الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يمتدح نيتشه ديونيزوس ، إله المعاناة واللذة

الحسن علاج

2020 / 12 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


برنار إيدلمان
ترجمة : الحسن علاج
كتب فيلسوف القانون ، برنار إيدلمان (Bernard Edelman) واحدا من من الكتب النادرة جدا مبرزا تماسك الفكر النيتشوي ـ قارة مفقودة ( 1999 ، puf ) ـ في حين كانت الفاشية تعتبره مفكرا مفكّكا ، متناقضا ، متصرفا بواسطة جوامع الكلم . يبرز هنا ، في هذا النص الذي عهد به إلينا ، كيف سعى نيتشه إلى " التفكير في ما لا يمكن تصوره " : القبول بأن العالم لا معنى له ، رفض دجل الكينونة والإله ، قول نعم إلى المعاناة كما إلى الفرح .
 من هو نيتشه ؟ ما هو رأي نيتشه ؟ إلى أين يسير ؟ ، فإذا وضعنا أفلاطون ، أرسطو ، ديكارت ، سبينوزا ، كانط ، هيغل موضع نيتشه ، فإن تلك الأسئلة تصبح غير لائقة تماما ؛ سيُقال لنا : اقرؤوهم من البداية ، وستحصلون على الأجوبة ؛ سيتضح لكم نسقهم في واضحة النهار . على أنه لما يتم الشروع في قراءة نيتشه ، كل شيء يصاب بالتشوش : بقراءة المرء ، بنفس الاهتمام ، ولادة التراجيديا ، المعرفة المرحة ، في ماوراء الخير والشر ، هكذا تكلم زرادشت ، إرادة القوة ، إلخ . ، ثم يخرج مبهورا بذلك ومشوشا . منبهر ، لأن ثمة بريق يأخذ يتلابيبكم ، تحليلات محذرة بخصوص حداثتنا ؛ مشوش ، لأن المرء يعثر فيها على هذيانات شعرية ، يأس لا حد له مثل أنين ظل زرادشت ، ظل " مغامري المثال " ، عديمي الجنسية ـ " أين هو ـ موطني ؟ ذاك هو ما أسأل عنه وأبحث ، وعنه بحثت طويلا ولم أجده . أواه أيها الأبدي في كل مكان ! أيها اللامكان الأبدي ، أواه اللاجدوى ـ الأبدية ! 1 "
    نيتشه ، فيلسوف ، شاعر ، " متنور " ؟ مؤلف عمل بعيد الاحتمال يبذل قصاراه دون أن يعثر على هويته الخاصة ، من نص غير مكتمل قطعيا يقارب ، في الفوضى ، كل القضايا ، ينتقل من الكوزمولوجيا إلى الأخلاق ، من الأخلاق إلى العلم ، من العلم إلى البيولوجيا ، من البيولوجيا إلى الديموقراطية ثم إلى فاغن أو بودلير ، دون احتساب الشذرات السيرذاتية ؟ بحيث أن كل واحد بإمكانه قطف ذلك على مهل ، جني حكمة مشابهة ، " اعتبار لازمني " مشابه ، يستفيد من بريق مشابه . لأنه سيقول كل شيء ونقيضه ثم إن " تصوراتـ " ـه ـ " إرادة القوة " ، ال" ديونيزوسية " ، ال" عود الأبدي " ، العدمية ، الإنسان الأعلى ... ـ تصبح اتفاقية ، طبيعة تنسجم مع تأويلات بعيدة الاحتمال .
    دعونا نترك تلك الأمكنة المشتركة ، كل تلك السلاسة . لا يعتبر نيتشه " مقروءا " بالنسبة لأولئك الذين يقرؤونه بعيون ال" عقل " ، إنه " لا يُتصور " بالنسبة لأولئك الذين يرغبون تفكره بأدوات ال" فكر " . إنه مفكر لما لا يتصور ، لما هو خارج الفكر " ـ وهناك يكمن " سر" ه : كيف يمكن " تفكر " ما " لا يتصور " ؟ ليس لجعله " مدركا " ، لأنه سيتم السقوط في فخ الفلسفة ، بل بتقدير طبيعة للامتصور حتى الهذيان ؛ مع " عيشه " في جسمه ، في لحمه ، مع عضلاته ، أعصابه ، " قلبـ" ـه ، مع وعي أن جسده ، هذه ال"أنا" الأخرى ، يدرك بشكل أفضل أن الفكر [هو] " حقيقتـ"نا الإنسانية . فلو قبلنا باقتفاء أثر نيتشه ، السير في أثر هذا المستكشف ، فإن قارة أخرى تظهر وتستضيء : التصورات التي بدت لنا غير لائقة ، التحليلات الاجتماعية التي تراءت لا تطاق ، رجعية ، شمولية ، عنصرية ، نسالية ـ احتقاره للبرلمانية ، القيم الديموقراطية ، المساواة ، والحرية ـ تنتظم وتشكل كلا متماسكا . لنفهم جيدا ؛ لنتفاهم جيدا ؛ إنها ليست ، بالنسبة لنا ، مسألة " مقاضاة " نيتشه ، الحكم إثبات خطإه أو صوابه ، أن نعمل منه وثنا أو مجنون خطير ؛ يتعلق الأمر بفهمه ، بقبوله ، التعاطف معه ـ وبعد ذلك ، على كل واحد أن يكون حرا استنتاج أن يكون أو يكون ـ نيتشويا .
