الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
صيرورة الإنسان العاقل (منعرجات تطور الجنس البشري)
مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب
(Mousab Kassem Azzawi)
2020 / 11 / 15
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
مقدمة كتاب
صيرورة الإنسان العاقل
Homo sapiens
منعرجات تطور الجنس البشري
إعداد وتقديم: د. مصعب قاسم عزاوي
تعريب: فريق دار الأكاديمية
الطبعة الثانية 2020
صادر عن دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن
قد يكون موضوع التطور البيولوجي للبشر كجنس حيواني يتربع على عرش مملكة الكائنات الحية، أحد أكثر المواضيع خلافية منذ نشر كتاب تشارلز داروين لكتابه الاستثنائي «بصدد أصل الأنواع عبر الاصطفاء الطبيعي»، الصادر في العام 1859، والذي شكَّل قفزة علمية استثنائية غير مسبوقة في تجاوز النظريات السالفة له، وخاصة تلك الدينية منها التي تعزو كينونة بني البشر ونهوضهم الجمعي إلى مرحلة ما بعد الطوفان التي وردت في الأساطير السومرية، والأكادية والبابلية من بعدها، وانتقلت منها إلى كتب الديانات السماوية. وكانت الكنيسة المسيحية بصورتها الأوربية المتزمتة الأكثر صدمة باكتشافات داروين العلمية التي أسقطت كل افتراضاتها عن تاريخ بني البشر و خاصة فيما يرتبط بالاعتقاد بخليقتهم بيد المقدس في السماء منذ بضعة آلاف من السنين، لتظهرهم كائنات حيوانية ذات صيرورة تطورية مغرقة في القدم، يعود فيها البشر إلى أسلاف لهم يشتركون بها مع القرود من فصيلة الأوليات، بحيث يمكن اعتبار أولئك الأخيرين أبناء عمومة بني البشر الذين افترقوا عنهم في غابر الأزمان، وهو ما تكشف علمياً بالدراسات الأحفورية والتشريحية المقارنة الفيزيائية التي تعتمد التأريخ بناء على مستوى تنكس القدرة الإشعاعية للكربون 14 في أجسام الكائنات الحية بعد موتها، بالتوازي مع دراسات مورثية معمقة تعتمد على استخراج الحمض النووي DNA من خلايا بقايا عظام الكائنات الحية البائدة لدراسة وتعقب معدل اختلافها عن ذلك القائم في أجساد بني البشر المعاصرين وغيرهم من الكائنات الحية والتي تم اكتمال رسم خارطتهم المورثية في العام 2003؛ وهو ما تكلل بشبه إجماع علمي على أن تاريخ تطور الجنس البشري من فصيلة Hominin يعود إلى أقدم الأفراد المنتسبين إليها من نمط Australopithecus afarensis في حقبة زمنية غابرة عمرها ما يقارب السبعة ملايين من السنين، وهو السليف الذي تطور في منطقة شرق أفريقيا ومنها يعود إليه اسمه الذي ينتسب فيه إلى صحراء عفار في إثيوبيا الحالية. وهو نوع أسلاف البشر الذي تلاه أنماط متعددة من جنس بني البشر من قبيل إنسان هابيلس أو هابيل Homo habilis والذي يدعى أيضاً الإنسان الحاذق، وتلاه بعد ذلك نوع الإنسان المنتصب Homo erectus، ومن بعده إنسان نياندرتاليس Homo neanderthalensis ليصل أخيراً إلى الإنسان العاقل Homo sapiens والذي ينتسب إليه جميع أبناء الجنس البشري الذين يجوبون أرجاء المعمورة راهناً.
ولا بد من الاعتراف بفضل ذلك النسق العلمي الأخير في النظر إلى كينونة الإنسان وأصلها البيولوجي التطوري المغرق في القدم، لإعادة التوازن الشاذ في علاقة بني البشر مع أقرانهم من الكائنات الحية القائم على الوحشية المنفلتة من كل عقال أخلاقي أو منطقي المتمثل في النظر إلى أن كل الكائنات الحية الأخرى مسخرة لخدمة ذلك الإنسان بشكل يتفق مع رؤيته للكيفية التي لا بد أن تعمل بها الطبيعة وكل من قدر له أن يكون جزءاً عضوياً أو بيولوجياً منها لخدمته، بينما هو الإنسان نفسه في الواقع ناتج بيولوجي صرف لصيرورة التطور والاصطفاء الطبيعي الممتدة على بضعة ملايين من السنين، ولما تتوقف بعد، ولن تصدأ عجلتها أيضاً في قابل الأيام، وأن كل الكائنات الحية البائدة فيها، و تلك التي تحتضر قاب قوسين أو أدنى من الانقراض بسبب عسف بني البشر، وغيرها من تلك التي لم تسلم شرورهم بشكل مباشر أو غيره، أسلاف بالمعنى البيولوجي المحض لبني البشر، ويستقيم النظر إليهم أجداداً وأبناء عمومة في جميع الأحوال ودون أي استثناء من تلك القاعدة البيولوجية الصالحة لكل زمان ومكان. والمثال الصارخ على ذلك هو التطابق المورثي بين أي إنسان على وجه البسيطة وأي من قردة الشمبانزي بمعدل يصل إلى 98%، ومع القطط بمعدل 90%، ومع الأبقار بنسبة 80%، ومع الفئران بنسبة 85%، ومع ذبابة الفواكه بنسبة 60%، ومع الدجاج بنسبة 60%، ومع فواكه الموز بمعدل 60%، حيث أن الكائنات الحية جميعها تعود في أصلها التطوري إلى جذر واحد عمره حوالي 80 مليون سنة بحسب كشوفات علم التطور المورثي الحديث.
