الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحقل السياسي في تونس وتأثيره الاجتماعي إبان الفترة البورقيبية

محمد الهادي حاجي
باحث متحصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع

(Hajy Mohamed Hedi)

2020 / 12 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الحقل السياسي في تونس وتأثيره الاجتماعي إبان الفترة البورقيبية:
تعتبر الظاهرة السياسية ظاهرة ثقافية لا يمكن فصلها عن الثقافة الاجتماعية، لذلك يكون تأثيرها فاعلا في القيم والتصورات الاجتماعية، فالتحولات في الحقل السياسي للمجتمع التونسي المعاصر أحدثت النقلة النوعية في القيم الاجتماعية لدى المجتمع. فتكريس التعددية الحزبية والتمثيلية السياسية، والحقوق والحريات الأساسية وحرية المرأة وتوطيد الانتماء للوطن وبناء ما يسمى بــ"الأمة" ودسترة مبدأ المواطنة في الحقوق والواجبات.. كلها أفكار وجدت في الخطاب السياسي التحديثي لتونس المعاصرة من طرف النخبة السياسية، التي بادرت منذ الفترة الاستعمارية، خاصة مع تأسيس الحزب الدستوري الجديد إلى المراهنة على هذه الأفكار وتسريب الثقافة السياسية الجديدة لبث وعي سياسي جديد لتحقيق النضال السياسي، وتوحيد الصف الوطني في البداية، ثم بناء المجتمع الجديد بعد الاستقلال. فهذا الخطاب يؤكد على الوعي السياسي اللازم للقيام بعملية التغيير، وهو العامل المحدد لمواجهة المستعمر وبناء الدولة، وهذا النوع من الـتأطير والتعبئة لم يكن موجودا، حيث كانت المنطلقات الدينية هي الدافع لمواجهة المستعمر باعتباره "الكافر"، وقد تبلورت المرجعية الوطنية الضيقة، وظهرت فكرة "الأمّة" في مفهومها القومي الضيق، وهي فكرة مهمة على اعتبار تداعياتها المرجعية.
فتكريس حزمة من الحقوق الفردية ذات الصبغة الفردانية مع التركيز على الواجب الذي هو أيضا فردي، خاصة أمام الدستور والقوانين الوضعية، هو من شأنه أن يجعل الأفراد متساوين أمام القانون، لكنهم أيضا يحملون استراتيجيات لا يمكن فصلها عن المصلحة الذاتية ومبدأ تحقيق الربح الفردي في المستوى الاجتماعي والاقتصادي المادي.
و لئن كانت جملة القيم الحقوقية والاقتصادية من تداعيات التحول في المستوى السياسي، إلا أن هذا المستوى الأخير لم يخل من إفرازات سلبية أهمها الشخصنة واختزال الدولة واختصارها إلى شخص الحاكم، ممّا جعلها امتدادا لنفوذه وسلطاته، أي ما يعبّر عنه ماكس فيبر بالملكية الخاصة عند تحليله للنموذج السلطاني في المجتمعات الإسلامية، وكذلك الباتريمونيالية، وهي خاصية أساسية تتحول فيها الدولة إلى إرث أبوي أين يتحول الحقل السياسي إلى ملكية أسرية، خاصة موروثة وقابلة للتوريث، ويمكن القول في هذا السياق أن التحولات السياسية أنتجت قيما اجتماعية إيجابية كالمشاركة السياسية والديمقراطية وتجسيد روح المسؤولية من خلال الحرية والتمثيلية، غير أن هذه القيم السياسية تتداخل والقيم التقليدية المبنية على العروشية والجهوية والقبلية، رغم أهمية الانتماء، فإن البعض يرى بأن الولاء السياسي إذا تحول إلى ولاء قبلي فإنه يهدد الإطار الفكري والبرنامج السياسي المبني على الكفاءة ، خاصة وأن هناك توترًا بين والتشكيلات الاجتماعية التقليدية والدولة .
