الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رفاعة الطهطاوي والحداثة الأوروبية منهج الاستيعاب والتوفيق.

حنضوري حميد
كاتب وباحث في التاريخ

(Hamid Handouri)

2020 / 11 / 23
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


استطاع الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي، أن يكون رائد الثقافة والتنوير في مصر خصوصا، والعالم العربي عموما إبّان القرن 19م. فقد نجح في التوفيق والمزج بين المنظومة الفكرية الأزهرية المحافظة التي تربى في أحضانها، والمنظومة الفكرية الحداثية التي تبناها المجتمع الأوربي، بعد أن احتك به وتأثر بأفكاره.
ساعده في هذا التوفيق تبنيه منهجا معتدلا يسمح بمسايرة التقدم، والحفاظ على الأصول. ولهذا يعتبر الطهطاوي ممثل الجيل الأول من البنى الفكرية والثقافية التي اصطدمت بالفكر الغربي. ومن المفكرين الأوائل الذين بنوا المعالم الأولى لمزيج فكري جديد، يجمع بين الثقافة العربية التقليدية والفكر الحديث، أو ما يسمى بـالحداثة. وفتح من خلال ذلك لمصر نافذة على الغرب. إذن ما هي خلفية رفاعة الطهطاوي؟ وما هو المنعطف الحاسم في تغيير أفكاره؟ وما هي أهم الأفكار التي تبناها الطهطاوي، وحاول تطبيقها في مصر بناء على منهجه التوفيقي؟
الطهطاوي وخلفيته الأزهرية
ولد رفاعة الطهطاوي سنة 1801م. في طهطا، وإليها ينتسب. انتقل به أبوه من طهطا إلى قنا، ثم إلى فرشوط، وكان سبب هذا الانتقال ضيق ذات اليد. خلال هذه الفترة بدأ حفظ القرآن الكريم، لكنه اضطر إلى العودة إلى طهطا بعد أن توفي والده. وهنالك أتم حفظ القرآن. وتلقى مبادئ العلوم الفقهية، وقرأ المتون المتداولة آنذاك. وفي السادسة عشرة من عمره نزل القاهرة للدراسة في الأزهر. وبعد خمس سنوات من




التحصيل، عين مدرسا بالجامع الأزهر لأكثر من عامين. قام خلالهما بتدريس كتب في الحديث والمنطق والبيان والعروض. وفي نفس الوقت كان يتردد أحيانا على مدينة طهطا، ويلقي على أهلها بعض دروسه.
وقد كان العلامة الطهطاوي منذ عهده الأول مدرسا ممتازا. فأقبل عليه الطلاب من كل حدب وصوب. وأفادوا من علمه. ثم عين بعد ذلك واعظا وإماما في الجيش المصري، سنة ‍1824م. والأمر الذي اضطره إلى ذلك العمـل بدلا من التدريس بالأزهر الشريف، هو رغبته في كسب الرزق . وهكذا تبين أن الطهطاوي عالم ذو تكوين أزهري مفعم بروح أخلاق الدين الإسلامي.
الانتقال إلى فرنسا، والاصطدام بالحداثة وتبني منهج الاستيعاب.
بدأت تجربة جديدة في حياة الطهطاوي عندما انتقل إلى أوربا، حيث شكل له هذا الانتقال منعطفا حاسما في سيرته ومسيرته. وتغيرت بنية فكره عندما عاش في فرنسا لسنوات ابتداء من وصوله إليها سنة 1826م. مرفوقا بالبعثة الطلابية التي أرسلها محمد علي باشا للدراسة في جامعة السوربون، وأخذ العلوم الحديثة، والاستفادة من التجربة الأوروبية. وكان الهدف من إرساله الحفاظ على دين وأخلاق أولائك الشباب، خوفا عليهم من الذوبان أو الضياع في بلاد الكفر.
لكن ما أن وصل الإمام الطهطاوي إلى باريس حتى اصطدم بالثقافة الغربية، وانبهر بتقدم الغرب. وسمي ما وقع له بصدمة الحداثة، أو دهشة الطهطاوي. وبالرغم من الصدمة، استطاع التكيف مع الوضع، وأخذ نظرة إيجابية حول الحضارة الأوروبية. فكان معجبا إعجابا لا منتهيا، بإنجازاتها العلمية والتقنية والفكرية والأدبية. ولهذا تشرب الحضارة الأوروبية من خلال تجواله في باريس وما حولها، وحاول استيعابها كاملة لأنه لم ير فيها خطرا سياسيا أو حضاريا.


