الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض نظرية المعرفة لدى إبن تيمية

هيبت بافي حلبجة

2020 / 11 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بعد ما إنتقدناه في أقوى مقولة لديه ، درء تعارض العقل والنقل ، نود أن ننتقده في موضوعة سميت ، عادة وتجاوزاٌ ، بالنظرية المعرفية ، التي يمكن تلخيصها في الإجابة على التساؤل التالي ، كيف يحصل الإنسان على المعرفة ، وهل توجد قبليات معرفية أم كلها بعديات . لكي يجلو الأمر من الضروري أن نبدأ بالتالي :
المقدمة الأولى : يعتقد البعض ، والبعض ، والبعض ، إن المعرفة تحصل لدى الإنسان من خلال العقل ، الحس والإحساس ، الخبر والوحي ، الكشف والمكاشفة . وفي الكشف والمكاشفة ، تتمركز الفكرة حول نقطة جوهرية وهي إن كلما إبتعد الإنسان عن الأرض ، عن الملذات ، عن الشهوات ، عن النزوات ، عن الأغلال والأصفاد الأرضية ، وكلما إبتهل إلى السماء ، وتضرع إلى القوى الغيبية ، وناجى تسبيحاٌ وتحميداٌ ، كلما إرتفعت روحه عن الأدران والأوساخ وتحررت منها كافة ، وكلما إكتسبت روحه شفافية إلهية وقوة سماوية وطاقة غيبية ، كلما إنكشفت الوقائع ، الحقائق ، الأشياء ، الأمور والقضايا له . هذه الفكرة فاسدة وسقيمة ، فالإنكشاف لايحدث إلا عبر واحد من ثلاثة ، إما عبر الأشياء والقضايا نفسها ، أو عبر الشخص ذاته ، وإما عبر طرف ثالث . إن الأشياء والقضايا ليست مقيدة بشروط من جهة ، كما إنها ليست واعية بحدود من جهة ثانية ، حتى تنكشف لكائن من كان . وإذا كان من خلال جهة ثالثة ، وهي هنا وعلى الأرجح إله الكون ، فإن الإنكشاف يتحول إلى الخبر والأخبار . وأما من خلال الشخص ذاته ، فمن الضرورة أن تكون على صيغة أحداث ، لإن الأمور الآخرى قد تكون على صيغة خبر أو حالة تجريبية ، وهذه مسائل منفصلة عن المكاشفة ، وأما الأحداث فهي عملية مشتركة مابين الناس كلهم وتتحقق على صيغة الأحلام التنبؤية . وسوف نتعرض لهذا الموضوع في حلقة خاصة وسنبين عندها فساد مفهوم الكشف لدى العرفانيين ولدى أفلوطين . لكن ماحقيقة هذه الإطروحة نفسها ، فإذا كان مفهوم الكلية خاطىء من تأصيله ، فهل ثمة صدق في جزئية خاصة ، في الواقع الأمر يستند إلى مايسمى بالطاقة الدماغية ، المادة المدركة الواعية ، ولابد أن نعالج هذا ، في مادة منفصلة ومستقلة ، لكن ننوه ، منذ الآن ، إن من أهم وظائف هذه الطاقة الدماغية هي حماية الشخص نفسه ، وهي تحميه بصور عديدة ومتعددة ، وكلما كانت متحررة من قيود وأصفاد المشاكل والعوائق ، وخضعت لمحتوى الممارسة ، كلما كان أداؤها مميزاٌ ورائعاٌ ودقيقاٌ . وفي مسألة الخبر والوحي ، فإن الخبر إما أن يكون إنسانياٌ أرضياٌ ، إما أن يكون سماوياٌ غيبياٌ ، في الحالة الأولى ينعدم الخبر أصلاٌ في مفهومه ، وليس له أي معنى ، وليس له أي دلالة ، لإن الموضوع ، هنا ، يستند إلى المجال ، وتحديداٌ إلى المجال العام الموضوعي ، وإلى مجال التجربة ، وإلى مجال المقارنة والبرهان والأدلة . وفي الحالة الثانية ، أي أن يكون الخبر سماوياٌ غيبياٌ ، عندها إما أن ينم عن دلالة ، أو أن يحتفظ بطبيعة الخبر الجاف ، في الحالة الأولى فشل إله الكون في تبليغ الخبر ولم يتمكن أن يمنحنا الخبر ذي الدلالة على وجوده ، أو من خلال إطلاعه على التاريخ المفترض للبشرية ، فلم يبلغنا ، مثلاٌ ، بوجود قارة لم تكتشف بعد ، القارة الأميركية أكتشفت في عام 1492 ، ولم يبلغنا إن الديناصورات حكمت الآرض لمدة مليوني عام ، ولم يبلغنا عن حقيقة الكون ، إنما إكتفى بالرؤية البصرية . وفي الحالة الثانية ، أي فيما يتعلق بالخبر الجاف ، فإن إخباره لنا بوجود ما يسمى بالجنة والجهنم ، خبر لايستقيم ، فوجود الجهنم ، إن وجدت ، لايستقيم مع مفهوم إله الكون وعظمته وكمال رحمته ، ولايستقيم مع مدلول الإختبار المزعوم . كما إن وجود الجنة ، إن وجدت ، لايستقيم مع حقيقة إله الكون في موضوع خلق هذا الأخير لإشكالية شرطية ضرورية لدخول الشخص إلى الجنة . كما إن وجود الجنة والجهنم ، إن وجدتا ، لايستقيم مع حقيقة الوجود الإلهي ، فوجودهما ينبغي ، بالضرورة ، أن يكون خارج الوجود الإلهي ، وهذا مستحيل .
المقدمة الثانية : في خارج سياق مفهومي ، الكشف والمكاشفة ، الخبر والوحي ، يعتقد أفلاطون إن النفس البشرية قد إحترفت المعرفة حينما كانت في عالم المثل ، ذلك العالم الذي يحتضن مثل كل شيء ، يحتضن الصورة الحقيقية الأصيلة والأصلية لها كافة ، ولسبب لايعلمه إغتربت وإستلبت النفس البشرية ، وإرتمت في براثن عالمنا هذا ، العالم الحسي ، ذلك العالم الذي جعلها تنسى ما إحترفته معرفياٌ في العالم الأصلي ، لإنه ، ليس فقط ، مثقل بالمادية وبغياب الشفافية ، إنما لإنه غير حقيقي . لذلك لكي تستعيد النفس البشرية أصولها المعرفية فمن الضرورة أن تتذكر ، أي تقوم بعملية أستذكار لها ، ولاتستطيع أن تقوم بالإستذكار إلا إذا ، دنت من طبيعتها الأولية ، أي تحررت من قيود الأرض وأقتربت من شفافية السماء ، إذن أمامها شرط الضرورة هذا ، لكن أمامها شرط إشكالي آخر ، لم يدركه إفلاطون ، وهو إن الوجود الحسي ، هنا ، هو وجود ظل وظلال ، لاحياة فيها ، فالنفس ذاتها لايمكن إلا أن تكون خيالاٌ وإلا لهدم إفلاطون إطروحته بهذا الصدد ، وهاهو يضرب مثلاٌ على كل ذلك ، في مسألة الكهف ، فيقول إننا مثل شخص جالس في قاعدة كهف ووجهه إلى الجدار الداخلي ، وإذا ما أوقد ناراٌ على الباب الخارجي ومر أناس مابينهما فسوف يطبع الظلال على ذلك الجدار ، في الحقيقة ننذهل كيف يمكن لإفلاطون أن يرتكب مثل هذه الحماقات ، سنعالج ذلك في حلقة خاصة . وعلى الطرف النقيض من ذلك ، يقدم أرسطو رؤيته المعروفة ، قيعتقد إن الحس والإحساس هو أساس كل معرفة بشرية ، فإذا كان إفلاطون قد قام بعملية إستنباط الجزئيات من الكليات ، فإن أرسطو قد قام بعملية إستقراء الكليات في الجزئيات ، أي إن الحس يشاهد الجزئيات في الطبيعة ، أي المفردات المؤلفة لكل نوع وصنف ، الشجرة ، النهر ، الغزال ، الحمام ، فيأتلف عليها مفهوم الكليات من خلال تصورين هما مبدأ التشابه والمماثلة ، ومبدأ التجريد . والحس لدى أرسطو يتضمن مبدأ التجريب ، وإلا لتحول الحس إلى عملية مشاهدة جافة .
