الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللون الابيض

ساطع هاشم

2020 / 12 / 4
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


اختارت الملكة فكتوريا الفستان الابيض المُطَعم بالعاج واللؤلؤ لترتديه في حفل زفافها من الأمير ألبرت في عام 1840 ومنذ ذلك التاريخ شاع الفستان الابيض للأعراس في اوروبا، ومنها انتشر الى دول المستعمرات حول العالم.
وعلى الرغم من ان بعض ملكات اوروبا قبل فكتوريا استعملن الابيض بالزفاف لكنه لم يصبح تقليدا او موضة عالمياً الا مع زواج البرت وفكتوريا.
ومع انتشار هذه التقليعة الجديدة، انتشرت عالمياً ايضا موضة العاج الابيض للزينة والمجوهرات والهدايا وتجارته، وادت الى مجازر اصطياد وقتل الفيلة في افريقيا والهند وبقية مناطق العالم، هذه التجارة التي كانت موجودة اصلاً منذ بداية الحضارة الإنسانية وعند كل الأمم تقريباً، لكنها مضت الان بعد ذلك الزفاف بشكل سريع ومدمر وعنصري.

فيقدر علماء الطبيعة والمدافعين عن البيئة اليوم عدد الفيلة بالعالم وقت ذلك الزواج الملكي بحوالي ثلاثين مليون فيل، وعندما ماتت فكتوريا سنة 1901 كان العدد قد تناقص الى عشرة ملايين وبعد مرور مئة عام على وفاتها قالت منظمة الدفاع عن حقوق الحيوان سنة 2001 ان عدد الفيلة بالعالم لا يزيد عن ستمئة الف فيل، وتتناقل وكالات الانباء بالسنتين الاخيرة الاخبار بان العدد لا يتعدى الان الاربعة مئة الف فيل فقط، وهي في تراجع خطير.

والعاج الأبيض المستخرج من انياب الفيل تحديداً، من ابرز أنواع الأبيض وضوحاً وجمالاً ورمزية، وكان واحد من اهم مواد الزينة بالحضارات القديمة، العراقية والمصرية والصينية وغيرها، وآثاره الان منتشرة في متاحف العالم، ويعزى الى شيوعه في اليونان وروما القديمة وولعهم به وطلبهم المتواصل عليه سبباً في انقراض الفيلة بالشرق الأوسط.

ولكن، لماذا اختارت فكتوريا اللون الأبيض المطعم بالعاج الابيض تحديدا ليكون لون ثوب زفافها اصلا؟ وكيف ان ذلك لم يحدث في مكان اخر في اوروبا قبل هذا التاريخ؟ فماهي الايدلوجيا او العقيدة التي كانت سائدة في البلاط الملكي او لدى الطبقات العليا بالمجتمع الانكليزي آنذاك والتي دفعت فكتوريا لهذا الاختيار؟

الواقع ان ذلك لم يحدث نتيجة لصدفة عابرة او نزوة او رغبة جمالية عند الملكة في تبديل الروتين والعرف السائد، ولكنه نتيجة طبيعية لتطور الأيديولوجيا التي كانت تنتشر في اوروبا وتحديدا في بريطانيا قبل ذلك بقرنين، انها عقيدة الجنس الابيض او التفوق الابيض.

الابيض من اقدم الالوان التي استخدمها الانسان في التصبيغ والحياة العملية, وتعود معرفته به الى العصر الحجري القديم وعثر على اثاره في جداريات الكهوف جنوب فرنسا وشمال اسبانيا وهي اقدم الرسوم المكتشفة بالعالم لحد الان, واصبح مع الاسود والاحمر من اهم علامات ورموز الحياة البشرية ولا يزال يلعب دورا رئيسيا في الرمزية الفكرية والمعتقدات والأيدولوجيات المختلفة, فهو يسود في التعابير الاجتماعية والروحية والنفسية للإنسان في مختلف الثقافات كتعبير عام عن النقاء والنظافة الروحية والجسدية والصفاء والعواطف المثالية, فهو لون الوضوح واليقين والبصيرة والمعرفة والعشرات من الصفات الايجابية الأخرى.

