الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النمط السوفياتي من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (1)

عبدالله تركماني

2020 / 11 / 12
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


النمط السوفياتي عن بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث
إنّ الدارس اليوم لتطور الاتحاد السوفياتي، منذ الثورة الروسية سنة 1917 إلى تفككه في سنة 1991، لابدَّ أن يلاحظ أنّ النتائج الحقيقية للثورة الروسية، في كثير من المسائل، لم تكن تختلف كثيراً عن النتائج التي حققتها العديد من الدول النامية. ذلك لأنّ روسيا، في أوائل القرن العشرين، كانت بلداً متأخراً. حيث كانت أغلبية السكان من الفلاحين، الجهلة والأميين، الذين يعيشون في عزلة داخل مجموعاتهم القروية، دون أن يكون لهم دور فعّال في العمل السياسي. لذلك، ليس من قبيل الخطأ القول إنّ اللينينية هي محاولة تكييف الماركسية، التي هي بنت أوروبا الصناعية المتقدمة، مع واقع متأخر. ومع أنّ لينين تابع هذا التكييف، في رؤيته النظرية وممارسته العملية، ولكنه لم يكن يدرك، حق الإدراك، أنّ النموذج الماركسي الكلاسيكي لا يمكن أن ينطبق على روسيا. كما لم يكن بوسعه أن يدرك، وهو في معمعان العمل الثوري، بأنّ ثورته إنما هي ثورة مثقفين مالوا للتحديث في بلد متأخر، كما حصل في اليابان مثلاً، أي أنّ ثورته كانت ثورة قومية بالأساس.
إنّ أفضل تفسير للثورة الروسية، يمكننا أن نقدمه اليوم، هو أنها كانت ثورة مثقفين ساندتها مجموعات عمالية وفلاحية ذات وعي سياسي، أو دفعتها الثورة نحو هذا الوعي. ولذك، يبدو أنّ نتائج الثورة لم تكن أكثر من تدمير النظام القيصري، وإدخال التصنيع السريع دون الاعتماد الاقتصادي والسياسي على رأس المال الغربي. وبهذا المقياس، فهي ثورة قومية في بلد متأخر.
لقد خلّفت أتوقراطية القياصرة الروس تركة ثقيلة على كاهل السلطة السوفياتية في مجال العلاقات القومية، فالسياسة الاستعمارية للحكم القيصري أوجدت انشقاقات قومية، وكراهية، ونفوراً متبادلاً بين شعوب روسيا القيصرية. حيث كانت شعوب المستعمرات القديمة تنظر إلى الروس باعتبارهم شعباً مسترِّقاً مضطهِداً.
وفي المقابل، منذ اليوم الأول لانتصار الثورة الروسية، أعلن المؤتمر الثاني لسوفيتات روسيا نداءه " إلى العمال والجنود والفلاحين "، حيث ذكر فيه إنّ السلطة السوفياتية " سوف تعطي لكل الأمم المقيمة في روسيا الحق في تقرير مصيرها " (1). وفي 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 نشرت الحكومة السوفياتية " إعلان حقوق شعوب روسيا "، الذي تبنى المبادىء التالية للسياسة القومية: مساواة وسيادة شعوب روسيا، حق تقرير المصير لشعوب روسيا بما فيه حق الانفصال وتكوين دولة مستقلة، إلغاء كل الامتيازات القومية والدينية، والتطور الحر للأقليات القومية وللمجموعات القبلية التي تسكن أرض روسيا.
إنّ دستور جمهورية روسيا السوفياتية، الذي أُقر يوم 10 يوليو/ تموز 1918، لعب دوراً تاريخياً في بناء الاتحاد السوفياتي، فقد حددت المادة (11) منه: " إنّ سوفياتيي المناطق، أولئك الذين يتميّزون بطريقة حياة خاصة وبتركيبهم القومي، بوسعهم أن يشكّلوا اتحادات محلية مستقلة، يمكن أن تشكّل مؤتمرات محلية لمجالس السوفييت، وهيئاتها التنفيذية. وهذه الاتحادات المحلية المستقلة تشكّل جزءاً من الجمهورية الاشتراكية السوفياتية لروسيا، بوصفها اتحادات فيدرالية " (2).
ومما لا شك فيه أنّ تدخُّل الفرق الأجنبية، التي دفعت ونظّمت وساندت نشاط الثورة المضادة، قد أضعف وأبطأ لبعض الوقت عملية تشكيل الجمهوريات السوفياتية في المناطق الحدودية لروسيا، مما أخّر إنشاء اتحاد الجمهوريات السوفياتية. حيث مرّ بناء الاتحاد السوفياتي بست مراحل: أولها، في الفترة ما بين 1917 - 1921. وثانيها، في الفترة ما بين 1922 - 1939. وثالثها، في الفترة ما بين 1940 - 1953. ورابعها في الفترة ما بين 1954 - 1964. وخامسها، في الفترة ما بين 1964 - 1985، وسادسها المرحلة الاخيرة ما بين 1985 - 1991، حيث انهار الاتحاد السوفياتي وتفكّك.
1 - المرحلة الاولى: مرحلة التدخل الأجنبي والحرب الأهلية (1917 - 1921)
عندما عُقد المؤتمر الثامن للحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي في شهر مارس/آذار 1919، جاء في البرنامج المقر من المؤتمر (3): إنّ الحزب يقترح تنظيماً فيدرالياً للدولة المنظمة وفقاً للنموذج السوفياتي، كإحدى الأشكال المؤقتة من أجل الاتحاد النهائي الكامل. وأُقرت هذه الموضوعة، التي قدمها لينين، ونصها: " إنّ الاتحاد الفيدرالي هو الشكل الانتقالي نحو الوحدة الكاملة لشغيلة مختلف الأمم. وبرهن الاتحاد عن حسناته، إن في علاقات جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية مع الجمهوريات السوفياتية الأخرى، كما في داخل جمهورية روسيا الاتحادية، وأيضا بالنسبة للقوميـات التي لم يكن لها وجود خاص من قبل كدولة او كاستقلال ذاتي " (4).