وقد يكون الموضوع الأكثر طرافة وحساسية في آن معاً هو الحقيقة الناصعة بالتطابق المورثي بين أي اثنين من أبناء الجنس البشري الراهنين بنسبة تقارب 99.9%، وأن معدل الاختلافات بين إجمالي تعدد الأنماط المورثية في مجموعة بشرية معينة مهما كانت معزولة في أي بقعة من وجه البسيطة، وهو الحاصل الذي يمكن الوصول إليه حسابياً عبر جمع كل الأنماط الوراثية الفردية في مجموعة بشرية، يكاد يطابق بشكل مطلق إجمالي معدل تعدد الأنماط المورثية في أي مجموعة بشرية أخرى مهما كانت بعيدة جغرافياً عن أي مجموعة أخرى. وهو نسق يعيد كل عاقل حصيف فعلياً إلى ذلك النهج الأخلاقي والموضوعي والعلمي في آن معاً لاعتبار كل بني البشر أخوات وإخوة من الناحية المورثية كحد أدنى، وهو ما يتفق مع الكشوفات الأحفورية والأنثروبولوجية التي ترجع جميع بني البشر الراهنين إلى عدد لا يتجاوز بضع مئات من الأسلاف عاشوا في شرق القارة الأفريقية خلال العصر الجليدي الأخير منذ حوالي 70000 سنة تقريباً.
وإن العنصر الأساسي الناظم في عملية تطور الأجناس والكائنات الحية هو الطفرات المورثية التي تحدث بشكل عفوي خلال عملية الإلقاح وتشكل الأجنّة، وتؤدي إلى تغيرات معينة في الشيفرة الوراثية للجنين تنتج لاحقاً تغيرات بنيوية أو وظيفية في جسده تدعى علمياً التغايرات في النمط الظاهري للكائن الحي. وهي التي سوف يتم اصطفاؤها طبيعياً بعد ذلك وفق قانونية الاحتفاظ بالطفرات العفوية الحدوث وما ينتج عنها من تغيرات في النمط الظاهري للكائن الحي إن كانت تؤدي إلى زيادة فرصه في التكيف الفاعل بشكل أكثر كفاءة مع الشروط البيئية والحيوية المحيطة به، وبالتالي زيادة فرصه في البقاء على قيد الحياة، وبالتالي التزاوج وإنجاب ذرية من بعده تمثل الحامل لمورثاته التي أثبتت كفاءة أكثر في التكيف مع متطلبات المحيط البيئي والحيوي. وكمثال على الطفرات العفوية الإيجابية يمكن الإشارة إلى مورثة FOXP2¬ التي تختلف في بنيتها عند البشر عن تلك الموجودة في أبناء عمومتهم من الأوليات من قردة البانوبو والشمبانزي وغوريلا الجبال والسعلاة Orangutan ببعض المتتاليات الزائدة التكرار في نهايتها فقط. وذلك التغاير الطفيف عينه هو الذي أنتج قدرة الإنسان على التصويت والحديث والفهم والكلام، بشكل لا يقدر عليه أبناء العمومة أولئك.
وبالقياس على نسق الطفرات العفوية الإيجابية يمكن الإشارة إلى الطفرات العفوية السلبية التي تؤدي في غالب الأحيان إلى إجهاضات أو إملاصات عند الأم الحامل، أو في حال تمكن الجنين من الحياة، فإن الصعوبات التكيفية التي سوف يعاني منها مع الشروط البيئية والحيوية التي يعيش ضمنها سوف تجعل من استمرار حياته إلى مرحلة التزاوج والإنجاب صعبة، وهو ما سوف يؤدي موضوعياً إلى استئصال تلك الطفرات العفوية السلبية من الحوض المورثي للجماعة التي ينتسب إليها ذلك الكائن الحي، وهو ما يعني عملياً بأن مركبة التطور تتم باتجاه إيجابي دائماً يسعى لزيادة تكيف الكائنات الحية مع شروطها البيئية والحيوية، وهو التطور الذي يؤدي مع تراكم التغيرات العفوية الإيجابية إلى تخليق أجناس حيوانية جديدة دون أن يغير ذلك من حقيقة انتسابها إلى أصل بيولوجي واحد.