    إن نيتشه ، في الحقيقة ، هو هيراقليطس الأزمنة الحديثة ، هيراقليطس الذي كان سيعرف كوبرنيكوس ، كيبلير ، نيوتون ، الديناميكا الحرارية ن الذي كان سيقرأ لامارك وداروين ، وشهد ولادة البيولوجيا ، والذي كان سيضع تاريخ الغرب وراء ظهره ـ نهاية الوثنية ، المسيحية ، التصنيع ، ظهور الطبقة الكادحة ، التيوقراطية ... ـ ، هيراقليطس الذي كان سيقوم بتثمين الناس بالنسبة للكوسموس .
    الذي كان قادرا على فهم الفوضى .     يندرج تاريخ البشرية ، في نظر نيتشه ، ضمن هذا التناوب ؛ لقد كان ثمة لحظة مباركة ، لحظة إعجازية ، حيث قبل الناس بالفوضى ؛ إنها لحظة ما قبل السقراطية ، لحظة هيراقليطس ، ديونيزوس والأبولونية . ثم أتت الأزمنة المرعبة للمسيحية : لاذ الإنسان بالإله وانقلبت إرادة القوة ـ مبدعة ، فعالة لدى الإغريق ، ستتدنى ، أصبحت سلبية ، وعندما مات الإله موتة طبيعية في سن متقدمة ، فإن القيم السامية " تمت علمنتها " ، تحولت الطبيعة إلى يوطوبيا روسوية (نسبة إلى روسو ) وقد تمت الرغبة بداخلها بحل رموز المثال والطيبة . تحولت المحبة المسيحية إلى أخلاقية لطيفة واتخذت الديموقراطية على عاتقها المساواتية المسيحية . وفي الوقت الحالي ؟ نحن نوجد على حافة عالم يقول نيتشه ، على حافة عدمية ، وربما نحن على وشك بناء مستقبل جديد واستعادة صحة الإغريق العظيمة ، التي تتجسد في صورتين مكملتين : هيراقليطس وديونيزوس .
    إن هيراقليطس متغطرس ، لهذه العجرفة الكبيرة التي يرفض باحتقار أن يتميز عن الجمهور ؛ إنه ينتقل منفردا ، لأنه لا يوجد أي مكان يستطيع استقباله ؛ فلا هو يوجد في الماضي ، ولا في الحاضر ، ولا في المستقبل ، لكن في مكان أبعد من الزمان . تصدر رباطة جأشه عن رؤيته للصيرورة : قام الأول برفع الستارة على الكون ، رأى الأول " مثول القانون في قلب الصيرورة واللعب في قلب الضرورة 2  " . لا وجود إلا لعالم واحد وهذا العالم ليس هو الكينونة لأنه في حالة صيرورة . كل ما يصير ، كل ما يصير موجود ، ثم إن الكينونة ليست شيئا آخر سوى تدمير الكينونة من تلقاء نفسها . نشوء وتدمير ، تلك هي ميزة الصيرورة التي تعتبر سلبا للكينونة .وإذا ما كانت الكينونة هي الصيرورة ، وإذا كانت الصيرورة هي سلب الكينونة ، فلأن الكينونة هي ذاتها في صراع ، تنشطر ، إنها قوة منقسمة إلى شياطين متميزين ومتعارضين واللتين تسعيان إلى الاتصال بعضهما بعضا . ثم إن النموذج ال" بشري " للفوضى ، سيتخذه هيراقليطس في المبارزة ، التي كانت في الملاعب
التي أطلقت العنان للحقد ، الشراسة ولذة الانتصار .
    لم يكن هدف المبارزة هو الفوز على الخصم ، إنهاكه ، بل المنافسة ، لذة المعركة . ففي المبارزة كما هو الحال في الصيرورة ، ليس ثمة نهاية ، بل معركة تستأنف باستمرار ، ثم إن تلك المعركة تتم تحت علامة العدالة . كما أن كل واحد في المعركة ، يقاوم من أجل حقه ويقدر أن نصره مستحق ، ونفس الشيء في الفوضى ، كل قوة ترغب في التغلب على الأخرى ، لسبب وحيد للصراع الموعود ؛ لذلك فإن الصراع الداخلي هو العادل ، ضرورة عالم في طور الصيرورة يتشكل ويعاد تشكله . بعبارة أخرى ، إن قانون الصيرورة هو العدالة الوحيدة ؛ يكون النشوء والتدمير عدالة ، ال" نعم " التي تصبح " لا" ، ال"لا" التي تصبح " نعم " . دون علمهم بذلك ، كان الإغريق يلعبون الفوضى يتفلسفون لاعبين . إلى جانب هيراقليطس ، امتدح نيتشه ديونيزوس ؛ إله البطولة الإنسانية ، إله