2 - المرحلة الثانية: مرحلة تشكيل وتوطيد وبناء الاتحاد السوفياتي/ مرحلة الافتراق بين النظرية والتطبيق (1922 - 1939)
طبقا لقرار المؤتمر العاشر للحزب البلشفي، القاضي بضرورة توحيد الجمهوريات السوفياتية في دولة واحدة، شكلت اللجنة المركزية للحزب لجنة خاصة لوضع صيغة مشروع لتوحيد الجمهوريات السوفياتية. وكانت اللجنة برئاسة ستالين، الذي كان يعتبر الخبير الأول في المسألة القومية ومفوض الشعب لشؤون القوميات. وقد تبنت اللجنة " مشروع القرار بصدد علاقات جمهورية روسيا الاشتراكية الاتحادية السوفياتية مع الجمهوريات المستقلة "، الذي أعدّه ستالين. وكان المشروع ينص على أن تنتمي جمهوريات ما وراء القوقاز وأكرانيا وروسيا البيضاء، بوصفها جمهوريات مستقلة ذاتياً، الى روسيا الاتحادية، وكان هذا معناه " ترويس " تلك الجمهوريات، لأنّ أجهزة السلطة والإدارة العليا في جمهورية روسيا كانت ستصبح هي نفسها الأجهزة العليا في الدولة الواحدة المتحدة (5).
وفي يوم 30 ديسمبر/كانون الأول 1922 افتُتح المؤتمر الأول لسوفييتات اتحاد الجمهوريات الاشتراكية، وقد نصَّ قرار المؤتمر حول المسألة القومية بأنه: " عند تشكيل هيئات الاتحاد المركزية يجب تأمين المساواة لحقوق الجمهوريات وواجباتها، سواء في علاقاتها المتبادلة أم في علاقاتها مع السلطة المركزية، ويجب أن يضم جهاز هيئات الاتحاد العليا هيئة تمثيل لكل الجمهوريات القومية دون استثناء، بالاستناد إلى مبدأ المساواة. وأن تُشكَّل هيئات الاتحاد التنفيذية بشكل يضمن المساهمة الفعلية لممثلي الجمهوريات، ويستجيب لحاجات شعوب البلاد، وأن تحصل الجمهوريات على حقوق مالية وموازنات تكون كافية لتؤمّن لها وسائل ممارسة مبادراتها السياسية والإدارية والاقتصادية والثقافية... " (6).
وفي يوم 13 يوليو/تموز 1923، وبعد أن صادقت اللجنة التنفيذية للاتحاد السوفياتي على الدستور، أُعلن عن تشكيل دولة اتحادية سوفياتية واحدة. وفي يوم 31 يناير/كانون الثاني 1924 صادق المؤتمر الثاني لسوفييتات الاتحاد على دستور اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية.
عودة إلى أخطاء ستالين في المسألة القومية:
أملى لينين، وهو على فراش المرض، ثلاث رسائل مشهورة، موجهة ضد ستاليـن وشوفينية الروس – الكبار (7). وقبل أن نعرض تفاصيل هذه الرسائل التي أُنكِر وجودها لحقبة طويلة من الزمن (8)، لابدَّ أن نتعرض لتفاصيل الأحداث التي دفعت به إلى إملائها إبان فترة ميلاد الاتحاد السوفياتي. كان ستالين يحظى، حتى يوم 21 مايو/أيار 1922، بثقة لينين شبه المطلقة، ولا سيما بصدد المسألة القومية. حيث ظل ستالين يشغل منصب مفوض الشعب للقوميات منذ إنشاء هذا المنصب غداة ثورة اكتوبر حتى إلغائه في شهر يوليو/تموز 1923. فماذا حدث في ذلك اليوم؟
حدث أنّ لينين أُصيب بأول نوبة من نوبات الشلل، وانطرحت على بساط البحث مسألة خلافته، على الأقل بالنسبة لستالين. ومن هنا، فقد اتجه إلى انتهاج سياسة خاصة، مركزية بيروقراطية، إذ إنه عن طريقها فقط كان يمكن للظل أن يرغم الآخرين على الاعتراف به على أنه خليفة لينين. بيد أنّ نوبة لينين لم تكن قاضية، وهكذا بدأت سلسلة من الصدامات العلنية بين الرجلين حول جملة من القضايا منها: المسألة القومية وتكوين الاتحاد السوفياتي وخاصة ما يتعلق بالمسألة الجيورجية.
لقد وقف قادة الحزب الشيوعي الجيورجي بزعامة بودو مديفاني، صديق ستالين ورفيق صباه، ضد توحيد جمهوريات ما وراء القوقاز في اتحاد فيدرالي بين دول القوقاز الثلاث. وأصر على انضمام كل جمهورية إلى اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية بشكل مباشر ومستقل.
وتقديراً لظروف جيورجيا القومية المعقدة، وتجنُّباً لاحتمال قيام نزاع في صفوف الجيش الأحمر الحادي عشر، الذي أُرسل إلى جيورجيا وعلى رأسه المفوض السياسي الجيورجي الأصل أورجو نيكدزه، وبين اللجنة الثورية الجيورجية، أرسل لينين رسالة إلى أورجو نيكدزه تتضمن ضرورة إيجاد الصيغ المناسبة وعدم التقيد بالصيغة الروسية التي لا تتفق وظروف جيورجيا: " أرجوك أن تتذكر أنّ شروط جيورجيا، الداخلية والأممية معاً، تقتضي من الشيوعيين الجيورجيين لا أن يطبّقوا الصيغ الروسية، بل أن يبدعوا ، بمهارة ومرونة، تكتيكاً أصيلاً " (9).