لكن اهم ما يتصف به الابيض في عالمنا الصناعي الحديث هو استعماله كنقيض للأسود، سواءاً بالصناعة او التجارة او الفنون او بالحياة العملية اليومية بشكل عام، فهو القطن النظيف والاوراق البيضاء، والمناشف المغسولة، وملابس الاطباء والممرضين والصيادلة وهو ذو الياقات البيضاء اولئك الذين يعملون بالمكاتب والدوائر البيروقراطية، وهو لون التضاد الذي تبرز عليه جميع الالوان الاخرى، والمئات من الوظائف الاخرى للأبيض، لهذا فأهميته بالصناعة أساسية.

بالإضافة الى استعماله الرمزي والمجازي في اللغة اليومية فهو الضوء الابيض الذي ينير الظلام ويقضي على العتمة وهو الذي يكشف ما تخفيه الظلمات وهو الذي يعمي اولئك الذين تعودوا على الظلام، وهو رمز الحقيقة ناصعة البياض، والمئات من التعابير والقيم الاخرى المعاكسة لما يحمله الاسود من معاني سود سيئة.

بدأ اللون الابيض يتطبع بالثقافة والعادات الاوربية وينتشر حول العالم منذ بداية عصر الاستعمار في القرن السادس عشر، واصبحت المفاهيم الاوربية القومية تطغي على المفاهيم المحلية للشعوب وتطوَّع وفقا لها، مع الغزو والاحتلالات ونهب المواد الخام وانتشار العساكر والجواسيس الغربيين وتجارهم بالعالم.

فالأبيض في القرون الوسطى الاوربية كان تقليدا واستمرار للتقاليد الرومانية، فقد واصل استخدامه المسيحيون الاوائل بنفس الطريقة، فمثلا كان المواطنين في روما يرتدون زياً ابيض يسمى توغا، مخصص للاحتفالات واخرى بيضاء ايضا يرتديها الباحثون عن المناصب العامة وتسمى توغا كانديدا (وكانديدا هي اصل كلمة مرشح الانتخابية في زماننا)
اما قبل ذلك في اليونان القديمة، فقد كان اللون الأبيض لونًا مقدسًا، ويمثل الضوء وحليب الأمهات.

وقد واصل الكهنة والقساوسة المسيحيون ارتداء الملابس البيضاء اثناء القداس مثلما استعمله الرومان في حياتهم اليومية او في المعابد، لان الابيض اصبح رمزا للنقاء والفضيلة، وتم تصوير الحمل المسيحي بالرسوم الجدارية والايقونات بالأبيض رمزا لتضحية المسيح، وكل هذه المفاهيم رومانية ويونانية صرفة انتقلت الى الديانة الجديدة بعد القرن الرابع الميلادي وسقوط روما, ومنذ تلك السنين ارتبط اللون الأبيض ارتباطًا وثيقًا بدلالاته الدينية المتمثلة في الاستشهاد والتضحية والتواضع واستمرت الى الان, وهذه هي الجذور الدينية لاتحاد الابيض بالنقاء في الثقافة الغربية.

غير ان الشرق لا يختلف في هذا الاعتقاد فالديانات الابراهيمية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام، لديها نفس المفهوم عن الابيض والضوء الابيض وكلها تربطه بالجنة والفضيلة والاعمال الصالحة، وفي نفس الوقت كل هذه الاديان تحتقر اللون الأسود وتعتبره لون الكفار والشياطين، لكنها تختلف في طريقة التعبير والاستعمال، ولم تجر عندنا المبالغة في الاستعمالات الرمزية على النحو الذي عرفه العالم الغربي، ويعود السبب في ذلك الى ان الاسلام وهو الديانة التي سيطرت على الشرق كان يمنع الرموز واستعمالها في نشر العقيدة الدينية، ويعاقب الرسامين والنحاتين واصحاب الحرف اذا تجاوزوا على تلك التعاليم.

فهذا الغزالي مثلا وهو من الفقهاء الفاشيين في تاريخ الاسلام يقول:
(وليتجنب المسلم صناعة النقش والصياغة وتشييد البنيان بالحصى، وجمع ما تزخرف به الدنيا، فكل ذلك كرهه ذوو التدين)، ثم يضيف في موقع اخر: (والصور التي تكون على باب الحمام او داخل الحمام تجب ازالتها على كل من يدخله ان قدر، فان كان الموضع مرتفعا لا تصل اليه يده فلا يجوز له الدخول الا لضرورة او ليعدل الى حمام اخر، فان مشاهدة المنكر غير جائزة، ويكفيه ان يشوه وجهها ويبطل به صورتها)، وغيرها الكثير.