وقد يكون المرتكز العلمي الأكثر رهافة وأهمية في آلية الاصطفاء الطبيعي هو عدم الحاجة إلى زمن طويل للتعبير عن طفرة إيجابية ما مكنت حاملها من التكيف بشكل أكثر كفاءة مع شروط محيطه الحيوي والبيئي، وزادت من فرصه في البقاء على قيد الحياة، وبالتالي التزاوج، وإنجاب ذرية من بعده، لا بد أن ينقل إلى نصفهم حتماً - ما لم تكن الطفرة واقعة على الصبغي الجنسي الذكري -Y سواءً كانوا من الذكور أو الإناث نفس الطفرة العفوية الإيجابية التي تحلى بها، و هي التي سوف تعزز من فرصهم للبقاء على قيد الحياة والتكيف مع محيطهم البيئي و الحيوي في حال عدم تغير الشروط البيئية والحيوية بين زمن الآباء وزمن الأبناء، وهي التي سوف تعبر بيولوجياً منهم إلى ذريتهم بشكل يؤدي في نهاية المطاف إلى شيوع تلك الصفة الإيجابية في عموم المجموعة البشرية التي ينتسب إليها ذلك الفرد الذي حدثت الطفرة العفوية الإيجابية في بنيته الوراثية أثناء تخلقه ككائن حي، وذلك من خلال الميزة التفاضلية التي تمتع بها ومن بعده ذريته ومكنتهم من التكيف بشكل أكثر كفاءة مع محيطهم البيئي والحيوي، والبقاء فترة أطول على قيد الحياة، وبالتالي زيادة فرصهم في التزاوج وإنجاب ذرية من بعدهم، وهي ميزة تفاضلية لم يتمتع بها أقرانهم في المجموعة البشرية التي ينتسبون إليها، والذين لم يكونوا من حاملي تلك الطفرة المورثية الإيجابية، وما تنتجه من أنماط ظاهرية في حاملها سواء على المستوى البنيوي أو الوظيفي في أعضاء أجسامهم المختلفة الهيكلية والحركية الاستقلابية والدماغية كما هو الحال في مورثة FOXP¬2 السالفة الذكر، وهو ما سوف يؤدي إلى تناقص مضطرد في أعداد أولئك الأفراد من غير حاملي تلك الطفرة العفوية الإيجابية بعد أن أصبحت مورثة شائعة في الحوض المورثي للمجموعة البشرية التي ينتسب إليها الفرد الأول الذي حدثت في جسده تلك الطفرة العفوية وأصبحت صفة عمومية في أفراد تلك المجموعة بعد عدة أجيال. وهو ما سوف يؤدي في المآل الأخير بعد تراكم عملية التناقص المضطرد لأعداد الأفراد الذين لم يتحلوا بتلك الصفة المورثية الإيجابية التي أصبحت عمومية، إلى انقراض عملي لأولئك الأفراد الذين لم يتحلوا بتلك الصفة المورثية الإيجابية، لعدم قدرتهم على مجاراة المستوى الأعلى من التكيف الذي يتمتع به حاملو تلك الصفة العمومية الإيجابية، وهو ما يعني اندثار مورثاتهم من الحوض المورثي للمجموعة البشرية التي ينتسبون إليها بعد عدد من الأجيال قد يزيد أو ينقص حسب درجة الميزة التفاضلية التي قدمتها تلك الطفرة العفوية أو تلك، فكلما كان مستوى مساهمة تلك الطفرة العفوية أكثر وأكبر في زيادة فرص التكيف والبقاء على قيد الحياة لذرية حامل تلك الطفرة كلما كان عدد الأجيال المطلوبة لتتحول تلك الطفرة العفوية إلى صفة عمومية شاملة في الحوض المورثي للجماعة البشرية أقل، وسرعة انقراض الأفراد غير الحاملين لتلك الصفة من نفس الحوض المورثي أكبر وأكثر حدة.
والمثال النموذجي على ذلك الفهم العلمي الذي لا بد منه لكيفية حدوث التطور في الأجناس الحية عبر آليات الاصطفاء الطبيعي، هو بالنظر إلى لون بشرة بني البشر، الذي يرتبط عضوياً بدرجة قدرتهم على امتصاص الأشعة فوق البنفسجية من ضوء الشمس لتركيب فيتامين D، الذي عوزه يؤدي إلى كسور عفوية في العظام يصعب التئامها، وهو ما يعني صعوبة الحصول على الطعام للمصاب بها، وبالتالي احتمالاً كبيراً لاندثاره البيولوجي، وهو ما يفسر الحقيقة العلمية بأن سكان المناطق المشمسة حول منطقة خط الاستواء يتمتعون ببشرة داكنة، والتي تنسجم مع حقيقة أن البشرة الداكنة تمتص بشكل أقل الأشعة فوق البنفسجية، نظراً لوفرة ضوء الشمس بكميات فائضة تكفي لتركيب حاجة الجسم من فيتامين D، بالإضافة إلى ميزة تفاضلية تقدمها البشرة الداكنة للمتحلي بها، ألا وهي حمايته من شر زيادة احتمالات حدوث سرطانات الجلد بكافة أشكالها وخاصة تلك من نوع الميلانوما Melanoma والتي تحدث جراء زيادة امتصاص الجلد للأشعة فوق البنفسجية نفسها التي لا بد من التعرض إلى درجة محدودة منها ليقوم الجلد بتصنيع فيتامين D الضروري.