الهوامش
1 - لينين، فلاديميير إيليتش: المؤلفات الكاملة، المجلد (26)، ص 253.
2 - غروشيف، إيفان: المسألة القومية في الاتحاد السوفياتي، تعريب: فارس غصوب، الطبعة الأولى – بيروت، دار الفارابي 1973، ص 49.
وسوف نلاحظ أنّ هذه المادة قد ذهبت أدراج الرياح في الحقبة الستالينية.
3 ـ أثناء المناقشات بصدد إقرار مشروع البرنامج الجديد وقف بوخارين يعارض إدراج شعار " حق تقرير المصير " ويتساءل عن حاجة البلاشفة إليه ويقترح، كبديل عنه شعار " حق العمال في تقرير مصيرهم بأنفسهم ". وأيضاً عاد بياتاكوف إلى ترديد حججه ضد شعار حق تقرير المصير، مركّزاً على ضرورة الوحدة السياسية والاقتصادية لشعوب ما سيسمى في المستقبل بـ " اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية "، وملوِّحاً بخطر الانفصال والتجزئة الذي يمكن أن ينجم عنه الاعتراف لتلك الشعوب بحقها في تقرير مصيرها، ومؤكِّداً أنّ وجود لجنة مركزية " ممتازة " في موسكو تحسن تدبير الأمور وينصاع لها البلاشفة من شتى القوميات يغني عن مطلب حق تقرير المصير لتلك القوميات!!
4 - لينين، فلاديميير إيليتش: المؤلفات الكاملة، المجلد (26)، ص 148.
5- طرابيشي، جورج: الماركسية والمسألة القومية، الطبعة الأولى – بيروت، دار الآداب 1969، ص 312.
6 ـ غروشيف، إيفان: المسألة القومية...، المرجع السابق، ص 68.
7 - تابعنا الرسالة/الوصية في المراجع التالية:
- طرابيشي، جورج: الماركسية والمسألة...، المرجع السابق، ص ص 313 - 333.
- مرقص، إلياس: الماركسية في عصرنا، الطبعة الثانية - بيروت، دار الطليعة 1969، ص ص 307 - 311.
- د. إلياس، إدوار: (جذور القضية القومية في الاتحاد السوفياتي) - عن صحيفة الاتحاد (صحيفة الحزب الشيوعي الإسرائيلي)، فلسطين - حيفا، 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1989.
8- كان تروتسكي هو الوحيد الذي أشار الى وجود هذه الرسائل الثلاث التي نفى المؤرخون السوفييت وجودها. وقد نشرت بعد وصول خروتشوف الى السلطة في المجلد (54) من الطبعة الروسية الخامسة لمؤلفات لينين الكاملة.
9 - لينين، فلاديمير إليتش: المؤلفات الكاملة، المجلد (32)، ص 167.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تاريخ الاتحاد السوفياتي
سعيد زارا ( 2020 / 11 / 12 - 10:24 )
السيد عبد الله تركماني تحية

