الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حقيقة الكمال الإنساني عند الغزالي

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 11 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إن مأثرة الفكرة الغزالية عن القدوة المثالية للإنسان الكامل تكمن في ربطه إياها بالقيم المطلقة لا بأشخاصها. وهي الصيغة التي نعثر على انعكاسها في موقفه من الحقيقة ورفضه كون الإنسان معيارها. بمعنى رفض فكرة أن يكون الإنسان معياراً لكل شيء ورفض تضييقها الإنساني وتحجيمها التاريخي. لهذا أكد على أنه لا ينبغي قياس الحقيقة بالرجال، بل الرجال بالحقيقة. وحتى حالما تكلم عن مثال الشخصية الكاملة في النبي محمد، باعتباره المثال النموذجي للإنسان الكامل، فإنه لم يفرضه كمثال مطلق. لهذا قيّد الصيغة المطلقة لمثالية الإنسان الكامل بالأسماء الإلهية. من هنا تأكيده حال الحديث عن الاسم الإلهي المؤمن، بأن تجليه الملموس يكون في الفرد الذي يكون سبباً لأمن الخَلق. أما نموذجه الحي فيقوم فيما أسماه "بحرفة الأنبياء والعلماء". أي كل ما حدد اهتمامه الكبير بالإنسان الكامل في منظومة الأخلاق العملية وروحها الإصلاحي.
إن حياة الإنسان الكامل على قدر حظه من حقيقة الحي (الاسم الإلهي). بمعنى على قدر سلامة قلبه من الغش والحقد والحسد، وسلامة إرادته من الشر، وجوارحه من الآثام، وصفاته من الانتكاس والانعكاس. وألا يكون عقله أسير شهوته وغضبه وسائر صفاته السلبية الأخرى. أو كل ما يجعل من اكتمال صفاته الجميلة قدوة فاعلة حقة. وذلك لأن التخلّق بالأخلاق الإلهية ما هو إلا وسيلة بلوغ المثال الاجتماعي الأخلاقي الأسمى. لهذا رفض الغزالي، تحويل الغاية إلى وسيلة، رغم إدراكه الصلة الدائمة بينهما بما في ذلك تحول مواقعهما، أي تحول الوسيلة إلى غاية والعكس بالعكس. وفي الوقت نفسه شدد على أن الغاية الأسمى لا غاية لها غير السمو والكمال.
لقد حوّل هذا المبدأ إلى شعار الفعل والقول ومثال تجلي الحكمة العملية.. فالأخيرة هي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم. وإذا كانت أجلّ العلوم هو العلم الأزلي (علم الله)، فإن وجوده الواقعي يتجلى في إدراك حقيقة النسبية المطلقة في الأخلاق العملية. وهو لم يبتعد هنا كثيراً عن الحقيقة في حالة تجريد آراءه ومواقفه من الميتافيزيقيا الدينية. إذ ليس العلم الأزلي سوى الحقيقة المطلقة، باعتبارها أرقى وأجلّ العلوم والمعارف. إلا أن التجلي الدائم للحقيقة المطلقة، يقوم في إدراكها الملموس. وبالتالي فإن الحقائق الكلية لا يمكن سكبها في قوالب اللغة المعرفية وتأثيرها المعنوي. وقد جعله ذلك يتكلم عن أن ما يميز الحكيم هو سعيه لإظهار الكلي في كلامه وتجنب الجزئي فيه. ولم يربط ذلك بإرادة الحكيم الشخصية، بقدر ما ربطه إياه بالحكمة نفسها وصيرورتها وغاياتها. فهي الحصيلة المعمِّمة للوعي الفعال في وقوفه أمام ذاته الفردية والاجتماعية والثقافية والكونية لتأمل مصيرها في الكلّ. فهو الوعي الذي يدفع الحكيم إلى إعادة النظر، أو بصورة أدق، إلى تجاوز الجزئي في الكلام والتعرّض للكلي، أي فكرة عدم التعرّض للمصالح العاجلة والتعرض لما ينفع في العاقبة. غير أن الغزالي لم يسع من وراء ذلك وضع العاجلة (الحياة الدنيا) بالضد من العاقبة (الحياة الأخرى)، بقدر ما أن يزنهما في كفتي المصلحة العابرة والمنفعة الحقيقية. وهذه بدورها ليست إلا الصيغة الاجتماعية الأخلاقية الدينية لمعرفة الجزئي والكليّ. وإذا كان الكليّ هو السائد في كلام الحكيم، فلأنه النتاج المجرد لتعميمه للجزئيات وتوليفها النظري. وينطبق هذا بالقدر ذاته على ما أسماه بمصلحة العاجلة ومنفعة العاقبة. بمعنى السعي لوضع أولوية المثال الأخلاقي الشامل والكليّ مقابل الأصغر والجزئي.
