الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم التربية عند إميل دوركايم

محسن وحي

2020 / 11 / 7
التربية والتعليم والبحث العلمي


يعتبر إميل دوركايم أحد كبار علماء الاجتماع الفرنسيين الذين وضعوا القواعد الأولى لسوسيولوجيا التربية، بل يرجع له الفضل في تأسيس هذا العلم الذي يدرس التربية كواقعة اجتماعية. ومن أبرز الأعمال التي كتبها في هذا المجال نذكر: "التربية الأخلاقية "Education morale" ، و"التطور البيداغوجي في فرنسا L’évolution pédagogie en fronce" " ، و"التربية والمجتمع Education et sociologie"
غاية دوركايم من هذه المؤلفات هو تأسيس قواعد للأخلاق تكون موجهة نحو تربية أفراد المجتمع، وبشكل أدق نحو تربية الناشئة. هذه التربية، في نظر دوركايم، هي أحد الأسس التي تقوم عليها الدولة الحديثة، بما هي تربية عقلانية ولائكية. لم تكن التربية في الماضي تستطيع أن تقوم بهذه الأدوار، لأنها كانت تربية دينية مسيحية مرتبطة بإبستمي العصر الوسيط. هدف دوركايم، إذن، هو إفراغ هذه التربية من المحتوى الديني وملئها بمبادئ العلوم وروح القيم الدينية، إنها بمثابة علمنة للتربية.
تعريف التربية:
من أجل تعريف التربية، قام إميل دوركايم بالرجوع إلى مجموعة من التعريفات الفلسفية السابقة بهدف بيان تهافتها، مثل تعريف الفيلسوف ستيوارت ميل وكانط وسبنسر. يعرف ستيورات ميل التربية على أنها كل ما نفعله نحن بأنفسنا، وكل ما يفعله الآخرون من أجلنا، وذلك بهدف الاقتراب من تحقيق كمالنا الخاص بطبيعتنا( إميل دوركايم، 1996 ص 55). يرى دوركايم أن هذا التعريف للتربية يحمل في داخله مجموعة من التناقضات ، ولا يمكن الجمع بينهما في إطار واحد. مرد ذلك هو أن التأثير الذي تمارسه الأشياء في الإنسان ليس هو نفس التأثير الذي يمارسه الناس في الناس( إميل دوركايم، 1996 ص 56)، إذ أنهما يختلفان في الوسائل والنتائج، ثم أن التأثير الذي يمارسه جيل معاصر على جيل معاصر له، ليس هو نفسه الذي يمارسه الجيل الراشد على الصغار.
يرى كانط أن التربية تسعى إلى تحقيق صورة الكمال الممكن عند الفرد الإنساني. إن هذا التعريف بدوره، حسب دوركايم، تشوبه مجموعة من النواقص، أولها أنها تعريف مثالي، لا يمكن تحقيقه على مستوى الواقع. إن هذه التعاريف، وغيرها، تنطلق من مسلمة أساسية تؤكد وجود تربية مثالية وكاملة تناسب جميع الناس بلا تمييز( إميل دوركايم، 1996 ص 58)، والحال أن استقراء التاريخ الإنساني يبين، بدون أدنى شك، أن التربية تختلف من زمان إلى آخر، ومن مكان إلى آخر. فمثلا التربية في أثينا كانت تهدف إلى إعداد عقول نيرة وفطنة ومتوازنة قادرة على تذوق الجمال والظرافة، وقادرة على التأمل الخالص. بينما التربية في روما القديمة كانت تهدف إلى تحويل الأطفال إلى رجال فعل وعمل، وتنمية الحماسة في نفوسهم، وتعزيز حب الانتصارات العسكرية، وذلك دون إعطاء أية أهمية للآداب والفنون ( إميل دوركايم، 1996 ص 59).
