الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طبيعة المنهج عند طه عبد الرحمان

هناء علالي

2020 / 12 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


1ـ طبيعة المنهج عند طه عبد الرحمان :
يعتمد "طه عبد الرحمان" على منهجية في مشروعه الفلسفي، تعتمد أساسا على المنطق الصوري،في معالجة المواضيع، فنجده يعتمد على التقسيم المنطقي للموضوع، ثمّ الاستدلال المنطقي لإثبات القضايا، وينطلق في هذا من أدوات فلسفية كثيرة تساعده في ذلك.
ويبدأ طه عبد الرحمان بالسؤال، باعتبار الفلسفة اشتهرت بالسؤال الفلسفي اليوناني والأوروبي الحديث، كذلك يعتبر الإشكال من أبرز المفاهيم الظاهرة عند "طه" لأنّه ركن أساسي في التفكير الفلسفي، فالإشكال عنده قضية جوهرية تنطلق مماّ هو جوهري في الموضوع، هدفه إحداث التقابل والإحراج، وكثيرا ما يقال أنّ حقل الفلسفة هو حقل توليد المشكلات، وباعتبار أنّ طبيعة الجواب في الفلسفة يقوم البرهان عليه بالحجاج والمحاجة فإنّ هذا يحضى بمكانة كبيرة في فلسفة طه عبد الرحمان.
ويستخدم "طه" الحجاج كآلية لإقناع المتحاور والمتلقي بطريقة عقلية، وكذلك فهو يعتمد على الحوارية التي تكمن أهميتها في أنّ الحوار يعطي حقوقاً ويُقرّ واجبات، وكذلك فإنّ من أهمية الحوار أنّه يعود بنا إلى الأصل، أي أنّ الحوار مع الآخر هو حوار مع الذات نفسها. ويكون الحجاج موفقاً بعدما يكون قد مرّ بعملية التحليل والتركيب والتمرّس في صياغة المفاهيم، فبعد عملية التحليل التي تعمل على تفكيك الكلّ إلى عناصره المكونة الواحد تلوى الآخر. والتركيب الذي هو إعادة تشكيل العناصر التي تمّ تحليلها، وبالتالي فهما خطوتين ضرورتين لأنّهما أساس الشرح والتوضيح والفهم.
ويعتمد "طه" كذلك في منهجية على ضرورة نحت مصطلحات جديدة نابعة من ثقافة وأصول إسلامية عربية، وضبطها ضبطاً صارماً وإعادة النظر في كلّ المفاهيم التي نتلقاها من خارج ثقافتنا، وفي هذا يقول:
"أخذت على عاتقي أن أقتحم مرحلة المصطلح على المستوى الفلسفي والمنطقي وألزمت نفسي على أن أعمل بأحدث الضوابط والشروط النظرية والمنهجية في وضع المصطلح العلمي، وأن أستثمر كل إمكانات اللّغة العربية، وأن أراعي خصوصية التراث الإسلامي..". فأراد بذلك أن تكون له مصطلحاته الخاصة والمتقاربة مع المجال التداولي الإسلامي و الموصولة به، فهو يصر على أن تكون المصطلحات ذات طابع أصولي أخلاقي، ديني، وهذا ما جعله يدخل مدخلا أخلاقياً لنقد الحداثة الغربية.
ولقد انتهج "طه عبد الرحمان" في بناء منهجه على آليات جديدة في تقويم التراث وتجديده، مستنداً دائماً على نزعة أصولية، ممزوجة بالتجربة الصوفية، أراد أن يُكوَّن بها رؤية جديدة للتراث.
وعلى هذا المنوال أراد "طه عبد الرحمان" تقديم مقاربة جديدة في التراث، وتقديم منهجاً جديداً،لتجديد العمل الديني، فالتراث بالنسبة له ليس نصاً مفصولاً عن الهوية، ولا هو مجرد مدونة للتأويل والقراءة، بل هو في آن واحد مضامين وآليات، نص وممارسة، تاريخ وواقع. فيرفض "طه" اختزال التراث في مضامينه النصية، والذي هو خلفية المقاربات التجزيئية السائدة في تناول "محمد عابد الجابري"(1936_2010) .
وكذلك يرفض "طه" تلك النظرة الحداثية للتراث إذ حاول الحداثيون نقل النّص من شروط إلهية إلى شروط إنسانية نفي محاولاتهم للقراءات الحداثية للقرآن الكريم، ورفع القدسية عن التراث، وقد عاب عليهم "طه" في دراستهم إستخدامهم لمناهج غير مناهجهم، وأرادوا إسقاطها على تراثهم .