هذا ما قاله هذا الامام المفكر التافه، وكان وقتها من اعلام زمانه، فماذا ننتظر ان يقوله الجهلة الاخرون من بعده؟
والغزالي هذا كان هو من كفّر ارسطو، وابن سينا، والفارابي، وقاوم الفلسفة ودعا الى هدمها وتكفير كل من يدرسها.

وهكذا وفي وقت لاحق، تطور الارتباط بالأبيض في هذه الاديان الثلاثة مع الطهارة الدينية إلى نقاء الجسد، والنظافة بجانب التقوى، كما في قول المسلمين مثلا: النظافة من الايمان

وهناك الكثير من مثل هذه الاقوال عند القساوسة والباباوات المسيحين ايضا، وأصبح الأبيض في الغرب ذو رمزية عالية الاهمية ومؤشرا على الطبقة والثروة، او كما يقال كلما كنت أكثر ثراءً، كانت بياضات ملابسك واغطيتك المنزلية أنعم وأكثر بياضًا وتعقيدًا، وكان الأثرياء يغيرونها كل يوم.

غير ان التطور العقائدي والفكري اتجاه اللون الابيض وعالميته لم يتحقق اوروبيا الا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وذلك بفضل عصر التنوير، ولا ينبغي ان ننخدع ونعتقد ان كل ما جاء به عصر التنوير الأوربي في القرن الثامن عشر كان ايجابياً وتحررياً، ففي ذلك القرن كانت تجارة العبيد على اوجها، وكانت حروب المستعمرين على اشدها، ففي أمريكا اللاتينية كانت مجازر الاسبان سائرة على قدم وساق، وفي الشرق كانت الاساطيل البحرية تغزو اسيا كلها، وشركة الهند الشرقية تفتك بالهنود والبرتغاليون والهولنديون في لاوس وكمبوديا وجنوب الصين.

وداخلياً كانت المجتمعات في صراعات وحروب دينية وبين الطبقات العليا والطبقات الفلاحية، ولكن كانت هناك أيضا يقظة فكرية كبيرة بفضل نضوج الأفكار الفلسفية والاجتماعية وظهور فئة المفكرين وأصحاب الثقافة التنويرية الجديدة، وعودة اوروبا الى سحر تراث وثقافة اليونان القديمة، على اثر الاكتشافات الاثرية الهامة التي قام بها المنقبون الهواة والنهابون السراق وتجار الاعمال الفنية والنحت الاوربيون، واكتشافهم لارث ثقافي هائل، ولتماثيل المرمر البيضاء القديمة والتي جعلتهم يعتقدون بان لون حجر المنحوتات الابيض هذا هو الذي كان سائدا وقد مجده الاغريق كجزء من قوانين الجمال والمثل العليا التي صاغها فلاسفتهم، فانتشرت لوحات الصور الشخصية وقد طغى عليها بشرة بيضاء تماثلا مع تلك المنحوتات.

وقد اشاع أولئك التجار بين النخب الارستقراطية ديكورات واثاث المنازل المصممة على النمط اليوناني القديم، مع تصاميم للأزياء والاقمشة والحلي والسيراميك المنزلي وغيرها الكثير، وترافق ذلك ايضا مع الولع بالفخار والسراميك الصيني والياباني الابيض او احادي اللون المتقشف في التصميم والزخارف، وايضا مع عودة الفنون الجميلة بالرسم والنحت والمعمار الى المثل الكلاسيكي اليوناني القديم، فانتشرت هذه (الصحوة) في عموم اوروبا وتسمى في تاريخ الفن بالفترة الكلاسيكية فاصبح الابيض لونا عصريا للرجال والنساء.

وبمجرد أن بدأ اللون الأبيض يكتسب شهرة بين النخب الأوروبية، ويصبح مثلا اعلى للجمال والنقاء والعلم والتحضر، بدأ المستكشفون والمستعمرون الاوربيون في مواجهة سكان المستعمرات الأصليين في أمريكا وغرب إفريقيا ودول جنوب شرق اسيا، بنشر التقسيم العرقي المقيت الاسود/ابيض، فصار عندهم البياض مؤشر على أن الملابس نظيفة، ولكن أيضًا كمؤشر عنصري كنوع من التحضر والكياسة التي يفتقدها الاخرين.

