضد مع الآخرين، أو مساعدة المستضعفين منهم، أو السعي الدائب للتواصل الحميمي مع المقربين في الأسرة الصغيرة والكبيرة، وجميعها سلوكات تعزز من إفراز تلك النواقل العصبية في الدماغ بشكل ذاتي، وهي الحقيقة التي تم استغلالها بخبث منقطع النظير في نمط المدنية المعاصرة الذي نعايشه في حيواتنا اليومية عبر التفتق بتصنيع مواد كيميائية صنعية تؤدي إلى زيادة تركيز تلك النواقل العصبية في الدماغ بشكل مصطنع عبر استهلاكها من الخارج بشكل مخدرات إدمانية، وهو ما يؤدي إلى فقدان تأثير تلك المفرزة منها داخلياً لتضاؤل كميتها مقارنة مع الطوفان الوارد بشكل مصطنع من الخارج ، وهو ما يعني أيضاً انسحاب الإنسان من كل السلوكات الفطرية التي كانت تقود إلى إفراز تلك النواقل العصبية في الدماغ ذاتياً، وهي السلوكات التي حمت جنس بني البشر من الانقراض عبر رحلتهم التطورية الطويلة والعسيرة، وميزتهم كحيوانات اجتماعية بامتياز، ويعني من ناحية أخرى وقوع الإنسان فريسة سهلة للإدمان على ما يعمل أيضاً بشكل لا يختلف كثيراً عن ما تفعله المخدرات الصنعية بأدمغة بني البشر من قبيل الإدمان على متابعة وسائل التواصل الاجتماعي الخبيثة اللئيمة و أوهامها الخلبية بتعزيز قيمة الشخص المعنوية في نظر أقرانه عبر عدد الإعجابات التي يُوَلِّد جُلَّها محركات الذكاء الاصطناعي لاستدامة تعلق المستخدم بها، أو حتى على لعب القمار بتلاوينه التقانية المستحدثة، أو مشاهدة المشاهد الخلاعية، وجميعها صناعات بشرية تستغل بقذارة منقطعة النظير نقاط ضعف الدماغ البشري و ميلها الفطري للسعي لكل ما قد يسهم في إفراز النواقل العصبية الدماغية التي أشرنا إليها آنفاً، والتي ليس هناك من مدخل لمقاومة مفاعيلها أكثر كفاءة من التمنيع بلقاح معرفي يفتح الباب لتفهم خبايا و أسرار و آليات عمل الدماغ البشري لتخليق مناعة استبصارية ثاقبة تمكن الإنسان من مواجهة نقاط ضعفه المشار إليها آنفاً بحذاقة و عقلانية في آن معاً، لمحاولة التغلب عليها بالاتكاء على نقاط القوة الكثيرة في الدماغ البشري، وخاصة جزء الدماغ الجديد منه السالف الذكر، وعبر التعرف على مداخل التفاعل الأكثر كفاءة مع ذلك الجهاز البيولوجي الفائق الذي يتفق كل علماء المعمورة في اعتباره أعقد البنى سواء كانت بيولوجية أو صنعية على وجه البسيطة.
كتاب أسرار الدماغ البشري يمثل خلاصة مكثفة للمبادئ الأساسية التي تنظم عمل الدماغ البشري. وهي خلاصة تم إعدادها وتجميعها باللغة الإنجليزية من مصادر علمية موثوقة ومعتد بها، وتم تقديمها هدية متواضعة لإدارة دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع التي تفضلت مشكورة بتحمل أعباء ترجمتها إلى اللغة العربية، وتقديمها بشكل ميسر للقارئ العربي الكريم، على أمل أن يمثل كتاب أسرار الدماغ البشري إضافة مفيدة للمكتبة العربية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات الرئاسية الأمريكية: نهاية سباق ضيق


.. احتجاجًا على -التطبيق التعسفي لقواعد اللباس-.. طالبة تتجرد م




.. هذا ما ستفعله إيران قبل تنصيب الرئيس الأميركي القادم | #التا


.. متظاهرون بباريس يحتجون على الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان




.. أبرز ما جاء في الصحف الدولية بشأن التصعيد الإسرائيلي في الشر