إن كل تلك التعاريف، من منظور دوركايم، تنطلق وتتأسس على مسلمة خادعة، فهي تعتقد أن التربية تتجاوز شرط الزمان والمكان، بيد أن كل تربية إلا وتعبر عن النظام الاجتماعي والثقافي لكل مجتمع إنساني، فهو الذي يحدد نمط التربية السائدة داخل المجتمع. هذا الأخير هو القوة القاهرة على الأفراد، وهو الذي يجعل منهم كائنات اجتماعية.
بعد نقد هذه التعاريف المختلفة، قام دوركايم بدراسة الأنظمة التربوية القائمة والمقارنة فيما بينها، وهدفه من ذلك هو تعريف التربية تعريفا واقعيا، ويرى أن تعريفها يشترط وجود ثلاث مكونات رئيسية لا يمكن الفصل بينهما وهي:
- أن يكون هناك جيل من الصغار؛
- أن يكون هناك جيل من الراشدين؛
- أن يكون هناك تأثير يمارسه جيل الراشدين على الجيل الصغير.
ما طبيعة هذا التأثير الذي يمارسه الراشدين على الصغار؟
تعمل التربية، حسب دوركايم، على التأثير في الجوانب التالية عند الأطفال:
- الحالات الفيزيائية والعقلية التي يراها المجتمع ضرورية بالنسبة لأي فرد من أفراده؛
- بعض الحالات الفيزيائية والعقلية الخاصة بالفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها الأطفال، والتي أيضا ضرورية بالنسبة للأفراد الذين ينتمون إلى الجماعة( إميل دوركايم،1996، ص66).
بناء على ذلك يعرف دوركايم التربية على أنها الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال التي لم ترشد بعد من أجل الحياة الاجتماعية ( إميل دوركايم،1996، ص68).
المدرسة والتربية الأخلاقية:
إن التربية، حسب دوركايم، هي ظاهرة اجتماعية مثل باقي الظواهر الاجتماعية الأخرى، وظيفتها الجوهرية هي تحويل الأفراد الجدد إلى كائنات اجتماعية. فهم لا يولدون ككائنات اجتماعية، ولا يحملون في ذواتهم أفكار أخلاقية أو دينية أو سياسية، وإنما يكتسبونها من المجتمع، بواسطة التنشئة الاجتماعية. في إطار هذا السياق يمكن أن نتساءل: ما هي المؤسسة التي يراها دوركايم قادرة على القيام بوظيفة التربية العقلانية واللائكية لهولاء الأفراد الجدد؟ هل هي الأسرة أم المدرسة؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نستحضر رؤية دوركايم لمرحلة الطفولة، على اعتبار أنها مرحلة مهمة وفاصلة في التربية الأخلاقية. يميز دوركايم بين مرحلتين في الطفولة وهما: مرحلة الأسرة أو الروض، ومرحلة المدرسة الابتدائية أو الطفولة الثانية. ما يميز هاتين المرحلتين هو ضعف وسائل الطفل الثقافية والعاطفية والعقلية، ويرى دوركايم أنه إذا لم يلقن الطفل الأخلاق، في مرحلة العمر المدرسي خصوصا، فلن تكون لديه أخلاق فيما بعد( الخمار العلمي، 2002، ص 31).
يؤكد دوركايم أن المدرسة هي المكان الأنسب للتربية الأخلاقية، والسبب في ذلك هو أن الأسرة لا تمتلك تكوينا عقلانيا وعلميا يمكنها من تربية الطفل بشكل جيد، فهي بحكم تكوينها البسيط لا تستطيع أن تكون أداة صالحة لإعداد الطفل للقيام بواجباته في الحياة الاجتماعية( إميل دوركايم، 2015، ص 19).