وبدأت رمزية الابيض القوية تكتسب دلالات أكثر قتامة وهمجية مع التوسع الاستعماري ونهب الشعوب، هذا المؤشر الذي تطور شيئا فشيئا الى الايديولوجيات العنصرية لإضفاء الشرعية على تلك العقائد وتمييز انفسهم عن باقي الاعراق، وهكذا ظهر مصطلح الجنس الابيض والعرق الاري والمقصود الأوروبيين ثم الدم الازرق وهم الأوربيين الاغنياء تحديدا، والجنس الاسود وهم الافارقة، ثم الجنس الاحمر وهم سكان امريكا الاصليين، والجنس الاصفر يعني الصينيين واليابانيين، ثم الجنس الاخضر وهم الاستراليين وسكان جزر جنوب شرق اسيا.

وقد انعكست هذه المفاهيم العنصرية الاوربية فيما بعد في الانتاج الثقافي للقرن التاسع عشر في الصحافة والادب والفنون بشكل واسع ثم انتقل الى باقي فروع المعرفة، كما تجسد بصريا في شعار الالعاب الأولمبية مثلا الذي تم تصميمه قبل الحرب العالمية الاولى، وهو يحتوي على خمسة دوائر ملونة على خلفية بيضاء كل لون يمثل قارة، الاحمر/امريكا-الاسود/افريقيا-الازرق/اوروبا-الاصفر/اسيا-الاخضر/استراليا والجزر المحيطة بها.
وكل هذه بُدَع تافهة اخترعها الاوربيون للتقسيم وتصنيف الأشياء والاحداث حسب نوعها او شكلها او لونها وهكذا، لا يعرفها الناس في القارات المستعمَرة.

ولم تبدأ هذه النظرة المثالية والعنصرية للابيض، بالتغيير الا في القرن العشرين حيث اثبتت الابحاث العلمية ان جميع تماثيل اليونان وروما القديمة كانت بالواقع تطلى بالألوان ولم تكن عارية، ولم يكن الابيض هو لونها في المعابد والاماكن العامة كما هو شائع، وان اصل الاجناس البشرية والعرقية واحد، ولايوجد اختلاف نوعي بين القوميات والأمم ولكن اختلافات بسبب المناخ وطبيعة المجتمع والتاريخ، وقد كان للافكار الاشتراكية الدور الطليعي في فضح هذه المخازي.

ومن المفارقات العجيبة هنا، انه وقبل أن يصبح اللون الأبيض رمزًا في اوروبا للنقاء وللثروة والنظافة والجنس الابيض في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، فقد كان اللون الأسود الذي تحتقره ديانتهم باعتباره لون الشيطان، أحد أكثر الألوان انتشارًا في القرن السابع عشر بين الملوك واصحاب المال والسلطة والقوة وهو القرن الذي سبق عصر التنوير والمليء بالحروب الدينية والطائفية والذي يصفه المؤرخين عادة بالقرن الاسود لهذه الأسباب.

وقد عاد الأسود الى ازياء الرجال الأوروبين ثانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبالضبط في نفس وقت ازدهار وصعود الأبيض الى قمة الهرم في الذوق الأوروبي، حتى ان كتاب مثل ديكنز وراسكن في انكلترا وبود لير في فرنسا كانوا يتساءلون عن السبب الذي يجعل الرجال في عصر الثروة والقوة الفائقة يلبسون ملابس الحداد وكأنهم ذاهبون الى الجنائز, وكتب بلزاك يقول: (نحن جميعاً نرتدي ملابس سوداء مثل الكثير من الناس الذين في حداد) ومثل هذه العبارات والتلميحات كثيرة في روايات ديكنز ايضا.

وفي السنوات اللاحقة، تم دمج رمزية الأبيض في أفكار النقاء العرقي، والتي تجلت بوضوح في اللغة النازية مثل (الصحة العرقية) والكثير من مثل هذه المصطلحات التي تتبناها حاليا المنظمة العنصرية الامريكية كو كلوكس كلان، وعموم النازيين الجدد.