وهو ما يعني بأن البشرة الداكنة صفة مورثية إيجابية تمكن حاملها الذي يعيش في المناطق المشمسة الأقرب لخط الاستواء من تحقيق ميزة تفاضلية على أقرانه من ذوي البشرة الفاتحة نظراً لتمكنه من الحصول على احتياجاته من فيتامين D بشكل ملائم، بالإضافة لحماية نفسه من وبال سرطانات الجلد القاتلة التي تكاد معدلات حدوثها عند البشر ذوي البشرة الداكنة أن تكون شبه صفرية. وذلك الفهم الأخير للميزة التفاضلية لتحلي بني البشر في شرق القارة الأفريقية مهد بني البشر الحاليين ببشرة داكنة يمكن سحبه على آلية الاصطفاء الطبيعي التي أدت ببني البشر لاكتساب بشرة فاتحة شاحبة حينما بدأ البشر منذ حوالي 70000 سنة خلال العصر الجليدي الأخير بالتحرك من القارة الإفريقية شمالاً عبر وادي النيل وشبه جزيرة سيناء ومنها إلى بلاد الأناضول ومنها إلى عموم أرجاء القارة الأوربية بحثاً عن مصادر الطعام الشحيحة إبان العصر الجليدي الأخير، في رحلة تمحورت حول السير في كل المسارب التي قد تمكن البشر من صيد الحيوانات البرية الكبيرة الحجم والتي تضاءلت أعدادها بسبب الإفراط في صيدها من قِبَلِ البشر الذين بدأت أعدادهم بالتزايد، و هي الحيوانات التي كان لا بد من السعي بحثاً عنها ليس فقط للحاجة إلى لحمها، بل إلى جلودها لاستخدامها لكساء أجساد بني البشر الذين لا يمتلكون فراءً تحميهم عسف برد العصر الجليدي الأخير القارس حتى في القارة الأفريقية نفسها. وهو التحرك المكاني المضطرد الذي أنتج تغيراً في الظروف البيئية التي كانت البشرة الداكنة تمثل تكيفياً مثالياً معها، إذ أنها أصبحت سمة ذات تأثير سلبي على قدرات حاملها في التكيف مع الظروف البيئية الجديدة في الأماكن الجغرافية التي حل بها بعيداً عن خط الاستواء، التي كان من ضمنها تناقص مضطرد في معدلات وفرة أشعة الشمس بشكل يتناسب طرداً مع بعد المكان الجغرافي الذي وصل إليه البشر المرتحلون بحثاً عن طرائدهم عن خط الاستواء، وهو ما يعني من الناحية البيولوجية صعوبة حصول ذوي البشرة الداكنة من البشر المهاجرين الأوائل على كمية كافية من فيتامين D للحفاظ على أجسادهم من وبال الكسور العفوية، وهو ما أفسح فرصة للأشخاص الذين تحدث لديهم طفرات عفوية ينتج عنها شحوب أو ابيضاض بشرتهم في التكيف أكثر مع الشروط البيئية الجديدة؛ إذ أن البشرة البيضاء أكثر قدرة وكفاءة على امتصاص الأشعة فوق البنفسجية، وبالتالي تصنيع فيتامين D، والبقاء على قيد الحياة لإنجاب ذرية تخلفهم من بعدهم يحمل نصفها بالحد الأدنى مورثات بشرتهم الشاحبة، لتصبح صفة غالبة بشكل شبه مطلق بعد عدة أجيال لابد أن تغيب فيها مورثات أولئك ذوي البشرة الداكنة التي أصبحت سمة سلبية تعيق فرصهم في البقاء على قيد الحياة وإنجاب ذرية من بعدهم تحمل مورثاتهم في الشروط البيئية الجديدة التي حلوا بها. وذلك التوصيف العلمي يتسق مع ذلك التدرج في مستوى شحوب بشرة بني البشر بحسب ابتعاد البقعة الجغرافية التي عاش فيها أسلافهم على عدة أجيال عن خط الاستواء، ويتسق أيضاً مع المعرفة العلمية الثابتة بحسب كشوفات علم المورثات الأحفوري الحديثة عن أن سكان غرب القارة الأوروبية وخاصة البقعة الجغرافية التي تعرف ببريطانيا حالياً كانوا من ذوي البشرة الداكنة قبل حوالي عشرة آلاف عام، وتحولوا بقوة الاصطفاء الطبيعي إلى بشر ببشرة بيضاء كما هو الحال راهناً.
وهو التوصيف الذي ينسجم أيضاً مع المعرفة العلمية الثابتة بأن جميع بني البشر ذوي العيون الزرقاء ينتسبون إلى فرد إنساني واحد، حصلت لديه طفرة وراثية أدت إلى تحليه بمستوى أقل من الميلانين في جسده، وهو ما أدى بالنتيجة إلى ازرقاق قزحيته، وابيضاض جلده، ومكنت سلالته من التكيف أكثر مع شروط قلة الوارد من أشعة الشمس في شمال القارة الأوروبية، حيث غالبية البشر ذوي العيون الزرقاء.
وذلك النسق من الفهم لآليات تطور الأجناس الحية والاصطفاء الطبيعي، مقدمة ضرورية لا بد منها لفهم صيرورة حلول بني البشر الحاليين من نوع الإنسان العاقل Homo sapiens محل أسلافهم من أنواع البشر التي سبقتهم، والتي لم تكن عملية فجائية، وإنها عملية تدريجية كان جوهرها تلاقي واختلاط البشر خلال عملية انتقالهم وترحالهم في أرجاء البسيطة، كان ناتجها الأساسي هو حلول الأنماط البشرية الأكثر تكيفاً مع متطلبات شروطها البيئية والحيوية، والتي تمثلت أساساً في أولئك البشر الذين تمتعوا بأدمغة أكبر من الناحية الحجمية، وهو ما يتفق مع صيرورة نمو أدمغة بني البشر على امتداد سبعة ملايين من السنين من حوالي 300 سنتيميتر مكعب في أسلاف البشر الأوائل إلى حوال 1450 سنتيميتر مكعب في البشر الحاليين، بالإضافة إلى الميزة التفاضلية الاستثنائية للطفرة المورثية التي حدثت في مورثة FOXP2 في تاريخ يعود لحوالي مائتي ألف عام مضت، وهو عمر بني البشر المعاصرين من نوع الإنسان العاقل Homo sapiens، فاكتسبت فيه تلك المورثة بفعل طفرة عفوية فيها بعض المتتاليات الإضافية فيها، أدت إلى تغير طبيعة البروتينات والوظائف التي تنتج عن عمل تلك المورثة، وهو ما أدى إلى تمكين البشر من التصويت بالشكل الفائق الذي يستطيع البشر الإتيان به راهناً، بدل التواصل عبر طرق أخرى أقل دقة في توصيل المراد منها سواء كانت دمدمة أو همهمة أو صراخاً أو حتى إيماءات حركية ولغة جسد تعبيرية لا زالت تمثل جزءاً مهماً من أدوات تواصل البشر الضمني غير الصريح فيما بينهم.