وفي مقابل هذا أراد "طه عبد الرحمان" فتح آفاق جديدة في قراءة التراث، قراءة تحمل على الاهتمام بكلية التراث وجميع دوائره، لا الجزء منه. كما أراد ردّ الاعتبار لجوانب من الممارسة التراثية تعرّضت للتّغيب بفاعل الزمن ،وذلك خدمةً للتراث.
وهذا انطلاقاً من نظرة شمولية كلية وبأدوات مأصولة لا منقولة، لكي تحرر الإنسان من سلطة النموذج، وتفتح له سبل الإبداع، ويُلّخص هذا في قوله: "القراءة التكاملية للتراث هي النظرة التي تتجه إلى البحث عن التراث من أجل معرفته من حيث هو كذلك، على اعتبار أنّه كل واحد متكامل، لا يقبل التفرقة بين أجزائه، وأنّه وِحدة مستقلة لا يقبل التبعية لغيره.." .
وبهذا يرفض "طه عبد الرحمان" تورّط "الجابري" في التقويم التجزيئي للتراث والاعتماد على المفاضلة والانتقاء، ويدعو في مقابل ذلك إلى التقويم التكاملي للتراث وفصله عن كلّ الأغراض الفكرية والإيديولوجية والسياسية .
- تجديد المنهج في قراءة التراث :
وبعد الاعتراض على آليات ووسائل القراءة التجزيئية للتراث التي قال بها الجابري يعلن "طه" عن دعواه للقراءة التكاملية للتراث اعتمادا على آليات التداخل المعرفي، وهي التي تبرز الوحدة النسقية الداخلية للمعارف التراثية، وأماّ الآلية الثانية وهي آلية التقريب التداولي التي تكشف عن تلقي الوافد المنقول إلى السياق التراثي .
فالتقريب هو وصل بين طرفين اثنين ببعضهما، أحدهما "مصدر التقريب" وهي المنقولات الأجنبية، والثاني "مقصد التقريب" وهو المجال التداولي الأصلي. فأراد من خلال هذه الآليات أن يتم بها الوصل بين المنقول و المأصول، وهذا ما تهدف إليه القراءة التكاملية.
ولقد نهل "طه عبد الرحمان" فكرة التداخل المعرفي، من عالم الأصول الإمام "أبو إسحاق الشاطبي" (720-790) الذي اشتغل على تأسيس علم أصول الفقه وفقاً لمبدأ التداخل المعرفي ،فأراد إحداث توفيقات بين علم الأصول والمعارف المتداخلة مع هذا العلم شرط أن تكون هذه العلوم والمعارف قد خرجت عن انتسابها إلى مجالات علمية أخرى واندمجت مع علم الأصول اندماجاً يجعلها تخدمه وتفيده. وفي هذا يروم "طه عبد الرحمان" ما ذهب إليه "الشاطبي" ويأخذ عنه في مشروعه آلية التداخل المعرفي .
أمّا فيما يخصّ التقريب، فهو كلُّ نقل تصحيحي قائم على قواعد تداولية أصلية عقائدية أو لغوية أو معرفية حصل اليقين فيها، بتوسُّل آليات صورية تشترك في استعمالها جميع أنواع التقارب، ويتم هذا التصحيح بالتصرف في المنقول بالإضافة والحذف والتخصيص والإبدال والمقابلة حتّى يصير موافقا للمجال التداولي الذي نقل إليه.
ويعوّل "طه عبد الرحمان" على آليات التقريب التداولي في إعادة بناء العلوم الإسلامية من منظور الفلسفات والعلوم الإنسانية مُركزاً على المباحث المنطقية واللّسانية التي هي أساس المقاربة التأويلية. ولقد كان للفلاسفة المسلمين الفضل الكبير في تقريب الموروث اليوناني، إلى المجال التداولي الإسلامي، وذلك ما ظهر مع ابن حزم (384-456هـ) والفارابي(870-950م) في تقريب وترجمة المنطق اليوناني ومحاولة تطويعه مع البيئة الإسلامية .