عملت النخبة السياسية بقيادة بورقيبة على التخلص من كل العلاقات والروابط التقليدية العائلية والعشائرية والقبلية، وإلغاء المحاكم الشرعية، وإيقاف التعليم الزيتوني وحلّ الأحباس، وإصدار مجلة الأحوال الشخصية التي تمنع تعدد الزوجات، وتحويل مقار الإسلام الطرُقي (الزوايا) إلى مراكز للحزب الحر الدستوري وتعميم التعليم الفرنكو-العربي( ). وقد أبدى الشبان الدستوريون حماسة كبيرة في الاهتمام بقضايا تتعلق بالدين والتقاليد والحجاب والجنسية، وعبروا عن "موقف تاريخي أكثر من موقف ايديولوجي"( ) ضمن خطاب جديد "يعتمد الدقة والواقعية لبرنامج عمله، ولم يكن متصلبا وجامدا بل كان متغيرا في محتواه ولهجته وأسلوبه حسب الجهة التي يتوجه إليها، فهو مدافع عنيد عن التقاليد التونسية ومظاهر الشخصية الوطنية، وفي نفس الوقت منتقد لاذع لجمود الشعب وخموله"( )،ويمكن القول بأن هذه الجماعة الحزبية ونزوعها إلى الحداثة جعلها تتجاوز مرحلة النضالات النخبوية وتشرك جميع القوى في صلب العمل الوطني، وبث الثقافة السياسية في جميع الأماكن ولدى جميع الفئات والطبقات خاصة الشعبية منها واستنهاض الأمة بمفهومها الضيق بما فيها المدن والأرياف على حد السواء( ).
فالعقلية التحررية والنزوع إلى الحداثة ميزا النخبة الوطنية منذ حركة الشباب التونسي بالخصوص وأصبح فيما بعد سمة ملازمة للقيادات الدستورية( ). وقد تطورت النضالات النخبوية لتتسع لأوسع الفئات من خلال بث الثقافة السياسية في جميع الأوساط والطبقات، وذلك بعقد الاجتماعات في القرى والبوادي والأوساط، وهو ما جعل الحزب الدستوري يفتح الفرصة للعمل السياسي في الأرياف ويخلق نوعا جديدا من التفاعل والاحتكاك بالمواطنين، وهو تدخل لم تعرفه التنظيمات السياسية السابقة فتبلورت مفاهيم جديدة في الحقل السياسي مثل "البرلمان"، "الانتخابات"، "النضال"، "الحزب"، "الوطن"، "الأمة"...
و من هنا جاءت محاولة النخبة السياسية المراهنة على هاجس التحديث المتعلق بإعادة تشكيل الإنسان سياسيا وحضاريا وثقافيا، ومن ثم تبلور المقاربة السياسية في طريقة التعامل مع البنى التقليدية القبلية، ومقاومة التشتت القبلي والعشائري، هذا على الأقل على المستوى النظري، ومحاولة تجميع السلط والاتجاهات في مركز سياسي دولاتي والتوحيد المؤسساتي ومركزة السلطة وضمان فاعليتها، وقبول المجتمع بها، ولا يكون ذلك إلا بمقاومة العروشية والنزعات القبلية على الأقل في مراحل بناء المجتمع المنشود حسب تصوّر النخبة السياسية.
التي قدمت نسقا جديدا من الرؤى والتصورات حول المجتمع ، وذلك كان نتيجة المؤسسات والجمعيات والهياكل المدنية ذات التوجهات والبرامج الاقتصادية والاجتماعية، وهي أطر طورت التفاعلات والعلاقات مع الآخر، وهو ما أدى إلى نشأة تراتبية جديدة تبنى على أرضية المشاركة الواسعة للمواطن في الريف. وهي تطورات لم تكن موجودة في المجتمع التقليدي، فالمساواة في المشاركة السياسية أمام انفتاح الحقل السياسي والإداري وحضور مؤسسات الدولة في التأطير والتوعية جعل من الأفراد يرتقون في السلم الاجتماعي في إطار حراك جديد نتيجة التحول في الوعي السياسي في الريف( ). ويمكن الإشارة في هذا الإطار إلى أن الدولة أصبحت هي التي تلعب دور الفاعل في حياة الفرد، فكل ما يتعلق بالخدمات أو ظروف العيش أصبح من مشمولات مؤسسات الدولة، وهي وظائف كانت تقوم بها الهياكل التقليدية والبنى القديمة العائلية أو العشائرية أو القبلية. وهي خدمات تقدمها الدولة مقابل الولاء المركزي ولتحقيقه في نفس الوقت. فالتعليم والصحة والتنمية والتشغيل هي مهام موكولة للدولة تكفّلت بها بعد ضعف التجمعات القبلية والعشائرية وذلك بحماية الأفراد باعتبارهم ذواتا بشرية أولا ومواطنين ثانيا وصيانة ممتلكاتهم، وكان ذلك نتيجة التحول في المجال السياسي وبروز المفاهيم السياسية الجديدة( )، وقد استطاعت الدولة أن توظف لفائدتها السجلات الثقافية ورموز الهوية الجماعية ومختلف الأنماط الشرعية للنظام الاجتماعي والسياسي( )، وأن تحكم القبضة على المجتمع بعد الاستفادة من نمط التنمية المشبع والسيطرة على آليات إفراز النخب ورسم التوجهات الثقافية وتوجيه مسارات التغيير الاجتماعي( ).