المقدمة الثالثة : كان لابد من المقدمتين كي نقترب من مفهوم ينقلنا إلى طبيعة الإشكالية لدى إبن تيمية ، وهذا المفهوم هو موضوع المعرفة القبيلية ، والمعرفة البعدية ، وتأتي الآية الكريمة في هذا الخصوص : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئاٌ وجعل لكم السمع والإبصار والأفئدة لعلكم تشكرون . لتفرض رؤيا خاصة في إدراك المفارقة مابين المعرفة القبلية والمعرفة البعدية ، وإدراك إن السمع هو الخبر والوحي ، وإن الإبصار هو الحس والإحساس ، وإن الأفئدة هي العقل . لذلك ذهب بعضهم إن الإنسان يولد ، كصفحة بيضاء ، لايعلم شيئاٌ ، لإن مفردة شيئاٌ أتت بصيغة النكرة ، والنكرة ، هنا ، تفيد المطلق . وذهب البعض الآخر إن الآية تدل على ذلك المفهوم ، فلايعلم شيئاٌ أي لايعلم شيئاٌ من المعرفة المكتسبة ، لكنها تتضمن إستثناءاٌ في ثناياها ، والإستثناء يتعلق بمبادىء الضرورة ، ومبادىء الضرورة هي غير مكتسبة في تأصيلها إنما هي مغروسة غرساٌ في النفس ، أي فطرية فيها . وذهب إبن تيمية إن الإنسان يولد ، كصفحة بيضاء ، لكن الفطرة لديه ليست حيادية ، إنما هي منحازة إلى ماهو إيجابي ، وتميل إلى تصديق موضوعات الحق والصواب .
المقدمة الرابعة : وهكذا تتحول المبادىء الأولية ، والمبادىء الضرورية ، وموضوع الفطرة ، لدى إبن تيمية ، من شرطها القبلي المعرفي إلى شرطها ماهو بعدي معرفي ، ليتناسب ذلك ويوائم رؤيته المركزية في مسألة ماتسمى بالنظرية المعرفية ، والتي تستند إلى الحس ، والحس لديه يتجاوز موضوعات الحواس ، فهو ذلك الحس وكذلك الحس الداخلي الباطني ، وفي الحقيقة القضية المعرفية ، لديه ، تتجاوز هذا المخطط الأولي البسيط ، فلننتقل إلى المقدمة الخامسة .
المقدمة الخامسة : في الآية الكريمة ، والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئاٌ وجعل لكم السمع والإبصار والأفئدة لعلكم تشكرون . نشاهد في المقدمة ، لاتعلمون شيئاٌ ، ثم السمع أي الخبر والوحي ، والإبصار أي الحس والحواس ، والأفئدة أي العقل . وإبن تيمية يلتزم بموضوعة ، لاتعلمون شيئاٌ ، في البدء وفي الأصل ، ثم ينتقل مباشرة إلى الحس ، وبعد الحس يأتي الوعي ، ولا وعي بدون دماغ ، حسب تعبيره هو ، وهذه خطوة متقدمة جداٌ في موضوع الفلسفة . فالحس هو ناقل للمعرفة والدماغ هو حاكمها وهو الذي يخلق الوعي بالأشياء وبالقضايا . وهنا من الضروري أن نزيل الغبار عن ثلاثة قضايا بدت لبعصهم مشكلة في إدراك موقف إبن تيمية منها : الأولى إن إبن تيمية يؤمن بالقضايا الضرورية والأولية وبالقضايا النظرية ، وهذه لايمكن إلا أن تكون قبلية في شكلها المعرفي ، وفي الواقع إن إبن تيمية لايفترض وجودها إلا بعد الحس ووعي الدماغ بها ، أي إن الدماغ يكتشفها من خلال مقولة الحس أولاٌ ، وهذا يوضح التالي ، إن الكليات المجردة لا تأتي إلا بعد إدراك الجزئيات المحسوسة ، إن مبدأ عدم التناقض ، وكذلك ومفهوم إن الواحد هو نصف الأثنين ، ليس إلا نتيجة في علاقة المعرفة بالحس وبالدماغ وليس العكس ، إن المعرفة المكتسبة قد تتحول إلى نوع من القضايا الضرورية أو القضايا النظرية . ومن المفيد أن نذكر إن إبن تيمية ، حينما يقر بوجود هذه القضايا والتمايز مابين القضايا الأولية والنظرية ، فإنه يقر بالمبدأ فقط ولاينسب هذه القضية إلى ذلك النوع ، بل إنه يؤكد ، أحياناٌ ، إن قضية معينة قد تنسب إلى هذا النوع أو ذاك حسب الأشخاص ، حسب المجموعات . الثانية إن إبن تيمية يقترب من مذهب التصوريين ، أود أن أنوه هنا إنني لا أوافق على تسمية فيلسوف أو مفكر أنه ينتمي إلى هذا المذهب أو ذاك ، كالمادية والمثالية ، فهذه المصطلحات وغيرها هي خاطئة من جذورها وتفضي إلى نتائج كارثية في المعرفة الحقة . لنعد ، إن إبن تيمية لايمكن أن ينتسب إلى ذلك المذهب لإنه يعتقد بكل بساطة إن وجود الأشياء والمحسوسات مستقل في صورها الأنطولوجية عن وعينا ، أي إن الواقع ليس تابعاٌ لتصوراتنا ، بل إن تصوراتنا تابعة ومقيدة ومحكومة بالواقع . الثالثة يعتقد البعض إن ثمة ثلاثة وسائل للمعرفة لدى إبن تيمية ، الحس الظاهري والباطني ، ثم بالنظر والقياس بعد مرحلة الحس ، ثم الخبر ، هذا شبه صحيح من حيث الشكل ، لكن في الفعل ، تستند نظرية المعرفة ، لدى إبن تيمية ، إلى الحس وعلاقة الحس بالدماغ ونتائج هذه العلاقة ، أم بخصوص الخبر فهو لايمكن أن يكون جزءاٌ من المنظومة المعرفية حتى لو كان من مصدر إلهي ، فهو لاشيء على الإطلاق ، ولايتمتع بأي علاقة موضوعية مابين الموضوع والمحمول ، بل إنه لايملك أي نوع من العلاقات .
المقدمة السادسة : وفي قصة الفرقة الدهرية السومنية مع جهم بن صفوان ، حيث سألوه عن إلهه ، فقالوا هل رأيته ، فأجاب بالنفي ، هل أحسست به فقال كلا ، هل جسسته قال كلا ، قالوا : إذن هو غير موجود . فغاب أربعين يوماٌ ثم رجع ، وسألهم هل لديكم أرواح فأجابوا بنعم ، هل رأيتموها ، هل أحسستم بها ، هل جسستموها ، فأجابوا بالنفي ، فقال جهم إن إلهي هو كذلك ، لايرى ، ولايجس ، ولايحس به . وهنا يتدخل إبن تيمية فيؤكد ، لقد أخطأ جهم بن صفوان حينما إعتقد إن إله الكون لايحس به ، ولقد أصابت السومنية عندما إنطلقت من فكرة إن كل وجود لابد من أن يحس به ، إن كل وجود قائم بذاته لابد من أن يحس به . وهكذا يؤكد إبن تيمية إن الحس هو أساس كل وجود من حيث الدلالة ، فلاوجود إن لم يحس به ، حتى الوجود الإلهي ينبغي أن يحس به .
نكتفي بهذا القدر ، وسنحاول أن نحدد مصدر الإشكاليات في هذه الرؤيا :
أولاٌ : في موضوع الفطرة يجزم إبن تيمية إنها ليست حيادية ، إنما منحازة إلى جادة الحق والصواب والحقيقة ، والإنحياز يرجح كفة المنحاز إليه على كفة المنحاز عنه ، وهذا الرجحان يقتضي بالمطلق إرادة قابعة في موضع ما ، إرادة الراجح ، وهذه الإرادة وبالتالي هذا الإنحياز ، إذا أخذنا في الحسبان موضوع الخلق ، يمكن أن يكون من ثلاثة مصادر لارابع لها ، إما من إله الكون ، إو من طبيعة الفطرة في حال وجودها ، أولاحقاٌ لإخراجكم من بطون أمهاتكم . إذا كان من إله الكون فلابد أن يكون قبلياٌ على وجه الإطلاق وإلا سيكون الإنحياز لغواٌ ومعدوم المحتوى ، وهذا يناقض محتوى لاتعلمون شيئاٌ . وإذا كان من طبيعة الفطرة فهذا يعني ، في حال وجودها ، إنها واعية ومدركة لحقيقتها ومستقلة عن الوجود الإلهي . وإذا كان لاحقاٌ لإخراجكم من بطون إمهاتكم فإنه يكون من نتاج التربية ، والثقافة والمعتقد ، والمورثات والهرمونات . وإذا نظرنا إلى نوعية الحضارات عبر التاريخ كله ، وإلى سلوك وسلوكية الشعوب نتحقق من أن المصدر الثالث هو الأرجح ، فثمة شعوب ، سواء في الشرق الأوسط أو في بقية أرجاء العالم ، متوحشة حتى اليوم ، وشعوب عصبية وثأرية ، وشعوب جاهلة ، وأخرى لاعقل لها ، وشعوب ثالثة في غاية الآدمية والإنسانية والتطهر والشفافية مثال الزرادشتية والإيزيدية والبوذية والهندوسية .