فـ"ابن حزم" عُرف بتمسكه بالنص ومناولته للقياس الأصولي، وبالرغم من ذلك ألّف في المنطق دفاعاً عنه وتقريباً له، ونشر تعاليمه ومنهجه، وهذا ما ظهر في كتابه:"التقريب لحد المنطق والمدخل إليه". فلقد عدّ ابن حزم المنطق واحداً من العلوم الذي يرتبط بالفكر والبرهان، وأنّ الشرع يحثّنا على المعرفة والبرهنة على الحقائق، فاعتمد بذلك على تقريب المنطق للعامة من النّاس والمتعلّمين، وذلك عن طريق الترجمة والشّرح للمنطق اليوناني وربط المنطق بالشّرع والرد على منتقضيه .
ومع "الفارابي" اعتني بعلم الكلام منذ إقدامه على وضع مصنف في المنطق خاص بالمتكلمين بعنوان المختصر الصغير في المنطق على طريقة المتكلمين. فكان من أكثر الفلاسفة المسلمين المتطلعين على المنطق اليوناني، و عملوا على شرحه ونقله و تقريبه من المجال الإسلامي. فلقد عد "الفارابي" المنطق كمقوم للعقل كما يقوّم النّحو اللّسان، فضرورة المنطق في تقويم العقل كضرورة علم النّحو في تقويم اللغة وضبطها.
ومع علماء و فلاسفة الإسلام يتفق "طه عبد الرحمان" على فكرة تفاعل العلو مع بعضها البعض، فالمباحث الكلامية تتفاعل مع المباحث اللّغوية و الفلسفية، كما تتفاعل المباحث المنطقية مع المباحث اللّغوية و الأصولية، فأدّى هذا التفاعل إلى امتزاج مصطلحات العلم الواحد بغيره من العلوم و الأخذ بما يفيد التراث بعد التقويم و الإصلاح.
و من أبرز التقويمات و التقريبات الّتي قام بها "طه عبد الرحمان"، تتجلى من خلال نهله في قراءته الجديدة للتراث من الموروث اليوناني. فلقد تواردت على الممارسة التراثية منقولات تزامنت وتفاعلت فيما بينها، و كانت التربة الّتي نشا فيها التراث فحاول "طه عبد الرحمان" تقريب علم المنطق بوصفه أفضل نموذج للعلوم لانفراد في النظر المجرد لا يضاهيه فيها علم نظري فبكون أحق بالتّقريب لذا وجب إخراجه عن وصفه التجريدي إلى وصف عملي يجعل عباراته راسخة في الإستعمال العادي، و أدلته مستخرجة من النصوص الشرعية، و نتائجه موصولة بأسباب التطبيق النافع للغير نفعه للذات.
و كذلك يعمد "طه" إلى تقريب علم الأخلاق بوصفه أفضل نموذج للعلوم العملية المنقولة، لأنّه علم عملي لا يضاهيه غيره. فيكون أحق بالتقريب لذا وجب إخراجه عن وصفه التجريدي إلى و صف عملي إلى وصف عملي يجعل مفاهيمه موصولة بالمدلولات اللّغوية المستعملة و أحكامه مستمدة من الأحكام الأخلاقية المنصوص عليها شرعاً.
فكان للأخلاق و المنطق المكانة الكبيرة في قراءة التراث عند "طه عبد الرحمان" وذلك كونهما علمان عمليان يسهمان دائما في إعطاء الجديد كذلك فإنّ ربط التراث بالمنطق الجديد يعني تطويره و ربطه بالأخلاق يعني تهذيبه، و بالتّالي يصبح التراث كما أراد "طه عبد الرحمان" إرث حضاري إسلامي متكامل، وهذا ما يهدف إليه المنهج الجديد.
غير أنّ ما يهدف إليه "طه عبد الرحمان" لم يرق أصحاب المشاريع النقدية إذ رأو في استناده فكرة المجال التداولي الإسلامي ما هو إلا إحساس عنصري مادام يتشبّث بالدّين الإسلامي و العقلانية، فهو بذلك يفتح باباً للتميز العنصري، فتصبح بذلك هوّةٌ بين الأنا والنّحن. كذلك فإنّ دعوى "طه عبد الرحمان" بأنه لا طريق للتّجديد إلاّ عبر الرقابة المفتعلة لقواعد وأصول المجال التّداولي الإسلامي مرفوضة لأنّ التقريب التّداولي يسع إلى تقديم ممالك محروصة بالمجال التّداولي و مقموعة بقواعده، فهو بذلك يخلط بين وفاء الأمة لدينها و بين الخصائص القومية هذا من جهة، و من جهة أخرى فإنّ هناك تناقضاً فيما يدعو إليه طه عبد الرحمان وذلك من خلال تمسكه بفكرة المجال التّداولي ودعوته للحوار مع الآخر مادام إختراق قواعد المجال يعد خرماً لأصوله.