و إلى جانب كونه إماما للبعثة، اجتهد باعتباره تلميذا نجيبا، واستغل أخذ ما أمكن من العلم والمعرفة مستثمرا مواهبه وذكاءه في تعلم اللغة الفرنسية، والاطلاع على العلوم والمعارف المختلفة . حيث بدأ يتعلم اللغة الفرنسية، وأعطى لها اهتماما بالغا، مما جعل القائمين على البعثة يدركون رغبة الطهطاوي في تعلم الفرنسية. ولذلك سجل عضوا في بعثة دارسة الترجمة، منذ العام الأول من مقدمه إلى باريس. ولم ينقض عام حتى توالت ترجماته لكتب صعبة. ولم يدم طويلا حتى تقدم إلى اجتياز امتحان اللغة الفرنسية فانتهى به المطاف إلى النجاح في الامتحان. بل ومنحت له مكافئة على جهوده. وقدم للفرنسيين مخطوطة كتابه" تخليص الإبريز في تلخيص باريس" الذي نال به بعد ذلك شهرة واسعة. ولم يقتصر في فرنسا على هذا، بل تفرغ لقراءة كتب الفكر والفلسفة، وخاصة أعمال فلاسفة عصر الأنوار. كما تفرغ أيضا للكتابة...
وبعــد أن قضى الطهطاوي في البعثة خمس سنوات، عاد إلى مصر مفعما بالأمل. يدعو الشرق العربي والعالم الإسلامي إلى تخطي عصور التخلف، والولوج إلى رحاب عصر التنويـــر بدقائقه وتفاصيله التي شهدها خلال السنوات الخمس من حياته في فرنسا . وكل هذا لم يأت من قِبيل الصدفة، بل جاء نتيجة تغير عقل الشيخ فكرا وعملا، واقتناعه بوجوب مسايرة الغرب في أمور الحداثة، والانفتاح عليه إلى أقصى درجة. لكن في مقابل ذلك، دعا إلى الحفاظ على الدين والأخلاق، وبهذا استطاع المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة.
عودة الطهطاوي إلى مصر، ومنهجه التوفيقي بين الحداثة والشريعة.
وبعد عودة الطهطاوي إلى مصر استطاع أن يشق لنفسه طريقا جديدة، بمنهج جديد، أسميناه منهجا توافقيا بين الشريعة الإسلامية والحداثة الأوروبية، وعمل على استكمال تكوينه العلمي، وطرح مشروعه الفكري، بكيفية ذكية؛ من خلال محاولته استغلال دائرة المباح. عمل هذا بفضل شخصيته الأكثر استيعابا للتكوين العصري، والأكثر تأثيرا على المجتمع. ولهذا اشتغل في تآليفة على التوفيق بين الحداثة وعلوم الشريعة، ودعا إلى تدريس العلوم الحديثة، في حدود ما لا يتعارض مع الشريعة. فطّور مناهج دراسية في

العلوم الطبيعية. وفتح سنة 1835م. مدرسة الترجمة التي صارت فيما بعد مدرسة الألسن. وعين مديرا لها، إلى جانب عمله مدرسا بها. إضافة إلى هذا اشتغل الطهطاوي على ترجمة الكتب، وأقام المؤسسات التربوية والفكرية. وتخرج منها من التلاميذ والمريدين والمثقفين، ومن غيروا وجه الواقع الثقافي في البلاد العدد الغفير؛ حيث استطاع أن يضيف إلى البناء المادي الحديث، الذي أقامه محمد علي، الجانب الفكري الحداثي والحضاري.
ويتجلى المشروع الثقافي الكبير لرفاعة الطهطاوي، في وضع ركائز حركة النهضة العربية. من خلال دعوته إلى تجديد الفكر العربي والإسلامي بقضايا التمدن والعمران والآداب العصرية. ودافع عن التواصل والانفتاح على العلوم والمعارف الحديثة، من دون خشية أو رهبة. ودعا أيضا إلى التخلي عن الذهنية القديمة المنغلقة، وإحداث القطيعة معها. والانفتاح على العالم الحديث، والفكر الجديد وإقامة العلاقة مع أوربا للاستفادة من ثورها. كما اعتبر أن إصلاح المؤسسات السياسية يقوم على العدل والحرية والإنصاف. وكل هذا يعتبر أساسا لبناء الدولة، ومحفزا على تقدمها؛ إذا ما أرادت البلاد العربية بناء نهضة في هذه العصور الحديثة، أوفي مستقبلها القريب.
كما نادى بالإصلاح التدريجي في نظام الحكم، وهذا أمر مهم فالحاكم يجب أن تكون سلطاته مقيدة بالقوانين. والحكومة يجيب أن تكون مسؤولة أمام ممثلي الشعب. أما الشريعة فهو الأول من أشار إلى فتح باب الاجتهاد، وكان من رأيه أنه لا تعارض بين الشريعة والقوانين الوضعية، أي أن الشريعة يمكن أن تفسر في ضوء الحاجات والمتغيرات الحديثة ، للسير نحو الأفضل، وخلق دينامية لإيجاد حل لمشاكل المجتمع.
ولم يقف الطهطاوي عند هذه الإصلاحات، بل اهتم بموضوع المرأة، حيث استطاع أن يقوم بثورة على المبادئ القديمة لتحرير المرأة، باعتبار هذه الأخيرة شيئا مهملا في مختلف الطبقات، لا وظيفة لها ولا