في القرنين التاسع عشر والعشرين، كان اللون الأبيض قد اصبح لونًا مهمًا بالمجتمع يمزج بين الايدلوجية والوظيفة العملية، تجسد ذلك بوضوح في حملات التطهير الصحي التي اجتاحت المدن الاوربية بعد تفشي الكوليرا والإنفلونزا، فقد تغيرت منتجات التنظيف الخاصة بالغربيين كثيراً لتلائم الحاجتين الفكرية والاستعمالية، فمثلا كان صابونهم الى حتى انتشار تلك الامراض، مصنوعًا من دهون حيوانية مليئة باللون الأخضر القبيح والبني والرمادي، فطورت احدى الشركات صابونًا أبيض غير مكلف يمكن بيعه في قوالب في عام 1878 بلون العاج الأبيض – لون العاج الذي أثار النقاء والنظافة – وكان لهذا اللون بالصابون الجديد علاقة كبيرة بنجاحه.

وانتشرت في اوربا وأميركا ظاهرة مساحيق التجميل البيضاء والتي كانت لها شعبية كبيرة بين النساء بمجتمع الأغنياء، وتسببت في الكثير من الحالات في اتلاف بشرة الوجه والاصابة بامراض السرطان واعراضاً اخرى، لان غالبية تلك المساحيق كانت تصنع من مادة الرصاص، وهي تصنع من نفس المادة البيضاء التي يستعملها الرساميين باللوحات الزيتية ولكن بطريقة مختلفة، وقد منع انتاجها بعد الحرب العالمية الثانية بالتجميل، ومنع انتاجها كمواد رسم سنة 1994 على الفنانين .

وبحلول العشرينات من القرن الماضي، ارتدى الأطباء معاطف بيضاء وارتدت الممرضات قبعات بيضاء، وتم تزويد المستشفيات والعيادات بجدران بيضاء وأرضيات من البلاط الأبيض، وأصبحت الملابس الرياضية البيضاء أكثر شيوعًا ورمزًا للصحة والنشاط.

واصبح اللون الأبيض هو اللون المفضل لمهندسي حركة الحداثة، وكمثال دافع لو كوربوزييه 1887-1965 وأوسكار نيماير 1907-2012 عن هذا اللون بسبب جماليته البسيطة والصارخة، ومثلهم الكثير من الفنانين والمعماريين، على الرغم من أن اللون الأبيض تاريخيًا استعمل على المعابد والكنائس والمباني الحكومية لترمز إلى النقاء الديني والمدني، لكن الحداثيون استعملوه للتأكيد على الخطوط النظيفة والأشكال الهندسية للمباني.
لوكوربوزييه هو معماري سويسري/فرنسي يعتبر من رواد عمارة الحداثة، اشتهر في اسلوبه المسمى الاسلوب الدولي، كتب مرة يقول: (أن الجدران المطلية باللون الأبيض تتمتع بقوة تطهير روحية وأخلاقية، وأنه يجب على كل مواطن أن يستبدل الستائر، والنقشات، وأوراق الجداران وكل شيء بالمنزل بالمواد البيضاء).
انجز عددا كبيرا من المباني في اوروبا وبلدان مختلفة من العالم منها العراق بالخمسينات، وكان متعاطفا مع الفكر النازي.

اما اوسكار نيماير فهو معماري برازيلي واحد تلامذة لوكوربوزييه, لكنه شيوعي انجز حوالي ستمائة مبنى في البرازيل وحول العالم منها جامعة قسنطينة بالجزائر واسمها الحالي جامعة الاخوة منتوري, وجامعة حيفا في اسرائيل على جبل الكرمل, انضم إلى الحزب الشيوعي البرازيلي في عام 1945 ، واشتهر في دعمه الثابت له حتى وفاته, واصبح رئيسًا للحزب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي من عام 1992 إلى عام 1996 ،. وحصل على جائزة لينين للسلام في عام 1963، ثم منحه بوتين سنة 2007 وسام الصداقة الروسي الرفيع بمناسبة بلوغه المئة سنة من العمر، وكان من بين أصدقائه المقربين فيدل كاسترو، الذي قال مازحا في السنوات اللاحقة: ( نيماير و أنا آخر شيوعيين على هذا الكوكب), ولا ادري ان كانت هذه العبارة هي التي اخذها الشاعر سعدي يوسف من كاسترو فيما بعد ليلقب نفسه بها بالشيوعي الأخير، ام العكس.