وحصلت هذه النتيجة على صيغتها النظرية في مواقفه المعارضة لتحويل الله إلى وسيلة بلوغ الجنة. لهذا أيضاً أكد على أن من "طلب شيئاً لغيره لا لذاته، فكأنه لم يطلبه فإنه ليس غاية طلبه". أما مضمونه الجوهري في منظومته الأخلاقية فقد تحقق في قيمتها التحويلية الممكنة. بمعنى رفضه تحويل الدين وعقائده الكلامية أو أيما شعار أو هدف معلن لأن يكون وسيلة بلوغ المآرب الشخصية. وبالتالي، فإن من الصعب فهم حقيقة مثال الإنسان الكامل إلا على أسس الأخلاق الفردية الصارمة باعتبارها أيضاً المقدمة الضرورية للفعل الاجتماعي الأوسع. لهذا لم يضع في حظ الإنسان من الاسم الإلهي الجبار سوى فكرة الارتفاع عن الإتباع ونيل درجة الاستتباع، والانفراد بعلو المرتبة إلى الدرجة التي "يجبر الخلق بهيئته وصورته على الاقتداء به. ويفيد الخلق ولا يستفيد، ويؤثر ولا يتأثر، ويستتبع ولا يتبع، بل لا يطمع أحد في استدراجه واستتباعه". ذلك يعني إنه شدد على ضرورة الارتفاع الدائم للذات الكاملة في توجهها صوب المطلق من خلال استجماع إمكانياتها الأخلاقية. إنه حاول رسم الصورة المجردة لإمكانية تجسيد المطلق دون أن يقيدها بغير قيوده. مما أعطى له تاريخياً، فعالية الإشعاع الروحي وخميرة الاحتجاج والإصلاح الاجتماعي والسياسي والأخلاقي.
فالإنسان الكامل، إن أمكن القول، هو أسير المطلق وأداته. لهذا ركّز الغزالي، في معرض تناوله الاسم الإلهي العزيز على صيغة تجليه الإنساني بمثال الشخصية التي يحتاج إليها الآخرين لبلوغ سعادتهم الأبدية. وأكد في الوقت نفسه على أن الكاملين يشاركون الأنبياء كل في عصره. حيث أدرج بين هؤلاء الكاملين أيضاً الخلفاء والعلماء، أي رجال السياسة والحكمة العلمية والعملية، وشدد على أن عزة الإنسان الكامل على قدر "عنائه في إرشاد الخلق".
إنه حاول إظهار قيمة الفعالية الاجتماعية التاريخية في شخصية الإنسان الكامل، انطلاقاً من إدراكه للحقيقة القائلة، باستحالة وجود هذه الفعالية الحقيقية دون وجود الإنسان الحق. من هنا تركيزه على مهمة التطهير الذاتي ببدائل القيم الأخلاقية. ومن هنا أيضا تشديده في مواقفه من حظوظ الإنسان من الأسماء الإلهية على ضرورة الانتقام من النفس باعتبارها أحد أعدائه، وعلى قهرها الدائم باعتباره مقدمة العمل، وعلى الإنصاف منها باعتباره شرطه. إلا أن هذه السلبية الظاهرية، بما في ذلك موقفه المعارض للعنف ما هو إلا السلم الأخلاقي، لا سلبية الممارسة الاجتماعية السياسية. فعندما يتكلم عن الاسم الإلهي المنتقم، فإنه شدد على فكرة المحمود في الانتقام. غير أنه لم يضع في الانتقام بواعث الهمجية وردود الفعل النفسي التبريري، بل فعل الأخلاق الصارمة وضرورة توجيهه ضد النفس، باعتبارها "أعتى أعداء الله". أنه سعى لتحويل "الانتقام الذاتي" إلى وسيلة الرقي الأخلاقي والفعل السياسي السليم. ولم ينظر إلى الانتقام نظرته إلى ممارسة قائمة بذاتها، بل إلى جزء ضروري من الكلّ الأخلاقي. فهو لم يرد من وراء ذلك سوى إظهار قيمة المثال الفردي في الإنسان الكامل وفعاليته الاجتماعية الممكنة. ووجد في السلم والقدوة الحسنة الروحية أسلوبها الأمثل. فالتخلّق بأخلاق الاسم الإلهي الرحيم يعني أن "يرحم عباده الغافلين بصرفهم عن طريق الغفلة بطريق اللطف دون العنف". وأن التخلّق بأخلاق الاسم الإلهي اللطيف يعني أن يكون مثاله "الرفق بالناس والتلطف بهم ودعوتهم للحق من غير عنف ومن غير تعصب وخصام". وبغض النظر عن تباين المضمون السياسي في مفهوم العنف عند الغزالي عما هو عليه الحال في العالم المعاصر، إلا أنه أعطي لمفهوم وفهم العنف واللاعنف أبعاداً جديدة في منظومة البديل القيمي، من خلال تحويرها في قيم التسامح، بما في ذلك السياسي. ومن ثم نبذ التعصب. لهذا أكد على أن الوسيلة الفضلى لإظهار حظ اللطيف الإلهي في الإنسان، أو الدعوة للحق من غير عنف وتعصب وخصام هو "السيرة المرضية للأعمال الصالحة، فإنها أوقع وألطف من الألفاظ المزيفة".
وحدد هذا الأسلوب العام فعالية الشخصية المتخلّقة بأخلاق الله في مواقفها وأحكامها وحلولها. فالإنسان الكامل هو الذي يتعامل مع معضلات الوجود كما لو أنها قضاياه الخاصة. بمعنى نفيه لعدم المبالاة وتحويل ذاته صوب ميدان الهموم الاجتماعية باعتبارهامن صميم همومه، أو ما عبّر عنه بكلمات "أن ينظر إلى كل مصيبة تجري كمصيبة له في نفسه". مما حدد بدوره استمرار المهمة الفعالة للإنسان الكامل. فالمتخلّق بأخلاق الاسم الإلهي الفتاح، هو "المتعطش لأن يصير بحيث ينفتح بلسانه مغاليق المشكلات الإلهية، وأن يتيسر بمعرفته ما يتعسر على الخلق من الأمور الدينية والدنيوية". والمتخلّق بأخلاق الاسم الإلهي المعز المذل، هو الذي "يستعمل في تيسير أسباب العز على يده ولسانه". مما يعني أولوية التيسير في عمله وقوله مقابل التعسير. ولا يعني ذلك في مضمونه الاجتماعي من الناحية التاريخية سوى أولوية المصلحة العامة.
إن مأثرة الغزالي هنا تقوم في أنه لم يترك هذا التيسير والمصلحة العامة سائب الأطراف، بل حاول ربطهما بما أسماه بالرؤية الصادقة والحل السليم. وبغض النظر عما إذا كانت حلوله ومقترحاته صائبة أم لا، فإن قيمتها الفكرية المجردة تقوم في تأسيسه لضرورة العمل الأخلاقي والرؤية السليمة. وبالتالي بلورة قيمتها وقيمها الاجتماعية السياسية والفكرية. فقد نظر هو إلى كل ما هو موجود، باعتباره داخلاً في الوجوب، أي لزومه وضرورته ونسبته في الوحدة والكلّ، بما في ذلك في الاجتماع. وهو ما حاول إظهاره بصدد مختلف القضايا والمشكلات والمسائل الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، مثل رؤية الخير في الشر، وعرضية الشر في الوجود الاجتماعي، تماماً بالقدر الذي يفترض مثالية الحقيقة المجردة والمبدأ الأخلاقي المطلق. لهذا لم يجد، على سبيل المثال، حقيقة العدل في المنفعة، بل في وضع كل شيء في نصابه. ولم يعن ذلك تبريراً لما هو موجود، وذلك لأنه انطلق من أن الوجود هو أفضل ما في الإمكان إبداعه. لكنه أقرّ في الوقت نفسه، بأن كل شيء عرضة للزوال، وأن الوجود هو الأفضل. وبالتالي فسح المجال أمام الفعالية الممكنة في ميادين الحياة وقيمة المصلح الأخلاقي، وذلك لأنه ينظر إلى الحركة الدائمة في الوجود ويعيها ويحكم عليها باسم المبدأ الأخلاقي. وقد حدد كل ذلك خصوصية الفكرة الإصلاحية في تآلفه الصوفي وتأسيس المثال لإمكانيات البدائل الشاملة ومثال الإنسان الكامل.
