الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معارك وحوش الألفية الثالثة

نعيمة عبد الجواد
أستاذة جامعية، وكاتبة، وقاصة، وشاعرة، وروائية، وباحثة، ومكم دولي

(Naeema Abdelgawad)

2020 / 11 / 18
المجتمع المدني


في أحد السجون الفاشية في عام 1929، دأب المُنَظَّر الإيطالي الشهير أنتونيو جرامشي Antonio Gramsci على ترديد جملة "العالم القديم يحتصر، والعالم الجديد يكافح لكي يولد. أما "الآن" فهو وقت الوحوش." عبارة مبهمة عند سماعها لأول وهلة، لكن بربطها بالحقبة التاريخية التي قيلت فيها يعلم القارئ أن جرامشي يشير إلى عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى الذي عاصره، والذي هدم الثوابت، وفكك إمبراطوريات، وخرجت منه حطاماً الإمبراطوريات الألمانية، والروسية، والنمساوية-المجرية، والعثمانية اللاتي استمرت هيمنتها لمئات السنين. أما قطبي العالم القديم - إنجلترا وفرنسا – فقد دب في أوصالهما وهن شديد هدد كيانهما ونفوذهما. ومن ثم، انتصرت الثورة البلشفية التي هددت أوروبا بأكملها، ومهدت بانتصارها الأسباب لقيام الحرب العالمية الثانية، والتي كنا لا نزال نعيش في كنف نتائجها حتى وقت قريب. فبعد الحرب العالمية الأولى، عاش العالم فترة عدم استقرار، أو كما قد نسميها "فترة إنتقالية" لحين ملئ الفراغ الذي نجم عن الحرب العالمية الأولى.
ولقد تم التعبير عن فترة عدم الاستقرار تلك أو كما يطلق عليها حديثاً "فترة إنتقالية" في الإمبراطورية الرومانية القديمة بمصطلح "إنتريجنوم" Interregnum، والذي يشير إلى الحقبة التي تتخلل تعاقب حكومتين مستقرتين. وفي تلك الفترة، قد يحدث أي شئ مرغوب فيه؛ أي تظهر الوحوش متمثلة في قوى الفساد التي تحاول ملء هذا الفراغ بسبب خلو العرش المهيمن على مجريات الأمور. وبعد تلك الفترة، يخرج العالم بترتيب جديد، وخريطة قوى جديدة.
وبعيداً عن الحروب المادية في هذا الزمان الذي تتصارع فيه قوى العالم لهدم حكومات، وخوض حروب بالوكالة، وشن حروب الجيل الخامس، هناك معركة في الفناء الخلفي أشد وطئاً، ويتم التجهيز لها بحشد وتدشين وحوش الألفية الثالثة لملئ هذا الإنتريجنوم Interregnum، ورسم ملامح ثابتة لعالم الألفية الثالثة. وهؤلاء الوحوش هم العالم المرقمن الذي صار يهيمن على الإنسان في جميع مناحي حياته، وتصرفاته، بما في ذلك التحكم في غرائزه وشهواته.
ولقد عمد وحوش الألفية الثالثة – أباطرة الرقمنة – إلى خلق عالم موازي لنسف عالمنا القديم المادي وتحويله إلى عالم هامشي. وكان من أعتى إنجازات وحوش الرقمنة هو نقل الهيمنة والسيطرة على البشر من أرض الواقع إلى العالم الإفتراضي الذي صار يحاكي الواقع. وكان من أهم قطبي عالم المحاكاة الجديد هو السيطرة على العقل البشري، والسيطرة على جميع الأنشطة البشرية. وكانت السيطرة على الأنشطة البشرية من أسهل المهام؛ حيث تم إقناع البشر أن ذلك ضرباً من ضروب التطوير الحتمي للحاق بركب الحضارة الحديثة المتسارعة الخطى. ومن الواضح أن هذا السيناريو ليس بالجديد. فتحت شعار التحديث وتطوير الشعوب لركب قطار العالم المتقدم، قامت إمبراطوريات العالم القديم باستعمار الشعوب المتخلفة، وأذاقتها الويلات دون أدنى رحمة أو شفقة.
أما القطب العنيد الآخر الذي كان لابد من غزوه لاستعماره، هو العقل البشري الذي تم السيطرة عليه بالترويج لأهمية العالم الرقمي المتمثل في العالم الذكي الجديد الذي فرض نفسه على واقعنا. ومن ثم صار جهاز الهاتف النقال لصيقاً بالبشر، وكاشفاً لميولهم، ولما يقومون به من أنشطة على مدار اليوم، وحتى أحاديثهم لم تسلم من التنصت عليها، تحت هدف زائف وهو الرغبة في توفير الخدمات، والمواد العلمية، والثقافية التي يحتاج لها الفرد دون أدنى عناء، تحت شعار الرفاهية التي يقدمها العالم المرقمن المتطور. لكن في حقيقة الأمر، ذلك يعني انتهاك خصوصيات المرء لصالح جهات معنية، وبيع بيانات المستهلك لأكثر من جهة بهدف الربح. أما ما يدعو إلى الخوف والذعر أن جهاز الجوال الذي صار لصيقاً بمالكه ، هو العدو الأساسي الذي صار يهدد البشرية، ويقوض الحرية الشخصية وخصوصية الأفراد، في آن واحد. فتماشياً مع أسس الحياة الحديثة، يحتوي – وبشكل أساسي – أي هاتف ذكي على تطبيقات الفيسبوك، وخرائط جوجل، والواتس آب بشكل أساسي، بالإضافة إلى حزمة من التطبيقات الأخرى التي لا يعلم المرء سبب تحميلها على السوفت وير الخاص بالجوال عند الشراء، فيتغافلها؛ لأنه لا يعيرها أي اهتمام. فالاهتمام الأكبر صار استخدام الهاتف، وتمضية الوقت بتصفح الفيسبوك، وإرسال الرسائل على تطبيقي الواتس آب والميسينجر بشكل أساسي، ثم التمتع بخاصية وجود كاميرا الموبايل لتسجيل أحلى الأوقات، ولأخذ لقطات الصور السيلفي في أي وقت.