حددت الدولة الوطنية الولاء الوطني للفرد وأعادت صياغته، مما أتاح الحديث عن "الشعب" ومفهوم الوطن، وهي مفاهيم تقطع إلى حد ما مع السلطة التقليدية في تلويناتها الدينية والقبلية ضمن السلطة المحلية المتعددة الأوجه، وقد صار هذا التبدل نتيجة تطويق المؤسسات التقليدية، والمركزية والسيطرة على مختلف القطاعات في الاقتصاد والاجتماع لتحقيق توطين الدولة الوطنية في البنية الذهنية والثقافية للمجتمع ويقول محمد نجيب بوطالب في هذا الإطار أن "تدخل الدولة منذ بداية الاستقلال أدى إلى شمولية المراقبة وافتكاك مشروعية السلطة المحلية من المشايخ والزوايا والقبائل، وقد أدت الوظيفة والتعليم والانخراط السياسي إلى حصول تبدلات جوهرية في مراكز النفوذ السياسي والاقتصادي"( ). قد قامت الدولة ببناء منظومات رمزية وعقدية، مهمتها الحفاظ على الانتماء القطري وجعله مصدرا للشرعية، وعدم القبول بأية شرعية أخرى مهما يكن مصدرها أو محتواها أو دعائمها ومرتكزاتها( ).
وقد سعت الدولة الوطنية في هذا الاطار إلى تثبيت هوية إجتماعية جديدة، من خلال الخطب السياسية المباشرة لقادة الحزب الدستوري الجديد، خاصة بعد الاستقلال في إطار ما يتعلق بالسياسة التعبوية والمشروعية التاريخية ومن خلال مقولات جديدة عن الريف، مستساغة ومقدمة في صياغة مبسطة تتلاءم وتتماشى مع جغرافيا الزمان ويقول عبد الوهاب بوحديبة في هذا السياق "لقد اندمج التونسيون على امتداد ربع قرن من الزمن في عمل مكثف من إعادة الذاكرة الذي شمل مختلف المستويات"( ).
فمن خلال عملية التدخل في المجتمع الريفي ومحاولة كسب معركة "البناء" أو "الجهاد الأكبر" كما يسميها الخطاب السياسي، تبلورت الأفكار والتصورات الجديدة التي تنبني على أرضية علائقية اقتصادية واجتماعية ومجالية شديدة الارتباط بجهاز الدولة. فأصبح هناك حراك اجتماعي يسمح بتكافؤ الفرص بين المواطنين الذين تدرجوا في مكانتهم الاجتماعية بفضل التعليم والوظيفة العمومية خاصة في الأوساط الريفية، كالفلاحين الصغار وأصحاب الدخل المحدود والفئات الشعبية، وهي شرائح وجدت نفسها مشاركة في مرحلة البناء الوطني. ومن هذا المنطلق فإن هذا المجتمع قد تعرض إلى عملية تغيير ممنهج ويظهر ذلك من خلال اهتمام الدولة ببناء المجتمع وتدعيم قيم المواطنة ومحاربة التخلف و"بدأ التوجه إلى الأفكار والمظاهر الثقافية أكثر من توجه إلى هياكل وبنى قائمة "( ). ويقول بورقيبة في إحدى خطبه السياسية في خطاب ألقاء بالمكناسي يوم 6 نوفمبر 1968 "إن كل ما يعيننا على أن نسرع خطانا نحو التقدم... وأسباب النجاح الذي عليه المعوّل قبل كل شيء هو التعاون مع بعضنا واجتناب تفرقنا"( ). ويقول في خطاب ألقاه بنفس المكان في 22 فيفري 1973 "واجب علينا أن تزول من الأذهان إلى غير رجعة النزعة القبلية"( ). هذا تدليل واضح على مقاومة النزعات التقليدية المتمثلة في القيم القبلية والثقافة التقليدية كالافتخار بالنسب والأجداد ومقاومة مظاهر الفروسية. وعدم الاعتراف بالغزو والإغارة التي يعتبرها البعض أعمالا بطولية وإعلاء شأن العمل وإعطاء قيمة للتعليم، والتمهيد لتفكير جديد ونبذ كل ما يتعلق بأساليب الحياة القديمة التي تقف معرقلا للتنمية وتحقيق الرقي الاجتماعي( ).