وتلك القدرة الرفيعة على التصويت كانت المقدمة الضرورية لنشوء اللغات، وزيادة قدرة البشر على التنسيق والتخطيط فيما بينهم، وزادت من قدرتهم الجمعية على الحفاظ على حياة المجموعات البشرية التي ينتسبون إليها، والتي كانت في معظمها وحتى نهاية العصر الجليدي الأخير منذ حوالي اثني عشر ألف عام، مجموعات صغيرة لا يتجاوز عدد أفرادها المائة وخمسين شخصاً، هم فعلياً أسرة موسعة تنظمها قرابة الدم والرحم الحقيقية فيما بينهم.
وهي اللغة، وزيادة حجم دماغ بني البشر الحاليين من نوع الإنسان العاقل ما مكن البشر المعاصرين من نوع الإنسان العاقل Homo sapiens من الحلول محل أسلافهم من أنواع البشر الأخرى سواء عبر الاستيلاء على مصادر قوتهم، بالاستناد إلى قدراتهم الأعلى في التخطيط والتنسيق والتعاون باستخدام اللغة، أو عبر التزاوج معهم، الذي أدى إلى تقهقر مورثات كل الأنواع البائدة من البشر التي لم تتحلى بالميزات التفاضلية الاستثنائية التي تمتع بها بنو البشر من نوع الإنسان العاقل وأهمها القدرة على الكلام وما يستتبعها من قدرات للتواصل اللغوي، والتواصل والتنسيق والتخطيط الجمعي، والتفكير والتحليل، إذ أن اللغة هي وسيط للتفكير أساساً أكثر من كونها وسيلة محضة للتواصل بين البشر، وهو ما أنتج ما يمكن النظر إليه من القدرة الفائقة للبشر المعاصرين على التفكر والاستنباط والإبداع والعمل الجمعي المشترك الذي مكنهم في المآل الأخير من التربع على عرش مملكة الحيوانات، وصولاً إلى تحوير كوكب الأرض إلى درجة أصبح فيه علماء الجيولوجيا الأرضين يدعون الحقبة الجيولوجية لكوكب الأرض راهناً بعصر الإنسان Anthropocene.
وقد يكون الاستنتاج الأكثر إلحاحية بعد تفهم واستبطان جوهر آلية عمل الاصطفاء الطبيعي في تطور الأجناس الحية هو التهاوي والسقوط الكلياني لكل النظريات والتصورات العنصرية التي لا أساس علمياً لها في تقسيم بني البشر على أساس عرقي هرائي بالاستناد إلى لون بشرتهم، والذي هو في الواقع صفة تطورية تكيفية لغرض تلبية احتياجات البشر من فيتامين D بحسب موقع تواجدهم الجغرافي وبعده عند خط الاستواء وبالتالي وفرة أشعة الشمس على خط العرض الذي يقع عليه حسبما أشرنا إليه آنفاً، وأن تغاير لون بشرة بني البشر المعاصرين في عموم أرجاء المعمورة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً لا يغير من حقيقة كونهم سلالة مجموعة بشرية سكنت شرق القارة الأفريقية منذ حوالي مائتي ألف عام، تراكمت بين أفرادها طفرة حصلت بشكل عفوي في صبغيات أحد أفرادها، و من ثم أصبحت صفة عمومية في كل المنتسبين إليها بعد عدة أجيال نظراً لما قدمته للحاملين لها من مزايا تفاضلية تكيفية على أقرانهم، تمثلت أساساً بالقدرة على التصويت والكلام وتخليق اللغة والأفكار، وهي التي كانت المقدمة لنهوض بني البشر من نوع الإنسان العاقل Homo sapiens ليصبحوا بقوة الاصطفاء الطبيعي الجنس البشري الوحيد الذي يسكن كوكب الأرض راهناً، وهو ما يؤكده علم المورثات الحديث الذي يؤكد أن نسبة التطابق الوراثي بين أي شخصين من البشر من أي موقعين جغرافيين من كوكب الأرض هو 99.9%، وأن نسبة الاختلاف الواهية تلك لا يمكن أن تستقيم مع أي تصنيف عرقي أو عنصري لتناقضها مع الحقيقة بأن البشر جميعهم من الناحية الوراثية متطابقون كما لو أنهم إخوة بالفعل. وهو ما يعني أن معدل الاختلاف بنسبة واحد بالألف من الناحية المورثية بين بني البشر كان تبايناً مورثياً طفيفاً لا بد منه ليكون هناك شخصية مستقلة لكل إنسان تمكنه من التعرف على كل فرد من أعضاء مجموعته البشرية بكيانه العياني المشخص ملامحاً وسلوكاً وطريقة تفكير، وهو ما يعزز من فرص التفاعل والتواصل فيما بينهم أفراداً متمايزين لكل منهم شخصيته الخاصة ومزاياها الفريدة، والتي لكل منها فائدة لا يستغنى عنها في حماية استمرار عيوشية المجموعة البشرية التي ينتسب إليها أولئك البشر. فكل مجموعة بشرية كانت بحاجة إلى جسورين، ومتعقلين، وصبورين، وحتى مترددين، ومتكاسلين ليكونوا مثالاً لغيرهم لعدم