الحكمة التراجيدية ، الذي ركب خطر حث الناس على أن يعيشوا الكون في لحمهم ، في أجسادهم ، القبول بألم تلك المغالاة ، أن يسكنوا ويحبوا القدر ، fatum) ( . إله المغالاة ، يسعى ديونيزوس إلى ملاقاة القوى الديماسية يفجر قصور الأوهام إلى شظايا ، يدمر كل شيء ، بدون رحمة ، الأكثر " نبلا " مثل الأكثر انحطاطا ، بغية التماهي مع المبدإ . إنه ال" حياة العضوية " ، تلك التي لم تكن تعرف لا خيرا ولا شرا ، لا أخلاقا ولا احتراما ، بل فقط [تعرف] لذة الوجود من أجل الوجود ، لذة ما ينبغي أن يأتي ، لذة ما يعتبر مستقلا (...) ينتقل ديونيزوس من معنى إلى آخر ، من غريزة إلى أخرى ، من شكل إلى آخر ، إنه نبتة ، حيوان ، إله ، شيطان ؛ إنه المتعدد قيد الصيرورة ؛ يدخل إلى أي جلد مهما كان ، يتحول ، إنه فائض  و ، وحينما يكون فائضا ، لا يكون ثمة خوف من أي شيء بما أنه يتم الابتكار باستمرار . هكذا تسير المغالاة ، هائلة ، عديمة الشفقة ، متوحشة ، مهيجة ، دائما على الطريق لكنها مؤلمة للغاية أيضا . لأن ديونيزوس نيتشه لا يعاني من ألم " ديني " ، من نوع : الله هو الذي وهبني الحياة وعلي " استرجاعـ" ـها ؛ لكن بألم لا أخلاقي ، ضروري ، لأنه يلازم الحياة . " الألم لا يعي ذاته إلا بواسطة العائق ، يعتبر الألم جزءا مكملا لكل نشاط . تصبو إرادة القوة إذن إلى العثور على مقاومات ، الألم . ثمة إرادة المعاناة في قلب كل حياة عضوية 3 " .
    يعاني ديونيزوس لكن بشهوة حسية ؛ يعاني من شراسته الخاصة ، قوته الخاصة . زد على ذلك، فكيف سيكون إذا عالم بدون ألم ؟ كريه ، دميم ، تكراري ، بدون لذة . يعتبر الألم حافزا ، وكل حالات اللذة هي حالات معاناة . تقود الشراسة إلى الهدم ـ ينزل المرء ـ ، لكنها تسمح بالتجديد ـ يصعد المرء ـ ، على أنه بإمكان المرء أن ينتشي من جديد ـ يصعد المرء ـ تموت الغريزة المشبعة في المرارة ـ لكن من أجل أن تولد من جديد ، أكثر قوة ، أكثر عنفا (...) الكل يصعد ـ إنها اللذة ـ والكل ينزل من جديد ـ ثم إنه ألم الانحدار ـ من أجل الصعود مرة أخرى . لابد من المعاناة من أجل المتعة . والحياة ذاتها تصبح رقصا : ، قدم للسقوط  قَدم لوثبة ، قَدم للسقوط ... كان الإيقاع ، في الموسيقى القديمة ، يتبع نبرات الزمن ؛ يصور التعاقب الألم واللذة . ماذا قال زرادشت للرجال ؟ تعلموا الرقص ، أحيوا في جسدكم اللذة والألم ، إيقاع الصيرورة والعود الأبدي في نفس الزمن الذي ترقصون فيه : " أيها الناس الراقون ، إن أسوأ ما فيكم هو أنكم لم تعبروا فوق أنفسكم راقصين ! وما ضركم إن أنتم فشلتم ! لكم ما تزال هناك من الأشياء الممكنة ! فلتتعلموا إذا أن تمضوا فوق أنفسكم ضاحكين ! لترفعوا قلوبكم أيها الراقصون ، عاليا وأعلى ! ولا تنسوا أن تضحكوا ضحكا جيدا أيضا ! ؟ .
ــ
برنار إيدلمان (1938) فيلسوف ومحامي ، كان يحاضر بالمدرسة العليا للأساتذة . من أعماله : نيتشه . قارة مفقودة puf , 1999) (
1 هكذا تكلم زرادشت ، 4 " الظل " .
2 نفس المرجع ، الصفحة 40 .
3 IV,§ 534     v.p.,
4     z, IVDe l’homme supérieur ,20 IV
مصدر النص : Le Monde , hors série 2019 : friedrich Nietzsche , L’éternel retour








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيطاليا: تعاون استراتيجي إقليمي مع تونس وليبيا والجزائر في م


.. رئاسيات موريتانيا: لماذا رشّح حزب تواصل رئيسه؟




.. تونس: وقفة تضامن مع الصحفيين شذى الحاج مبارك ومحمد بوغلاب


.. تونس: علامَ يحتجَ المحامون؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بعد لقاء محمد بن سلمان وبلينكن.. مسؤول أمريكي: نقترب من التو