ثم أنه وجبت الإشارة إلى أن المجتمع وخاصة الريفي قد تعرض إلى تغيير منذ احتكاكه بالمستوطنين الأوروبيين أو الذين جندوا في الجيش الفرنسي وشاركوا في الحروب "فليس من قبيل الصدفة أن تنطوي الأغاني الريفية والبدوية التي لا يزال يرددها الناس إلى اليوم على الكثير من الكلمات الفرنسية( )، ومهم الإشارة إلى أن النخبة السياسية التونسية زمن الاستعمار سعت إلى استغلال الطاقات الكبيرة بالريف وربط تحركاتها بالفلاحين بعد القيام بتركيز الخلايا الحزبية في الأرياف والبوادي ووقع تزويدهم "بصياغة واضحة وناجعة لتطلعاتهم الاجتماعية والسياسية"( ). وهو ما يسّر انفتاح هذه الأوساط على الأفكار الجديدة من خلال احتضانها لمقولة "الوطن"( ).و تعتبر هذه الإشارة على درجة كبيرة من الأهمية كي لا يفهم أن تسريب الأفكار السياسية ومفاهيم الحقل السياسي ارتبطت بفترة ما بعد الاستقلال فقط، وللإشارة إلى الاحتكاك المبكر بين المجتمع والاستعمار والنخبة السياسية، مما يجعله متقبلا للأفكار السياسية التي تؤثر في البنى الاجتماعية التقليدية مستقبلا.
فانتشرت قيم جديدة تعتبر إيجابية مثل قيم العلم والإرادة الحرة والعقلانية وحب العمل الفردي والجماعي وتنمية الموارد المادية، واحترام الوقت وإعطائه القيمة الضرورية، وهي قيم يعتبر الهادي التيمومي الاستعمار قد كرسها بطابعه التوطيني، خاصة في المناطق التي تواجد فيها بكثافة( )، عكس المناطق التي تعتبر محافظة جدا، وهي التي لم يقطنها المعمرون ويقول أن عوامل مثل "ضمور العديد من الهياكل التقليدية أو اضمحلالها، وخضوع السكان لنفس القوانين والمؤسسات والتراتيب الإدارية وتمرسهم بأصناف جديدة من التنظيمات السياسية والاجتماعية من أحزاب ونقابات وجمعيات ومؤسسات تمثيلية، وخاصة عيشهم نفس المحنة على امتداد ثلاثة أرباع قرن، وهي محنة الخضوع للاستعمار الفرنسي كانت نتيجتها ميلاد مجموعة وطنية متجانسة نسبيا، وذلك بعد أن كانت بذور الفرقة في صفوف السكان كثيرة"( ).
وهو ما يمكّننا من القول أن تسريب الأفكار السياسية لم يكن جديدا ففكرة الوطن كانت حاضرة في ذهنية الفلاح، كما هي في ذهنية الحضري في المدينة. وهو ما ساهم في تشكيل الوعي الوطني( ).
فحتى القبائل التونسية لم تكن خارج تصور الوطن التونسي ويظهر ذلك جليا فترة الاستعمار في مواجهة الاحتلال، خاصة تلك التي استقرت واندمجت في علاقة بالسيادة الوطنية "على المجتمع المحلي وعلى أرضه وممتلكاته، سعيا إلى قطع احتمالات النفور والتمرد والانسلاخ"( ). وقد انتشر الوعي الوطني في الأرياف والبوادي وأصبح هناك رموز بطولية لدى السكان مثل "لزهر الشرايطي والطاهر لسود والعجيمي وبن مبروك ومصباح الجربوع وحسن بن عبد العزيز وعمارة زلوغة وهلال الفرشيشي وأحمد لزرق وبلقاسم البازمي والطيب الزلاق"( ).