السعي في طريقهم. وذلك الفهم الأخير لا بد منه ليس فقط لإسقاط وتهشيم الفكر العنصري الهرائي التلفيقي الذي لا يستند إلى أي حقيقة علمية، وإنما لأجل إسقاط ذلك النموذج البائس من الداروينية الاجتماعية Social Darwinism، والتي كانت نهجاً فكرياً يستند إلى فهم سطحي وانتقائي وخبيث ينافي جوهر نظرية داروين عن التطور والاصطفاء الطبيعي، متكئاً على تخرصات ليست من جوهر فكر داروين نفسه ليصل من خلالها تلفيقياً إلى أن الاستعمار بشكله الاستيطاني الإمبريالي المتوحش حالة من طبائع التطور الذي البقاء فيه للأصلح منظوراً إليه هنا بشكل عرقي بغيض يعرف الأصلح فيه بأنه المنتسب إلى عصبة ذوي البشرة البيضاء، الذي لا بد لهم من تسريع اندثار أولئك غير المتمتعين بتلك الصفة التفاضلية الخلبية أي شحوب البشرة؛ إذ أن ذلك وفق منطق الإمبريالية المتوحشة حركية تتسق مع نظرية التطور والاصطفاء الطبيعي، وهي في الواقع براء مطلق منهم ومن زعمهم الخبيث اللئيم الذي ما فتئت تفنده كل كشوفات علم التطور المورثي بالشكل الذي أشرنا إليه آنفاً. والحقيقة العلمية الثابتة هو أن معدلات التباين المورثي بين أي شخصين من بني البشر هو أقل مستويات التباين المورثي بين أفراد أي نوع من الأنواع الحية الأخرى التي لا بد من اختلافات طفيفة في بناها الوراثية لتتكيف كل مجموعة منها مع شروطها البيئية والحيوية، وهو ما أنتج في جنس الخيول على سبيل المثال أحصنة ضخمة، وأخرى ضئيلة ناحلة، أو ممشوقة كالأفراس العربية، أو كثيفة الشعر كما في الأحصنة في شمال الكرة الأرضية تكيفاً مع مناخها القارس، دون أن يستقيم النظر إلى أي منها حميراً نظراً للتباعد المورثي الكبير بين النوعين الذي حصل بعد افتراقهما عن سليف مشترك قبل بضعة ملايين من السنين، وهو التباعد الذي يمنع تزاوج النوعين بشكل يؤدي إلى ذرية غير عقيمة، قادرة على نقل مورثاتها من بعدها إلى ذرية تخلفها. وذلك التوصيف التبسيطي ضروري ولا بد منه لأجل سحبه على بني البشر الذين تقاربهم المورثي الأعلى بين جل الكائنات الحية يمكنهم من التزاوج الناجح بين أي ذكر وأنثى منهم بغض النظر عن أي سمات عرقية خلبية هرائية من تدليسات الفكر العنصري السقيم، وإنجاب ذرية خصبة تخلفهم من بعدهم تستطيع نقل مورثاتهم إلى الأجيال اللاحقة وفق نسق عياني مشخص يفقأ عين كل من يحاول أن يناكد الحقائق العلمية ويصنف البشر عرقياً إلى أجناس وأنواع دون الاتكاء على أي سند علمي حقيقي.
ويجدر الاستطراد في هذا النسق بأن الكشوفات الطبية تشير بشكل لا يقبل الدحض بأن تزاوج أي ذكر وأنثى من مجموعات بشرية متباعدة يسميها العنصريون أعراقاً ينتج ذرية أقل تعرضاً للأمراض الوراثية بكل أشكالها، وأكثر في معدلات قدراتها العقلية والإبداعية والتحليلية والاستنباطية أو بما يعرف تكثيفاً بمعدل الذكاء العام، إذ أن تلك الذرية سوف تكون حاملاً للميزات التكيفية التفاضلية التي تم مراكمتها في مجموعتين بشريتين متباعدتين، وهو ما يجعلها أكثر تميزاً وليس سوى ذلك.
والاستنتاج الثاني الذي لا بد منه في نسق أي استبطان متعقل لنهج التطور والاصطفاء الطبيعي لا بد أن يتسق مع نهج رواد فكر الإنسِيَّة العقلانية نسبة إلى الإنس وهم بنو البشر، في دعوتهم التي لا تتغاير إلى الرشاد والتعقل والرحمة قبل الإيغال في دوامة القتل والتقتيل للبشر الآخرين تحت أي ذريعة، إذ أن أولئك الذين سوف يقع العسف والجور بحقهم هم في الحقيقة إخوة من الناحية التطورية والمورثية لأولئك الذين يتنطعون لتصدر مواقع الجلادين والجلاوزة، وما كان على شاكلتهم من الطغاة والمستبدين والعسس والبصاصين. وذلك النسق من التفكير ليس نسقاً مثالياً طوباوياً حالماً وإنما توصيفاً علمياً حقيقياً لرابطة عضوية مورثية تجمع بني البشر الحاليين وتعيدهم إلى حفنة صغيرة من الأسلاف هم أخلافهم الفعليون من الناحية المورثية؛ وهو ما يجعل توصيف الأُخُوَّة الواقعية وليس الافتراضية بين بني البشر التوصيف العلمي الأكثر صوابية من وجهة نظر الاصطفاء الطبيعي وعلم المورثات التطوري.
