الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المرأة الخلاقة المبدعة وزمار الحي العربي الكسيح

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2020 / 11 / 8
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات


ظلت زها حديد سيدة المعماريين في بريطانيا بلا منازع على امتداد عقود طويلة حتى رحيلها المفاجئ الذي صعق محبيها والمعجبين بفنها الفياض منذ أربعة أعوام ونيف. وزها حديد، لمن لا يعرفها، مصممة مجموعة من أكثر الأبنية والصروح إبهاراً على المستوى الكوني، من خلال مكتبها الذي عمل فيه أكثر من 400 موظف في العاصمة البريطانية لندن، بعد أن لم تجد أرضاً لتشرئب فيها سوى أرض مستعمري وطنها الأم القدماء الجدد.

وهي زها حديد نموذج ناصع للمرأة الخلاقة المبدعة التي كان نجاحها الاستثنائي تضميداً للجرح المعنوي العميق والغائر المتقرح في وجدان كل هاتيك المبدعات وأولئك الخلاقين من أبناء العالم العربي الذين لم تتح لهم الفرصة لإثبات إمكانياتهم الاستثنائية، لظروف موضوعية في معظمها ارتبطت عضوياً ببنيات المجتمعات العربية المعاصرة، أو شبكات العلاقات الاجتماعية والإنتاجية المتصلة والناتجة عنها.

وقد لا يحتاج المراقب المدقق إلى كثير عناءٍ، سواء بالنظر إلى تقرير منظمة التعاون و التطور الاقتصادي الدوري حول هجرة العقول من دول العالم الثالث إلى دول ذلك الأول، أو بالنظر عملياً، إلى حفنة عشوائية من الأبحاث العلمية المنشورة على أي من أرشيفات البحث العلمي العالمية، ليرى كيف تنتشر الأسماء غير اللاتينية، والكثير منها عربي، في نتاج المراكز البحثية والجامعات الغربية؛ أو بالنظر إلى الحقيقة الموضوعية التي عايشها ويعايشها كل المغتربين من أبناء العالم العربي، و المتعلقة بأن من يسير النظام الصحي من أطباء بريطانيا و غيرها من دول غرب أوربا هم المهاجرون الملونون و أبناؤهم، و الكثير منهم من أبناء العراق الجريح. وفي فرنسا كمثال آخر فاق عدد الأطباء السوريين في فرنسا، ومنذ عقود طويلة، عدد كل الأطباء السوريين العاملين في سورية، حتى قبل ثورتها المظلومة؛ وقد يسري نفس التوصيف على الأطباء العراقيين في بريطانيا إن توفرت إحصائيات موثقة في ذلك الصدد.

عندما خرجت ألمانيا واليابان مهشمتين عقب الحرب العالمية الثانية، وعندما خرجت كوريا الجنوبية كسيحة عقب الحرب الكورية في العام 1953، كان المرتكز الأول في إعادة خطط الإعمار في البلدان الثلاثة على اختلاف تاريخها وسياقاتها الحضارية واحد لا يتغاير، ألا وهو الاحتفاظ الحريص بكل الطاقات العلمية والتقنية الوطنية، والتي بدورها تمكنت من إعادة إعمار أوطانها حقيقياً على المستوى المعرفي، والإنتاجي، والاجتماعي، والسياسي، والعمراني. وفي سياق زمني مقارب من الناحية التاريخية لذلك الأخير، سعت معظم الدول العربية المستقلة حديثاً عن مستعمريها من الناحية الشكلية في نسقين متوازيين ينتجان نتيجة واحدة، الأول هو نسق النظم العسكرية الاستبدادية، القائمة على تغول بنيات الدولة الأمنية، وقائدها الملهم المفدى، على كل تفاصيل الحياة الداخلية في حدود سجن كبير اسمه الدولة الوطنية العربية الحديثة، فيتحول جيش البصاصين والعسس فيها إلى رقيب وحسيب سرمدي على عقل كل عالم في ذلك الوطن، وكل ما يخرج من شفتيه أو قلمه. والثاني هو نسق الاقتصادات الريعية القائمة على استخراج الثروات الطبيعية، واستيراد العمالة الرخيصة من فقراء شبة القارة الهندية، ومنتجات الاقتصاديات الغربية الاستهلاكية، وبعض الطاقات والعقول الوافدة لغرض التزيين الإعلامي، والتي لا يستقيم إبداعها الحق في تلك المجتمعات، لعدم وجود حاجة اجتماعية لذلك في ضوء نشوة المجتمع بكليته في فقاعة الاقتصاد الريعي، وما يرتبط به من بطالة مقنعة شاملة عمقاً وسطحاً في تلك المجتمعات. و يجد ذينك النسقان انتظامهما في نهج كلياني جامع هو مربع الفساد و الإفساد بحسب تكثيف المفكّر المعلم طيب تيزيني، مشخصاً بالاستئثار بالسلطة، و الثروة، و الإعلام، و المرجعية السياسية و الأخلاقية؛ و هو المتلازم أبداً مع تشبث النظم الاستبدادية العربية بإحكام سيطرتها على مجتمعاتها و شعوبها، و هو ما حوّل و يحوّل كل احتمالات للبزوغ الاستثنائي للعقول العربية المبدعة، كما تنبت الزهرة في بقايا هشيم الغابة المحترقة، احتمالاً يصعب تحققه في الواقع التاريخي العياني المشخص للمجتمعات العربية، و كياناتها القُطْرية الحديثة.