لم يحصر الغزالي ميدان فعل الإنسان الكامل في مجال دون آخر. وبهذا يكون قد فسح المجال أمام ضرورته العملية الاجتماعية السياسية الرفيعة، باعتباره خليفة الله في الأرض، أي ما سبق وأن وضعه في معنى حقيقة الخلافة بوصفها الاستمرار الحق للإلهي في الإنساني. لهذا جمع في كلّ واحد قيمة المثال المطلق للإنسان، باعتباره هدفاً لمساعيه العملية، وربطه في الوقت نفسه بتلقائية التأييد الإنساني الحقيقي. من هنا عدم تقييده بزمان دون آخر. فعندما يتكلم عن الاسم الإلهي البديع، فإنه يشير إلى أن مثاله في الإنسان هو من "يختص بخاصية النبوة أو الولاية أو العلم لم يعهد مثلها. إما في سائر الأزمان وإما في عصره، فهو البديع بالإضافة إلى ما انفرد به، وفي الوقت الذي هو منفرد به". مما يعني تضمنه إمكانية ظهوره الدائم.
لقد أبدع الغزالي المثال المجرد للإنسان الكامل وقيّده في الوقت نفسه بالميتافيزيقية الصارمة. وقد كانت هذه المفارقة نتاج التوليف الذي سبق وأن بلورته اتجاهات الثقافة الإسلامية في منظومات الكلام عن الخليفة، والشيعة عن الإمام، والمتصوفة عن القطب. ولهذا لم يكن مثاله عن الإنسان الكامل خليفة بالصيغة التاريخية لها، ولا إماماً بمقاييس الحكمة الإلهية الشيعية وباطنيتها، ولا قطباً صوفياً في فردانيته الروحية الخالصة. لقد وحّدها عبر توليف المبادئ العملية للإصلاحية الشاملة ومثالها في التخلّق بأخلاق الله.
مما سبق يبدو واضحاً المضمون الاجتماعي لفكرة التخل!ق بأخلاق الله. فعلى الرغم من تركيزه على هذه النتيجة في ميدان خلق الإرادة الذاتية، إلا أنها شكلت في منظومته العملية العلمية أسلوب الخروج إلى الآفاق الأبعد للوجود الاجتماعي. لقد ثوّر، إن أمكن القول، السياسة في حركة السموّ الأخلاقي وكشف عن محدودية السلطة السياسية من خلال إظهار سلطة المطلق الأخلاقي في الذات واستبدال واقعية الهيمنة واستبداد السلطة بالحرية الأخلاقية المعرفية للإنسان. وبهذا يكون قد حاول الكشف عن معالم السمو الأخلاقي والهوة الفاصلة بينها وبين الواقع والمثال. بحيث نراه يظهر في كل اسم إلهي يوحي بعناصر السلطة والقوة، هشاشة السلطة الظاهرية مثل سلطة القوة والمال والجاه وما شابه ذلك. فليس الملك الحقيقي سوى المستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود. أما الملك الحقيقي من الأنس فهو المستغني عن كل موجود سوى الله. ولا حكم حقيقي في مملكة الإنسان أكثر من التحكم، كما يقول الغزالي، بجنوده (شهوته وهواه) ورعاية أعضاء جسده. وبالتالي ليس الملك الحق في الأسماء سوى من "انضمّ إليه استغناؤه عن كل الناس واحتياج الناس كلهم إليه في حياتهم العاجلة والآجلة. فهو الملك في عالم الأرض". وليس المهيمن (الاسم الإلهي) الحقيقي سوى المراقب والمشرف على أنوار أسرار الذات الإنسانية ومن تشمل سعة سلطته واتساع إشراقه واستيلائه على حفظ عباد الله. وعلى الرغم من تشديده على إمكانية الملك الحق في الأرض، إلا أنه لم يعط له أكثر من وظيفة المرشد الحق. واستند بذلك إلى أن حق السيطرة الفعلية مرتهن بعمق ذاتها الأخلاقية. فجلال الإنسان على قدر جلال همته. وبالتالي فإن قيمة الإنسان الفعلية على قدر ما فيه من مطلقها.