وقد يكون أبو العلاء المعري في شعره النموذج الأكثر رهافة وشفافية في نسق الإبداع الفكري بلسان الضاد عن ذلك النهج الإنسي والعقلاني في مقاربته لما يجب أن يحكم علاقة البشر فيما بينهم، وبأسلافهم، وحتى بالطبيعة التي تشكل مصدر حياتهم، ومآلهم بعد رحيلهم عن وجه البسيطة. وأظن أن دالية المعري هي الأكثر تكثيفاً لنهجه الإنسي في مقاربة الحياة، ومنها قوله:
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب
فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم الأر
ض إلا من هذه الأجساد
سر إن استطعت في الهواء رويداً
لا اختيالاً عن رفات العباد
رب لحد قد صار لحداً مراراً
ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين
في طويل الأزمان والآباد
وهو النهج الذي لا بد أن يقود كل عاقل للتفكر بحق كل الكائنات الحية الأخرى من أسلاف بني البشر وأبناء عمومتهم المقربين في مملكة الحيوانات، وأعني هنا الثدييات جميعها، في الحياة، وعدم التغول على كل بقعة يسكنون فيها، وإذلالهم بكل الطرائق وحشية، سواء لتمتيع الإنسان بتلك الحيوانات في صداقة قسرية مع الحيوانات المدجنة منها، أو التهام لحومها الحمراء والبيضاء بإسراف وإفراط منفلت من كل عقال، أصبح أحد أهم أسباب زيادة وقوعات سرطانات القولون والكثير من أمراض القلب والأوعية الدموية على المستوى الكوني. و من ناحية أخرى لا بد أن يستدعي ذلك النسق الأخير من التفكر إعادة نظر جذرية في موقف جل بني البشر اللامبالي بالكارثة البيئية المحدقة بكوكب الأرض والتي قد تحوله خلال بضعة عقود إلى كوكب غير صالح لحياة البشر بشكلها المعاصر، إذ سوف يصبح البشر مشردين دائماً هاربين من طوفانات عرمرمة تقزم أسطورة طوفان نوح، وهم بانتظار حلول ساعة إعصار قَتَّال، أو قحط لا يبقى ولا يذر، أو حرائق تأكل الأخضر واليابس، أو رطوبة وحرارة لا تطيقهما أجساد البشر، أو زحف لمياه البحر لتغمر مئات المدن في غير موضع من أرجاء المعمورة، أوجوائح للأمراض الوبائية التي ظن البشر بانقراضها كالطاعون والجمرة الخبيثة والجدري وغيرها من الأمراض التي سوف تتدفق من جعبة الحاوي التي تخبئها الكارثة البيئية الكليانية التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى في إطباقها على كوكب الأرض.
وقد يكون الاستنتاج الثالث من الاستبصار المتعقل بصيرورة تطور الكائنات الحية بيولوجياً عبر الاصطفاء الطبيعي يتمثل في التشديد على أن هناك خيطاً ناظماً لكل مرحلة تطور بني البشر الطويلة التي امتدت على سبعة ملايين من السنين تمثلت في جوهرية التعاون والإيثار ضمن أي مجموعة بشرية قُدِّرَ لأفرادها البقاء على قيد الحياة في ظل الشروط البيئية المعقدة التي واجهها بنو البشر الذين لم يتحلوا بمخالب وأنياب فتاكة كما هو حال الكواسر الأخرى، ولم يكتسوا بفراء كثة تقيهم عسف الطبيعة وتلاوينه، وهو الذي تم معاوضته فقط باتكاء البشر على إمكانيات العقل الجمعي للمجموعة البشرية عبر تعاون وإيثار الأفراد المنتسبين إليها، وهما الصفتان والسلوكيتان التي لا بد أن الاصطفاء الطبيعي قام بتنقيتهما و استدماجهما في بنيان وآلية عمل الدماغ البشري الفطرية الغريزية، حيث أن كل من لم يتحل بنيوياً بالميل الغريزي للسير في ذينك النسقين السلوكين لا بد أنه قد تم استئصاله بيولوجياً بقوة قوانين الاصطفاء الطبيعي التي كانت هاتان الصفتان السلوكيتان البرزخ الذي لا بد من الولوج فيه لكل من قدر له تعزيز فرص بقائه على قيد الحياة وإنجاب ذرية من بعده تخلفه وتضمن عدم اندثار مورثاته من الحوض المورثي الجمعي للجماعة البشرية التي ينتسب إليها.