و يقول التيمومي في هذا السياق "كان لهذه القبائل وعي بوجود فضاء معين وهو البلاد التونسية، إذ كانت تجمع هذه القبائل والسكان الحضريين وحدة الأرض ووحدة اللغة ووحدة الدين، كما أن تضاريس البلاد المحدودة الارتفاع لم تحل أبدا دون تمازج هذه القبائل بعضها ببعض أو دون تمازجها بالسكان الحضريين. كما أن تنقلات أفراد هذه القبائل منذ آلاف السنين من الوسط والجنوب في اتجاه الشمال للمشاركة في الحصاد (الهطاية) أو للرعي بقطعانهم (العشابة) أو في اتجاه الجريد لشراء التمر، لا يمكن إلا أن تخلف لدى سكان هذه القبائل شعورا بوجود فضاء اقتصادي واحد تربط بين أجزائه علاقات تكاملية هو "البلاد التونسية، ولا أدل على ذلك من حمل الإناث في أوساط هذه القبائل لأسماء مثل تونس أو توزر أو نفطة، وهي أسماء مدن مثل الحدود الشمالية والجنوبية للبلاد الصالحة"( ). لأن الاندماج الاقتصادي كما يقول بوطالب يؤدي إلى إدماج ثقافي من خلال القيم الجديدة مكان القيم القديمة، فتطور عمليات التبادل عبر إدخال وسائل النقل والاتصال الحديثة إلى الأرياف وكذا انتشار الملكية الخاصة، أدى إلى انتشار النزعات الفردية والعلاقات الثانوية، ما أدى إلى تغير في أسس الاندماج الاجتماعي إذ تصبح علاقة الصلة بين الفرد والمجموعة المحلية والوطنية علاقات وثوقية، تعاقدية، مدنية قائمة على المصلحة الفردية وعلى المحاسبة المضبوطة بقوانين، وبمقابل ذلك تتلاشى الصلات القائمة على القرابة والتضامن الآلي والشخصانية المؤسسة على علاقات أولية تحددها الأعراف المحلية التي تطمس هوية الفرد في هوية الجماعة"( ) ويظهر التغير على مستوى الوعي الثقافي من خلال الاندماج الجديد في فضاء يختلف عما كان، فالعلاقة بين البدوي والمرعى والخيمة والانتجاع تغيرت بتغير الوعي والذهنية وطرق التفكير. فالوعي العصبوي والأسطوري الذي يعتمد أحيانا الخرافة والوهم والاعتقاد الراسخ في التقاليد تبدل في اتجاه وعي جديد يعتمد المعرفة العلمية وهو ما يؤدي إلى بروز الأفكار ذات الخلفية السياسية والفكرية، ليصبح هناك "تمثل لقيم وهويات جديدة"( ). وقد تبلور وعي جديد تسرب للريف بعدما كان يتسم بصبغة روحية واجتماعية تنزع للدين في الشعور الوطني، هذا الشعور الذي اتسم بصبغة سياسية، خاصة وأن علاقة الريف بالمركز أي بالسلطة تميزت بالتبعية والإخضاع( ). وجدير بنا الإشارة في هذا السياق إلى أن الزاوية كمؤسسة دينية قد ساهمت بشكل تدريجي في تبلور الوعي الوطني واحتضنت مواقف الرفض للاستعمار، وهو شعور ديني في بداياته اختلط بعد ذلك بالشعور الوطني، ومنه نشأت بذور الحركة الوطنية الجنينية والمقاومة، إلى أن برزت النخبة السياسية بقيادة الحزب الجديد الذي استوعب بتنظيماته الأرياف وعمل على دمجها في بوتقة العمل الوطني، مما أدى إلى تغيير في المؤسسات التقليدية كالميعاد والمجلس القبلي، ودعم الانتماء للوطن التونسي مما جعل المجتمع الريفي متفاعلا بوعي جديد مرتبط بالكيان الوطني التونسي. ويمكن القول في هذا السياق أن الهياكل والأطر مهما كان نوعها حزبية أو مدنية قد ساهمت في تكريس تراتبية جديدة تختلف عما هو تقليدي.