لكي تكون هناك تربية أخلاقية وعقلانية، يرى دوركايم أنه يجب القيام بعلمنة الأخلاق، بحيث نقوم بإفراغ الأخلاق من المحتوى الديني ونشحنها بالمبادئ العلمية والعقلية، حتى تكون أخلاق مسايرة للعصر. في هذا المضمار يقول دوركايم: يجب أن نذهب بعيدا ونقصد رأسا إلى لب المبادئ الدينية لكي نبحث بين ثناياها عن الحقائق الأخلاقية المخبأة فنخلصها لكي نعرف كنهها تماما ونحدد طبيعتها الذاتية، وبذلك يتسنى لنا أن نعبر عنها بلغة العقل. خلاصة القول يجب علينا الكشف عن الرموز العقلية لهذه الأفكار الدينية التي ظلت مدة طويلة تجر في ركابها أهم الأفكار الأخلاقية( إميل دوركايم، 2015، ص 11). نستنتج من خلال هذا الاقتباس راهنية المشروع الدوركايمي في مجال الأخلاق. يمكن القول، بدون أدنى مجازفة، أن هذه الأخلاق التي وضع دعائمها دوركايم هي المدخل الحقيقي نحو الحداثة، وذلك وفق رؤية سوسيولوجية تجعل من المدرسة المؤسسة التي بإمكانها القيام بالتربية الأخلاقية للأطفال. إنها المؤسسة التي تمكنهم مستقبلا من المشاركة في الحياة الاجتماعية بكل التزام ومسؤولية.
بناء على ما تقدم، ما هي القواعد الأخلاقية التي يجب أن تعلمها المدرسة للناشئة؟ أو بصيغة أخرى، ما هي العناصر الضرورية لتربية الناشئة تربية عقلانية تستجيب لروح العصر؟
من أجل تحديد القواعد الأخلاقية الضرورية لتربية الناشئة، قام دوركايم بدراسة الأخلاق الإنسانية باعتبارها ظاهرة مثل جميع الظواهر؛ أي أنها وقائع يمكن ملاحظتها من الخارج كما تحيى وتعمل في الواقع الإنساني( الخمار العلمي، 2002، ص32). بناء على ذلك وصل إلى تعريف الأخلاق على أنها مجموعة من القواعد العملية التي تحدد سلوكنا وتعين لنا كيف يجب أن نفعل في الحالات المختلفة التي تعرض لنا( إميل دوركايم، 2015، ص25). هذه الأخلاق تتكون من ثلاثة عناصر جوهرية، وهي أساس التربية عند دوركايم :
 الإنضباط:
يشكل الانضباط العنصر الأول من الأخلاق، حسب دوركايم، لأنه يحمل في ذاته العناصر الأساسية التي تكون الخاصية الأخلاقية للطفل، وهو يساهم بشكل فعال في تلقينه الكيفية التي تمكنه من تمدين رغباته(الخمار العلمي، 2002، ص 33). يذكرنا هذا العنصر بتعريف الفيلسوف إيمانويل كانط للانضباط، على اعتبار أنه ما يمكن الإنسان من أن يصبح إنسانا؛ أي الفعل الذي يجرد به الإنسان من حالته الحيوانية، وبدونه لا يمكن أن نتحدث عن الأخلاق.
يمكن القول أن الانضباط قبل أن يكون خضوعا للقوانين التي تحكم بنية المجتمع فهو انضباط ذاتي؛ أي أنه بمثابة بوصلة وموجه لرغبات الإنسان. إذا كان الفيلسوف الألماني شبنهاور ينظر إلى الإنسان على أنه كائن تحكمه رغبات عمياء ولانهائية، وفي كثير من الأحيان يفشل في السيطرة عليها، مما يؤدي به إلى الوقوع في الشقاء، فإن دوركايم يرى أن الإنسان قادر على ضبط رغباته والتحكم فيها، وذلك بناء على قاعدة الانضباط الذاتي، ثم أن الانضباط يعلم الناشئة الخضوع للقوانين التي تحكم المجتمع بشكل إرادي؛ أي بدون أن يكون هناك إحساس بأن هذه القوانين مفروضة قصرا من الخارج. يصبح، حينئذ، هذا الخضوع للقوانين فعلا أخلاقيا صادرا من إرادة حرة.