ثانياٌ : لنرجع إلى موضوع الحس ، لنرجع إلى قصة الفرقة السومنية وجهم بن صفوان ، لنرجع إلى موقف إبن تيمية من القصة ، حيث إنه يوافق على المبدأ والمنطلق لدى الفرقة السومنية ، من إن من لايحس لايوجد ، ويعيب على جهم بن صفوان موقفه ، ويجادل تلك الفرقة بالطريقة التالية : إذا كنتم تقصدون بالحس ، هو أن أحس أنا بكل شيء حتى يكون موجوداٌ ، أي أن يحس جهم بن صفوان ، ذاتياٌ ، بإله الكون كي يكون موجوداٌ ، فلا أعتقد إن هذا هو مبتغاكم . إما إذا كنتم تقصدون إن جماعة معينة أحست بالوجود الإلهي ، فأقول لكم بالإيجاب ، فالأنبياء أحسوا بالوجود الإلهي ، ولقد كلم موسى عليه السلام الإله تكليماٌ . إما إذا كنتم تقصدون ، وهذا هو الأصل ، إن شرط الوجود الإلهي هو أن يحس به ، فإن إلهي يحس به وسوف يرى يوم القيامة . وهكذا يرسم إبن تيمية القاعدة الجوهرية وهي إن شرط وجود الشيء هو أن يحس به ، إذن الأصل في هذه العلاقة هو الحس ، وهنا يمكن أن نكون إزاء خمسة إحتمالات ، إما أن نحس بالوجود الإلهي من حس هو خارج الحس البشري ، إما أن ندرك الوجود الإلهي عقلياٌ من حس هو خارج الحس البشري ، إما أن نحس بالوجود الإلهي من خلال الحس الباطني والمكاشفة ، إما أن نحس بوجوده من خلال الحس بالأثر ، إما أن نحس بالوجود الإلهي من خلال حسنا المرتبط بأعضاء الحواس . في الحالتين الأولى والثانية من المستحيل أن يتطابق حسنا وإدراكنا مع حس لانعرفه أصلاٌ ، لاندرك طبيعته ، لانعلم وجوده ، هو كالعدم العادم والمعدوم معاٌ . وفي الحالة الثالثة يختزل الأمر في النهاية إلى الطاقة الدماغية التي أشرنا إليها في حلقة سابقة ، وهنا تحديداٌ لايمكن أن يرتقي الحس الباطني إلى مستوى الحالة الإنطولوجية بمفهوم الوجود المستقل عن وعينا ، سيما وإن تصوراتنا مرهونة بهذا الوجود المستقل حسب إبن تيمية نفسه . وفي الحالة الرابعة يختزل الأمر إلى موضوع الخبر ، السمع في الآية الكريمة ، والخبر هو ليس علماٌ ولا معرفة . وفي الحالة الخامسة ثمة ثلاثة أوجه مختلفة ، الأول هو أن يرتهن إله الوجود في وجوده للحس البشري ، الثاني هو أن يخضع إله الوجود في كينونته للشروط الموضوعية للحس البشري ، ثالثاٌ هو أن يكون الحس البشري مقياساٌ كونياٌ ووجودياٌ معاٌ .