)- سمير أبو زيد،فلاسفة العرب :طه عبد الرحمان ، ضمن موقع،http/www.philosophe arabe.com.le 12 /03/2011
)- أدوات التفلسف عند طه عبد الرحمان، ضمن موقع http/www.Fauadmathes_ifrance.com .le18/04/2011 .
)- المرجع نفسه .
)- طه عبد الرحمان ،حوارات من أجل المستقبل، دار الهادي،بيروت،لبنان،ط1،1424،2003،ص55.
)- السيد ولد أباه ،أعلام الفكر العربي :مدخل إلى خارطة الفكر العربي الراهنة ،الشبكة العربية للأبحاث، بيروت، لبنان، ط1، 2010 ،ص 72.
)- طه عبد الرحمان ،تجديد المنهج في تقويم التراث ،المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء،بيروت ط1،1994،ص 23.
)- المصدر نفسه ،ص 16.
)- المصدر نفسه ،ص 16.
)- المصدرنفسه، ص 90.
)- المصدر نفسه، ص 93.
)- طه عبد الرحمان، تجديد المنهج في تقويم التراث، مصدر سبق ذكره،ص 94.
)- حنّا الفاخوري و خليل الجر، تاريخ الفلسفة العربية في الشرق و الغرب، ج 2، دار الجيل، بيروت لبنان، ط3، 1993، ص 106.
)- المصدر السابق، ص 293.
)- طه عبد الرحمان تجديد المنهج في تقويم التراث، مصدر سبق ذكره، ص 294.
)- إدريس هاني، الإسلام و الحداثة: إحراجات العصر و ضرورات تجديد الخطاب، دارالهادي، بيروت لبنان، 1426 ،2005،ص 162.
)- عمر كوش،أقلمة المفاهيم








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا تعلق كل المبادلات التجارية مع إسرائيل وتل أبيب تتهم أر


.. ماكرون يجدد استعداد فرنسا لإرسال قوات برية إلى أوكرانيا




.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين: جامعة -سيانس بو- تغلق ليوم الجمعة


.. وول ستريت جورنال: مصير محادثات وقف الحرب في غزة بيدي السنوار




.. ما فرص التطبيع الإسرائيلي السعودي في ظل الحرب الدائرة في غزة