وقد حددت هذه النتيجة بدورها تأسيسه لاستمداد ما أسماه بمملكة الوجود الواحدة كامل مثالها من وحدة المطلق. فالموجودات كلها مملكة واحدة "لأنها مرتبطة بعضها ببعض. فإنها وإن كانت كثيرة من وجه، فلها وحدة من وجه. ومثاله بدن الإنسان. فكذلك العالم كله كشخص واحد، وأجزاء العالم كأعضائه. وهي متعاونة على مقصود واحد. وهو إتمام غاية الخير الممكن وجوده، على ما اقتضاه الجود الإلهي ولأجل انتظامها على ترتيب متسق، وارتباطها برابطة واحدة، كانت مملكة واحدة". فمملكته الواحدة هي غاية الخير الممكن وجوده في الأفراد والجماعة، أي رفع شأن حقيقة المملكة من خلال صنع مملكة الذات الواحدة. ومن ثم بلوغ رتبة العزة والتكبّر والجبروت في الذات الإنسانية. أما شأنها الكامل، فإنه يقوم في سيادة الحرية الفاعلة في الإنسان واستقلالية المنزع والغاية، أي بلوغ الخير الممكن وجوده في الوجود "الكوني والاجتماعي التاريخي"، والذي تكف فيه قدوة العزة والتكبر والجبروت المستبد عن أن تكون تمثيلاً لحقيقته.
فقد شدد الغزالي على أن العزيز هو الذي يقلّ وجوده ومثله. وهو الذي تشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه. والجبار هو الذي تنفذ مشيئته على سبيل الإجبار في كل واحد ولا تنفذ فيه مشيئة أحد. وإن المتكبر هو الذي يرى الكلّ صغيراً بالإضافة إلى ذاته، ولا يرى العظم والكبرياء إلا لنفسه. ولا يمكن إغفال ما في هذه الأحكام من انعكاس للوجود الاجتماعي التاريخي السياسي لهرمية السلطة وإدانتها في الوقت نفسه، ونفيها فيتجانس المملكة الوحدانية لمبادئ (أسماء) الخير المطلق. وبهذا يكون قد انتزع أيضاً وهم القوة التاريخية من خلال الكشف عن أنه لا جبار ولا متكبر ولا عزيز حق مطلق إلا الله، تماماً بالقدر الذي أبقى عليه في متناول المساعي الدءوبة لبلوغ الخير الممكن وجوده. وبهذا يكون قد أسس أيضاً للفكرة القائلة، بأن حقيقة السلطة تقوم في قدرتها الرفيعة على الاصلاح، باعتبارها تمثّلا للتخلّق بأخلاق الله. إذ ليس العزيز من الناس سوى من يحتاج إليه الناس في أهم أمورهم، ألا وهي السعادة الدنيوية والأبدية. وليس الجبار من الناس سوى من ارتفع عن الإتباع ونال درجة الاستتباع وتفرد بعلو رتبته، بحيث يجبر الخلق بهيئته وصورته على الاقتداء به ومتابعته في سمته وسيرته. وليس المتكبر من الناس سوى الزاهد العارف، المتنزه سرّه عما سوى الحق، والمتكبر على كل شيء سوى الحق، والمستحقر للدنيا والآخرة.
لقد أراد الغزالي وسعى لإبداع أطر السلطة الحقيقية في النفس الأخلاقية. وبحث في الوحدة الأخلاقية المعرفية للإنسان عن مثال وحدة المجتمع والدولة، والفرد والجماعة. بمعنى إزالة الوسائط من مؤسسات وأحزاب وسلطات، دون أن يلغي ضرورتها. وبذلك يكون قد أّسس لنظرية عن الإنسان خارج إطار الفقه الرسمي والتقليدي، ولكنه صاغ فكرتها المجردة والعامة، وأبقاها في الوقت نفسه أسيرة الروح الفردي. ولعل قيمتها الكبرى تقوم في تناقضها هذا.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجيش الروسي يستهدف قطارا في -دونيتسك- ينقل أسلحة غربية


.. جامعة نورث إيسترن في بوسطن الأمريكية تغلق أبوابها ونائب رئيس




.. قبالة مقر البرلمان.. الشرطة الألمانية تفض بالقوة مخيما للمتض


.. مسؤولة إسرائيلية تصف أغلب شهداء غزة بالإرهابيين




.. قادة الجناح السياسي في حماس يميلون للتسويات لضمان بقائهم في