وكعادة القائمين على العالم الحديث الذين يدسون السم في العسل لإفساد مباهج حياة الأفراد العاديين الذين يرى فيهم القوة الناعمة التي يمكن أن تدرء مخططاتهم الشريرة، فلقد عمدوا إلى تحويل جهاز الجوال إلى قنبلة موقوتة في سبيلها للانفجار في وجه صاحبها في أي وقت. فجميع البيانات والرسائل والأنشطة التي يقوم بها الفرد يقوم بتخزينها كل من تطبيقي الفيسبوك وجوجل، وبضع التطبيقات الأخرى التي يحملها الفرد على هاتفه الذكي. ولسوف تندهش عندما تعلم أن جهات الإتصال الخاصة بك جميعها مسجلة لدى هاتين الجهتين بما في ذلك الأرقام التي تم محوها، وينطبق ذلك على الرسائل والصور، وتحركات الفرد طوال اليوم. فبدون أدنى عناء وبدون تواجد أجهزة معقدة، يقوم جهاز المحمول برصد وتسجيل جميع تحركات الفرد من خلال عدة تطبيقات مختلفة دون علم المرء، وعلى رأسهم تطبيقي الفيسبوك وجوجول، حتى ولو كان الجوال غير متصل بشبكة الإنترنت. وعند إغلاق خاصية تتبع الأنشطة، تظهر تحديثات أخرى لتعيد تشغيلها دون علم المرء. والأسوأ من ذلك، الصور التي على جهاز الموبايل، والتي يلوَّح دائما بإمكانية استخدامها من قبل الجهات المانحة للتطببيقات. أما كاميرات الهاتف الذكي، وكذلك اللابتوب، فهي الخطر الأعظم. فبدون علم المرء، يمكن وبكل سهولة من يترصد للمرء أن يفتحها دون علم صاحب الجهاز. والمفاجأة الأكبر ذات العيار الثقيل هي إمكانية استخدام جهاز الموبايل كجهاز تنصت دون علم المرء، لينقل همساته وفحوى مكالماته لصالح أطراف معنية.
وحتى ولو ادعى الفرد أن ما يدور بحياته ليست بالأهمية التي قد يعيرها أحدهم الاهتمام، أو أنه لا يخشى شئ لطالما أنه لا يقترف جرماً، لكن ذلك اعتقاد خاطئ؛ لأن كل حدث في حياة الفرد له أهميته، وأن معرفة أنشطة ونزعات وميول الأفراد العادية هي السبيل لاستعمار الأمم فكرياً وحضارياً ومادياً.
وبالتفكر في مقولة جرامشي Gramsci، فإن الوحوش خرجت وباتت بالفعل تسيطر على العالم، وتحشد المعلومات اللازمة للقضاء على أفراده، وقتل مظاهر الحياة القديمة؛ لفرض خارطة جديدة لشكل الحياة في بقيو الألفية الثالثة بعد فترة الإنتريجنوم Interregnum تلك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الأخ الأكبر يراقبك
إلسا . س ( 2020 / 11 / 18 - 16:23 )
نحن تحت رقابتهم ، نحن تحت الحصار ، تتابعنا عيونهم الالكترونية المتلصصة . هذا بعض ما أقوله لطالباتي بالجامعة – مستفيدة من ثقتهن بي لتقارب السن بيني و بينهن – و هو ما كتبته مرارا على صفحات المجموعات النسوية ، كي أحذر البنات صغيرات السن من خطر نشر صورهن على صفحات الفيس ، مركزة على أنه منذ ان تفتحي حسابا على الفيس ، فأنتِ قد اصبحت تحت تصرف الأخ الأكبر (العولمي) ، فهو يتابعك خطوة بخطوة ، يقرأ ما تكتبين ، و يراقب تنقلاتك بين الصفحات ، و يتنصت على همساتك ، و يقتفي حركتك على الفيس و غوغل و مسنجر و واتسب و غيرها من وسائط التواصل الاجتماعي ، المترابطة بواسطة تقنيات تشبيك متصلة بخوادم فائقة القدرات التخزينية ، حيث يحتفظون بكل منشوراتك و صورك الشخصية و رسائلك و بصمة صوتك و محل اقامتك و رقم جهازك . و هم يجمعون البيانات كي يستثمروا فيها تجاريا و لأغراض بحثية استخبارية و تسويقية . فاحذري من أن هاتفك المحمول هو أداتهم لاختراق خصوصيتك ، بما في ذلك علاقاتك الحميمة جدا . عبر تطبيقات و رموز مثبتة على ذاكرته الخفية . و في اوربا تم مؤخرا رفع شكاوى على أبل لاستخدامها رمز تعقب ينتهك خصوصيات مستخدمي أجهزتها .

اخر الافلام

.. كيف فجرت حرب غزة جدل حرية التعبير في الجامعات الأمريكية؟ | ا


.. Amnesty Launches Annual Report on the State of Human Rights




.. وكالة -الأونروا- تنشر مشاهد للدمار في غزة في اليوم الـ 200 ل


.. بطلب من الأرجنتين.. الإنتربول يصدر نشرة حمراء لاعتقال وزير د




.. إسرائيل تستبق الاجتياح البري لرفح بإنشاء مناطق إنسانية لاستي