من العيب و العار بل انه التضليل ان تقزم نهضة دولة العمال و ما صنعته من معجزات الى ما حققته البلدان النامية. لولا الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين الذي طبق المشروع اللينيني الذي كان يحيا بروح الماركسية لما حققت الدول النامية ما حققته . اذكرك فقط بالانتصار على النازية الذي ينسف كل طرحك ، العالم الراسمالي المتقدم بمستعمراته لم يستطع دحر النازية ، فلولا قوى التقدم الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين لكان مصير البشرية يرزح تحت عبودية الرايخ الثالث.

ارجع الى المخطط الخماسي الاول لسنة 1953 للصين الشعبية ،التي فاقت امريكا الان في الانتاج، ستجد ان القواعد الاولى للتصنيع رفعت بمساعدة كبيرة من الاتحاد السوفياتي

اما علكة لينين مغامر و كيف الماركسية في بلد ماخر و معاداة ستالين هي فاسدة و هي نفسها علكة معاداة الماركسية الاصيلة.

تحياتي


2 - تعليق رقم 1 عار على العقل والوقائع وهو ضلال فيضلال
الدكتور صادق الكحلاوي ( 2020 / 11 / 13 - 04:34 )
مع الرجاء من الكاتب المحترم ان لايعير اهتمام لجماعة القوانه المشروخه المعروفه من ذيول الستالينية المقيته-مع تقييمي العالي لتقييمك العلمي التاريخي الاقتصادي الاجتماعي للثورة الروسيه المعادية للاستبداد القيصري وللتخلف البشع لروسية حينئذ ونسبيا حتى الان-تحياتي


3 - الاتحاد السوفيتي دولة امبراطورية امبريالية
منير كريم ( 2020 / 11 / 13 - 18:28 )
السيد عبد الله تركماني
لم يبن البلاشفة دولة قومية بل كونوا من روسيا القيصرية وملحقاتها دولة امبراطورية امبريالية انهارت وتفككت بعد سبعين عاما وظهرت بعدئذ الدولة الروسية القومية
ليس صحيحا ان روسيا كانت متخلفة وجائعة وفلاحية بل كانت في روسيا مراكز صناعية متقدمة وزراعة جيدة ومؤسسات ديمقراطية وتعددية بعد ثورة فبراير الديمقراطية
كان البلاشفة اقلية في البرلمان قبل ان ينقلبوا على الشرعية في اكتوبر ويلغوا فيما بعد البرلمان ويقيموا نظاما شموليا ارهبيا مرعبا استعباديا
لقد سبقت دول متخلفة ككوريا وتايون الدول الاشتراكية في عملية التطور والان انظر الى الاقتصاد الروسي , تصدير اسلحة ومواد خام
لو قدر لثورة فبراير الديمقراطية النجاح لبنيت روسيا على اسس ديمقراطية وتطورت افضل
بكثير مما حل بها من مجاعات وكوارث لكن الدول الاستعمارية الكبرى انذاك والصهيونية
سعت لتدمير روسيا القيصرية
تحياتي

اخر الافلام

.. هجوم خاركيف.. الجيش الروسي يسيطر على 6 بلدات ويأسر 34 عسكريا


.. حضور للعلم الفلسطيني والكوفية في حفل تخرج جامعة أمريكية




.. مراسل الجزيرة يرصد آثار الغارات الإسرائيلية على مناطق وسط قط


.. كتائب القسام تقصف قوات إسرائيلية بقذائف الهاون بمعارك حي الز




.. انفجار ودمار في منطقة الزيتون بمدينة غزة عقب استهداف مبان سك