مشاركة في الحياة خارج بيتها. ولهذا يعتبر الطهطاوي من الدعاة الأوائل لتعليم المرأة، وتحريرها من ربقة الجهل. ويجب أن تنال حظها من العلم. واقترح إدخال تعليم البنات في مصر.
كما دعا أيضا إلى إرساء مبدأ الحرية والعدالة والمساواة بين الرجال والنساء، في عقد اجتماعي عادل بينهما. ورفع راية الدفاع عن المواطنات ليكسبن حقوقهن المدنية، كما هو الشأن في أروبا. باعتبار أن هذه الأخيرة نصبت نفسها الأنموذج الكوني في توعية الآخرين بحقوقهم.
ولعل دعوة الطهطاوي هذه لاستيعاب كل هذه الأشياء والقوانين من الحداثة الأوروبية، وبهذه السرعة، أغفلت دون وعي، استحضار التطور التاريخي الذي أفرز تلك المبادئ، وأنها لم تحصل إلا عبر فترات ليست بالقصيرة.
وفي الختام يمكن القول إن رفاعة الطهطاوي بخلفيته الدينية الأزهرية، استطاع أن يبني لمصر خصوصا، والعالم الإسلامي عموما، الأسس والركائز الأولى للنهضة العربية، التي امتد صداها إلى دول العالم. وأفرزت دعوته رجالا أمثاله ساهموا في بلورة النهضة وشروطها، ودفعوا بها نحو الأفضل. وبالرغم من مجهود هذا المفكر، فإنه لا يمكن التسليم بالقول إنه نجح بالكامل في عملية التوفيق بين الأنموذج الأوروبي الحداثي والأنموذج العربي الإسلامي، لأنهما أنموذجين جاهزين يتعارضان في بعض الثوابت، حيث إن الأول يسمح بالحرية والانفتاح والتقدم والاستعمار، في إطار ما يسمى بالحداثة، والثاني يدعو إلى الركود والجمود الفكري، في إطار ما يسمى بالحفاظ على شرع الله. وهكذا يبدو أن الطهطاوي وقع في تناقض وجداني على حد تعبير علماء النفس. وإذا افترضنا أن نعيد هذه التجربة، هل يمكن إنجاحها بهذه الكيفية؟ أم علينا أن نبحث عن السبل المثلى والفعالة لتحقيق النهضة، على قواعد سليمة عندنا نحن العرب والمسلمون؟.
لائحة المراجع
1ـ زيادة معن، " المعالم الأولى للمشروع النهضوي العربي في القرن التاسع عشر، مجلة الوحدة، السنة الثالثةـ العدد 31/32 ابريل/ مايو 1987م.
2ـ الشيال جما الدين، رفاعة الطهطاوي زعيم النهضة الفكرية في عصر محمد علي، مؤسسة هنداوي 2020م.
3ـ مجدى سلامة، رفاعة الطهطاوي الأزهر المعمم رائد الثقافة والتنوير.
4ـ عمارة محمد، رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث، مصر القاهرة، دار الشروق، 2007م.،
5ـ الميلاد زكي، "رفاعة الطهطاوي ونظرية المنافع العمومية"، مؤمنون بلا حدود لدراسات والأبحاث، يناير 2015م.
6ـ محمد زكريا توفيق، "رفاعة رافع الطهطاوي رائد من رواد عصر النهضة والفكر الليبرالي"، الحوار المتمدن، العدد 2560ـ 2009م..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعات عراقية للمطالبة بوقف الحرب في غزة


.. مشاهد من لحظة وصول الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى قصر الإليزيه




.. فيضانات وسيول مدمّرة تضرب البرازيل • فرانس 24 / FRANCE 24


.. طبول المعركة تُقرع في رفح.. الجيش الإسرائيلي يُجلي السكان من




.. كيف تبدو زيارة وليام بيرنزهذه المرة إلى تل أبيب في ظل الضغوط