ثالثاٌ : لنرجع إلى الآية الكريمة ، والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئاٌ وجعل لكم السمع والإبصار والإفئدة لعلكم تشكرون ، إن موضوع لاتعلمون شيئاٌ لايتطابق مع قصة إبليس والملائكة مع آدم ، وعلم آدم الأسماء كلها ، وكذلك قول الملائكة ، لاعلم لنا إلا ما علمتنا ، والعلم هنا هي المعرفة القبلية ، هي المعرفة السابقة لأخرجكم من بطون أمهاتكم ، وإلا لتحولت تلك القصة إلى حالة غير معرفية ، إلى حالة مؤقتة ، إلى حالة إحتجاجية مقصودة .
رابعاٌ : رغم إن إبن تيمية قد أبدع في مفهوم الحس ، وأبدع في موضوع الدماغ ، وأبدع في إدراكه لحقيقة المعتقد ، إلا موضوع الخبر ، السمع في الآية الكريمة ، والله أخرجكم من بطون إمهاتكم لاتعلمون شيئاٌ وجعل السمع والإبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ، أضر مفهومه المعرفي لدرجة عميقة . فالخبر في جذوره وتأصيله نوعان ، نوع بشري ، نوع إلهي . والنوع البشري لايفيد إلا الإستئناس ، لإنه خارج سياق المنظومة المعرفية . والنوع الإلهي أي الخبر الإلهي وهو المرام هنا لدى إبن تيمية ، يخلق حالة ذات إشكاليات متفرقة ، من إن إله الكون هو الذي يشهد لنفسه إنه موجود ، من إن إله الكون يزعم إن هناك جنة ونار ، من إنه يقص علينا قصصاٌ مرتبكة ، وسنكتفي بسرد قصة الملك سليمان حسب النص الإلهي لنبين إن الخبر ، وهو هنا الخبر الإلهي ، هو خارج السياق المعرفي : يتفقد الملك سليمان الطيور والحيوانات ، ويلاحظ إن الهدهد غائب ، فيقول لأعذبنه ، وأذبحنه ، أو أن يأتيني بأمرعظيم ، فيأتي الهدهد ويقول لقد أحطت بأمر لم تحط به علماٌ ، إذ رأيت ملكة تحكم قوماٌ ، يسجدون للشمس دون إله الكون ، فيرسل الملك سليمان معه رسالة مضمونها ، ألا تعلون علي وأتوني مسلمين . لن نسرد كل القصة ، إنما نكتفي بالملاحظات التالية : الأولى كيف عرف الهدهد إنهم يسجدون للشمس ، هل يفقه لغة البشر . الثانية هل يفقه الهدهد كل اللهجات في المنطقة ، فلهجة أهل اليمن تختلف عن لهجة الملك سليمان . الثالثة كيف أدرك الهدهد إنهم أغنياء . الرابعة هل من المعقول ان يحرر الملك سليمان ، وهو الحكيم الرزين ، رسالة بجملة واحدة فقط ، ألا تعلون علي وأتوني مسلمين . الخامسة أما الملكة بلقيس ، فإنها تشاور مجلس الحكماء وترسل هدايا إلى الملك سليمان الذي يرفضها ، فهل هذا يناسب عظمة الملك سليمان ورجاحة عقله . السادسة أمن المعقول ان يأمر الملك سليمان بسرقة عرش الملكة بلقيس . السابعة أمن المعقول أن ينوي الزواج منها بهذه السرعة . والثامنة ، والتاسعة ، والعاشرة وأما القصة الحقيقية فهي موجود في إحدى أسفار التكوين ، قبل نزول النص الإلهي ، وهي على الشكل التالي : إن بلقيس ملكة سبأ سمعت بحكمة وعظمة ورجاحة عقل الملك سليمان ، فحبذت أن تزوره لتشاهد حقيقة هذه الأوصاف فيه بنفسها ، وجلبت معها هدايا تناسب مكانته ومكانتها ، فإنبهرت بكل ما رأت ، ورجعت إلى اليمن . وإلى اللقاء في الحلقة الواحدة بعد المائة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي اللهجات.. مقارنة بين الأمثال والأكلات السعودية والسورية


.. أبو عبيدة: قيادة العدو تزج بجنودها في أزقة غزة ليعودوا في نع




.. مسيرة وطنية للتضامن مع فلسطين وضد الحرب الإسرائيلية على غزة


.. تطورات لبنان.. القسام تنعى القائد شرحبيل السيد بعد عملية اغت




.. القسام: ا?طلاق صاروخ ا?رض جو تجاه مروحية الاحتلال في جباليا