 الإرتباط بالمجموعة:
يشكل الارتباط بالمجموعة أحد العناصر الأخلاقية الضرورية لتربية الناشئة، فهو يمكن الأفراد داخل المجتمع من تجنب بعض الأفكار القاتلة كالانتحار. يوضح دوركايم في كتاب "الانتحار" أن انتحار العزاب يفوق ثلاث مرات انتحار المتزوجين، وبالعكس كلما ارتبط الفرد بالمجموعة شعر بميل إلى حب الناس وحب وطنه، وتتقوى عواطفه نحو المجموعة التي ينتمي إليها، كما تتقوى الروابط التي تربطه بالوجود وتقل الأفكار القاتلة مثل فكرة الانتحار(الخمار العلمي، 2002، ص 37).
إن دور المدرسة، وفق هذا التصور، يكمن في تربية الناشئة تربية أخلاقية تعمل على ربط هؤلاء الأفراد الجدد بالمجتمع، وذلك من خلال تربيتهم على مختلف القيم التي تمكنهم من الإحساس بالانتماء إلى الوطن. هذه التربية نجدها حاضرة في المدرسة المغربية، من خلال مختلف الأنشطة التربوية التي تقوم بها، وذلك بغية التربية على قيم الوطن والوطنية.
 حرية الإرادة:
يشكل مفهوم حرية الإرادة أحد المفاهيم المهمة التي تلتقي حوله السوسيولوجيا والفلسفة، فلاكهما يؤكدان أن الفعل الأخلاقي هو الذي يكون صادرا عن إرادة حرة تجاه أشياء خارجية. لكن بأي معنى يكون الخضوع للقوانين فعلا أخلاقيا نابع من إرادة حرة رغم أن هذه القوانين تظهر على أنها مفروضة من الخارج؟
للإجابة عن هذا السؤال لابد من استحضار موقف فلاسفة التعاقد الاجتماعي كجون لوك، وجون جاك روسو، وإسبينوزا، فكلهم يتفقون على أنه ليس هناك تعارض بين حرية الإرادة وقوانين المجتمع. إن الأفراد هم جزء لا يتجزأ من الإرادة العامة، التي يكون بموجبها كل فرد داخل المجتمع مشاركا في صياغة القوانين المنظمة له؛ وبالتالي عندما يمتثل لهذه القوانين آنذاك يكون فعله أخلاقيا، لأنه يحترم إرادته الخاصة. وهو نفس الموقف الذي يدافع عنه دوركايم، فهو يرى أنه ليس هناك تعارض بين واجب الامتثال للقوانين وحرية الإرادة. هذا من جهة، ومن جهة ثانية إن التربية على حرية الإرادة داخل المدرسة يمكن الناشئة من الاستقلالية، مما يجعلهم أفراد مسئولين عن اختياراتهم في الحياة.
نستخلص من كل ما تقدم أن المشروع الدوركايمي في مجال التربية الأخلاقية يكتسي طابعا راهنيا، لأنه يحتوي على رؤية حداثية للأخلاق، وتعتبر المدرسة وفق هذا المشروع المكان الأنسب لتربية الناشئة تربية عقلانية ومعاصرة، بما هي مجال للتربية على القيم الإنسانية الضرورية التي تمكن الأفراد من الانخراط في الحياة الاجتماعية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اجتهاد الألمان في العمل.. حقيقة أم صورة نمطية؟ | يوروماكس


.. كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير




.. ما معنى الانتقال الطاقي العادل وكيف تختلف فرص الدول العربية


.. إسرائيل .. استمرار سياسة الاغتيالات في لبنان




.. تفاؤل أميركي بـ-زخم جديد- في مفاوضات غزة.. و-حماس- تدرس رد ت