"فهناك من جهة الإيمان بالقضاء والقدر والطاعة والامتثال والتلاؤم والشعور بالعار (لا بالذنب)، والتركيز على قيم الرحمة والإحسان أكثر من قيم العدالة والمساواة، وهناك من جهة ثانية قيم الاعتماد على الذات (لا على العائلة) والنفور من الطرق الدينية والأولياء وقبول تحرر المرأة ولو على مضض"( ).
"و ما يجب تأكيده هو ميل عناصر هذه الشرائح الوسطى (النخبة السياسية) إلى الاعتدال والحلول الوسطى والسلمية والأفكار الليبرالية التي تنادي بالعلمنة وبإرساء نظام عقلاني يتساوى فيه جميع السكان في الحقوق والواجبات، ويشمل فصل دواليب الدين عن الدولة وتوحيد قانون الأحوال الشخصية وتعصيره، واعتبار القوانين ذات طابع نسبي تتغير بتغير أحوال المجتمع"( ). وهذا مهم في مجتمع مقبل على تغيرات كبيرة، أهمها الفعل السياسي الذي لم يعد مصدره السلطة التقليدية سواء القبلية والعشائرية أو المتجسد في السلطة المركزية أو المخزن، بل أصبحت هناك مؤسسات أخرى ومفاهيم جديدة تحدد خصائص الدولة الوطنية مثل الحزب والنقابة والجمعية ثقافية أو رياضية أو مدنية( )،و تبلور مفاهيم الشعب، الانخراط، الإضراب، الأمة، التنمية، الانتخاب،... هذا بالإضافة إلى المفاهيم على المستوى الإداري والتكنولوجي والاقتصادي والإعجاب باللغة الفرنسية والتعلق بالاستهلاك واعتبار العطل والترفيه ضرورة لا ترفًا( )، وهذه التصورات لا يمكن فصلها عن الشرائح الوسطى العصرية التي قادت مرحلة البناء الوطني وبناء المجتمع فترتي الاستعمار إبان الثلاثينات وصولا لما بعد الاستقلال وهي فئة متشبعة بالوعي السياسي ولها الشعور القوي بالانتماء للوطن التونسي، ومتشبعة بفكرة التونسة"، ومتأثرة بالبناء السياسي الأوروبي والطموح لتحقيق أنموذج الدولة الأمة على الشاكلة الأوروبية( )، مما سيحقق الاندماج بين الدولة والمجتمع وإعادة النظر في المتركزات التقليدية من خلال أساليب العمل البيروقراطية وأشكال التقسيم الإداري، ومركزة الدولة وتركيز هيبتها، وإعلاء سلطة القانون وإعطاء الأهمية للتعليم ومقاومة كل أشكال التفرقة والتشتت والسلط الموازية على مستوياتها المتعددة، وهو ما من شأنه أن يقلص روح الانتماء للأطر الماتحت- وطنية كالقبيلة والعرش والعشيرة والجهة، لصالح ولاء وطني تونسي ضيق لا يلتقي مع ولاءات ما فوق وطنية أيضا. وهذه الهيمنة على الحقل الرمزي على حد تعبير بيار بورديو وإحكام توجيهه اعتمادا على عديد الوسائل كالخطاب السياسي، وسائل الإعلام، التعليم، التشريع، إعادة النظر في الدين... كلها تلخص طبيعة المقاربة السياسية للنخبة التونسية المعاصرة، وهو ما يطرح استتباعات هذه الرؤية أو التصور على المجتمع.



محمد الهادي حاجي –باحث في علم الاجتماع -تونس








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر مصرية: وفد حركة حماس سيعود للقاهرة الثلاثاء لاستكمال ا


.. جامعة إدنبرة في اسكتلندا تنضم إلى قائمة الجامعات البريطانية




.. نتنياهو: لا يمكن لأي ضغط دولي أن يمنع إسرائيل من الدفاع عن ن


.. مسيرة في إسطنبول للمطالبة بإيقاف الحرب الإسرائيلية على غزة و




.. أخبار الساعة | حماس تؤكد عدم التنازل عن انسحاب إسرائيل الكام