معظم القراء اليوم الذين يعرفون الكاتب الامريكي مارك توين، لا يجهلون صورته ايضا في البدلة البيضاء من الكتان الأبيض التي اشتهر بها في السنوات الخمسة الاخيرة من حياته، والتي اصبحت لاحقا جزءا من شهرته أيضا، ومثل هذه البدلة البيضاء كانت سائدة وقت ذاك بين الطبقة الوسطى والاغنياء، وغالباً ما نراها الان في الأفلام التي تدور احداثها في تلك الفترة.
اما الكولونيل ساندرز – مؤسس سلسلة مطاعم كنتاكي فارتدى بدلة مشابهة لمارك توين في حفل منحه صفة عقيد فخري من قبل حاكم ولاية كنتاكي روبي لافون سنة 1949 وبعد فترة وجيزة، تحول العقيد إلى البدلة البيضاء، (مما ساعده على إخفاء بقع الطحين، وتبييض شاربه ولحية صغيرة لتتلاءم شعره الأبيض)، كما وصفته احدى الصحف.

من الناحية الفيزيائية فان المواد والاشياء التي نراها بيضاء هي تلك التي تعكس جميع الموجات عندما يسقط عليها الضوء، والضوء الأبيض يحتوي على مقادير متساوية تقريبًا من جميع موجات او الوان الطيف الشمسي، وينشط الخلايا المخروطية الثلاثة احمر-اخضر-ازرق في أعيننا المسؤولة عن الألوان.
ونتيجة لذلك، فإننا نتصور المواد التي لا تمتص اللون، وتعكس الضوء كله إلينا، على أنها بيضاء اللون، وهذه العملية هي التي تجعله شيئًا جذاباً جميلاً.

قال الرسام الفرنسي رينوار ذات مرة بان الابيض لا يوجد بالطبيعة، وفي نفس الوقت لا يوجد شيء اصعب من ان ترسم الأبيض على الأبيض، فهو ليس مجرد غياب للون. إنه شيء مشرق وإيجابي، شرس مثل الأحمر، واضح مثل الأسود، ورب العالمين يرسم بألوان عديدة، لكنه لم يرسم أبدًا بشكل رائع، كما يرسم باللون الأبيض.

فستان الزفاف الأبيض الذي ارتدته الملكة فكتوريا، والذي يعتبر أحد أكثر استخدامات اللون الأبيض تأثيرًا ثقافيًا ورمزيًا بالعالم كأعلان بصري سياسي وايديولوجي ايضاً، وتسبب بشكل كبير في إشاعة وزيادة استعمال العاج عالمياً وانقراض الفيلة، قد بدأ اخيرا يحتضر هو والافكار العنصرية التي انتجته، فبعد ان كانت الاعراس عند الشعوب تتم بمختلف الألوان والازياء واختصرت بعد ذلك الى الأبيض فقط، فان الكثير من العرائس المعاصرات، يرفضن الان هذا اللباس عمدا، ويخترن بدائل اكثر حداثة ومعاصرة، نظرا لأصوله المحافظة وكونه دليل على عذرية الإناث وتواضعهن، واصبح موضع مسائلة ومحاكمة بشكل متزايد.

ومع تقدم القرن الواحد والعشرين وتراكم المعاني الثقافية المختلفة للأبيض فقد تم توظيف العِلم لدفع المد الأبيض بعيدا عن معانيه العرقية والعنصرية التي لا اساس علمي لها ولأنها رسالة خاطئة، وللتغلب على الرجعية السياسية والدينية التي شوهته، وفي قلب هذا التحول، هناك وعي متزايد على ان العِلم سوف يُترجَم في النهاية إلى تحول ثقافي لندرك بشكل متزايد أننا نغير جمالياتنا باستمرار وأن النظافة والنقاء ليست ممكنة بالطريقة التي نحب أن نتخيلها فهي من الممكن ان تكون حمراء او خضراء او صفراء طالما تمكننا من تعقيم أجسادنا من الميكروبات الموجودة حولنا دائما, واننا لحد ما نرتدي اللون الأبيض دون وعي منا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة هروب طلاب في مستوطنة -كريات يام- بحيفا بعد دوي صفارات إ


.. نتنياهو: الشعب اللبناني على مفترق طرق وهو خياركم ويمكنكم ان




.. هغاري: لا نزال نبحث نتائج الغارة الجوية التي استهدفت القيادي


.. ما هي السيناريوهات الأكثر ترجيحا لرد إسرائيل على إيران؟




.. وزير الخارجية الإيراني: نرصد جميع التحركات وسنرد بشكل متناسب