ولا يفترق كثيراً عن التوصيف الأخير، الولوج في تراجيديا تغييب معيار الكفاءة في تقلد مواطني الدول العربية الحديثة لمناصبهم الإدارية أو المهنية، في كنف تغول معايير الولاءات والمحسوبيات الشخصية بكل أشكالها الماقبل وطنية، سواء كانت قبلية، أو مناطقية، أو مذهبية، أو طائفية، وإلى ما يرتبط بها من تفرعات وصولية تشترطها معايير الدول الأمنية العربية المخترقة لمجتمعاتها عمقاً وسطحاً.

الراحلة زها حديد، بعقلها الخلّاق، كانت استمراراً طبيعياً من الناحية الوراثية لكل صنّاع الحضارة البشرية الأولى في أرض الرافدين من عهد سومر، و أكاد، و بابل؛ و لكنها تحصلت على القسط الأكبر من تعليمها في الغرب؛ أو في استطالاته في العالم العربي، ليس لتفوق الغرب حضارياً وعلمياً، وهو وعي زائف بكل المقاييس، دليله التقدم العلمي الاستثنائي الراهن في الشرق الأقصى كحد أدنى، و إنما لتحول معظم الجامعات العربية إلى مدارس ثانوية كبيرة بحسب توصيف المفكر الراحل صادق جلال العظم، و تثبتها حول كينونة تعليم الكتاتيب، و التلقين الببغائي، وفن الاستحفاظ و الاستذكار لغرض النجاح في الامتحان، لينطبق على كل ما تعلّمه طلاب الجامعات العربية نظرية (الوعاء المثقوب) بحسب المفكر نعوم تشومسكي، و الذي يتسرب منه كل ما رسخه الطالب في ذاكرته القريبة لغرض النجاح في الامتحان، كما يتسرب الماء من الوعاء المثقوب، حتى أصبح من الشائع أن ترى كثيراً من الجامعيين العرب كأنهم أشباه أميين، بعد أن نسوا بالمطلق كل ما درسوه سابقاً قبل حصولهم على تلك الوريقة التي تزين حائطهم و سيرهم الذاتية.

في كثير من المشافي الخاصة في العاصمة لندن، ترى اللافتات الداخلية في الشعب والأقسام مكتوبة باللغة العربية مع الإنجليزية، لكثرة طوفان المرضى العرب القادمين للعلاج في بريطانيا؛ و كثيراً ما كان يحز في قلوب الأطباء العرب المقيمين في لندن، عندما يرفض مريض عربي أن يعالجه طبيب من أبناء جلدته، سواء بفظاظة، أو مواربة مكشوفة، حتى لو كان مؤهلاً بنفس مستوى قرينه الأبيض من فصيلة ذوي الشعور الشقراء و العيون الملونة، في تلخيص تراجيدي لعقدة الانسحاق الحضاري تجاه السيد الأبيض في عمق و وجدان و لاوعي الكثير من الأعراب، الذين أدمنوا استبطان مثلنا الشعبي القائل بأن" زمار الحي لا يطرب".

وإلى حين صحوة العرب من عقدة انسحاقهم الحضاري تجاه مستعمريهم القدماء الجدد، سوف تبقى مجتمعاتهم طاردة لخيرة زماريها كزها حديد، التي طالما استبشرت بعقولهم، وإبداعهم، وهم ينتظرون الانسلاخ مرغمين محزونين عن أرضهم وأوطانهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أريزونا تصوت على تعديل في دستور الولاية بشأن الإجهاض


.. -سنقاوم مهما كان الثمن-




.. الرجال أم النساء، من سيلعب الدور الأكبر في تحديد نتائج الانت


.. إعادة هيكلة العصرانية الديمقراطية... محور ندوة حوارية في الر




.. الناشطة ومنسقة المشروع جميلة حسون