وذلك التوصيف الأخير المتمركز حول التعاون والإيثار كصفتين سلوكيتين عضويتين في بنيان أدمغة البشر انطلاقاً من فهم علمي حصيف لآليات عمل الاصطفاء الطبيعي، توصيف لا بد من التشديد عليه دائماً في كل مكان وفي كل حين من حيواتنا المعاصرة التي لم يسلم أي من تفاصيلها من الهجمة البربرية لذلك النمط الوحشي من الرأسمالية الاحتكارية المعولمة التي قد يكون أسمى أهدافها تحويل الإنسان إلى كائن بيولوجي معزول عن محيطه الاجتماعي سدرة منتهاه الاستهلاك الذي لا ينقطع دون اكتراث أو تفكر بأي عقابيل لاستهلاكه المحموم على محيطه الاجتماعي والحيوي وعلى مستقبل ذريته من بعده، باتكاء خلبي على تفسير أشوه يخالف الجوهر العلمي لعمل الاصطفاء الطبيعي يصل إلى استنتاجات تلفيقية تعرف عن نفسها بما يدعى الداروينية الاجتماعية، التي ترى في الإنسان وحشاً كاسراً لا هم له في حياته إلا حاجاته الآنية والسطحية والحسية دون الاكتراث بكل ما قد يقترب كثيراً أو قليلاً من أولئك الآخرين، فهو مغرق إلى درجة الثمالة في نهج «الذاتية» التي أصبحت بمثابة الصنم الذي لا بد من الإذعان لسطوته للتمتع بمكاسب المدنية المعاصرة القائمة على أسس مخالفةلجوهر وبنيان وآليات عمل دماغ الإنسان الفطرية الغريزية التي تم استدماجها فيه بقوة الاصطفاء الطبيعي التراكمي على امتداد رحلة الإنسان التطورية التي امتدت على سبعة ملايين من السنين. وهو الواقع المختل الذي أصبح يعبر عن نفسه في جل أصقاع المعمورة بما قد يستقيم توصيفه بحال الاكتئاب الجمعي، الذي يتمظهر عيانياً بالزيادة المضطردة لوقوعات اضطرابات الاكتئاب والقلق إلى درجة مهولة من شاكلة معاناة نصف المواطنين البريطانيين من اضطرابات القلق والاكتئاب وتناولهم عقاقيراً دوائية لعلاجها، في نهج بربري يقوم على إعادة نظم أدمغة البشر لإرغامها بقوة الأدوية الكيميائية على التكيف مع ما يخالف طبيعتها وميولها الغريزية، إذ أن التفكر بنمط لطبيعة علاقات البشر فيما بينهم يقوم على التعاضد والتراحم والتعاون والإيثار من المحرمات في قاموس الرأسمالية الاحتكارية المتوحشة بشكلها البربري المعولم، بينما كانت جميع تلك المفاهيم والسلوكات التي تستتبعها المداخل الوحيدة التي ضمنت عدم انقراض البشر في رحلتهم التطورية الطويلة بمقصلة الاصطفاء الطبيعي وليس عكس ذلك.
والاستنتاج الأخير الذي لا بد منه يرتبط بحقيقة أن فهماً عميقاً ومتعقلاً للكينونة البيولوجية للإنسان المعاصر بكونها ناتجاً مصفى لعملية الاصطفاء الطبيعي، والتي تمحور جوهرها حول القفزة التطورية التي تمتع بها بنو البشر منذ حوالي مائتي ألف عام، وتمثلت في امتلاك اللغة التي تزامنت مع ظهور الإنسان العاقل Homo sapiens الذي ينتسب إليه كل البشر المعاصرون، لا بد أن يعيد الاعتبار إلى أن الميزة التفاضلية الكبرى للإنسان كحيوان تربع على عرش مملكة الحيوانات الطبيعية تمثلت في قدراته العقلية الفائقة التي تمكن من خلالها استنباط اللغة والكتابة لاحقاً، وهو ما مكنه من مراكمة خبرات الأسلاف والبناء عليها وعدم الحاجة إلى تكرار تجاربهم التي قاموا بها سابقاً، وهو ما أوصل البشر في حقبة زمنية محدودة تقصر حتى عن لمحة عين في مسيرتهم التطورية الطويلة إلى سطح القمر وما بعده. وذلك المكان الفريد للدماغ البشري وقدرات الإنسان العقلية الفائقة في مسيرة تطور بني البشر لا بد أن يأخذ موقعه الحقيقي والطبيعي في حيواتهم المعاصرة بحيث يكون العقل والرشاد والمنطق مجتمعين بمثابة ناظم الخطى لكل حركاتهم وسكناتهم وليست الاتباع والتقليد الأعمى والتعصب وفق عقلية القطيع الذي حين يهيج لا بد أنه قاتل نفسه قبل إفناء غيره. وهو العقل الرشيد نفسه الذي لا بد أن يكون الهادي الأسمى للإنسان في وجوده البيولوجي العابر ككائن حي على وجه البسيطة، والذي لا بد أن يحدوه إلى الاستفادة بأقصى ما هو متاح من ذلك الوجود المؤقت والمحدود زمنياً بنهج يتفق مع ميول البشر الطبيعيين كحيوانات اجتماعية عاقلة بامتياز، بالتوازي مع العمل الدؤوب والمجتهد الذي لا يكل للحفاظ على توازن محيطه البيئي والحيوي، وحق الآخرين في الكائنات الحية بشراً وغيرهم في الحياة ضمن توازن بيئي مرهف تم ضبط إيقاعه المتزن عبر ثمانين مليار سنة هي عمر الكائنات الحية على كوكب الأرض، وهو التوازن الذي لا بد لكل عاقل من الدفاع عنه بكل ما أوتي من قوة لأنه المدخل الوحيد الذي ليس سواه من مدخل لضمان تمكن الإنسان من القيام بواجبه الأسمى من منظار الاصطفاء الطبيعي ألا وهو نقل مورثاته إلى ذريته من بعده، والتضحية بنفسه إن استدعى الأمر للحفاظ على قدرة تلك الذرية في الاستمرار على قيد الحياة لنقل مورثاته إلى ذريتها من بعدها، في صيرورة قد يستقيم تأويلها مجازياً بأنها الخلود المورثي للإنسان الفاني منظوراً إليه بمنظار الاصطفاء الطبيعي المرهف والحاذق.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الانتخابات الرئاسية الأمريكية: نهاية سباق ضيق
.. احتجاجًا على -التطبيق التعسفي لقواعد اللباس-.. طالبة تتجرد م
.. هذا ما ستفعله إيران قبل تنصيب الرئيس الأميركي القادم | #التا
.. متظاهرون بباريس يحتجون على الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان
.. أبرز ما جاء في الصحف الدولية بشأن التصعيد الإسرائيلي في الشر