الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأصل الأفريقي للحضارة المصرية القديمة (3)

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2020 / 12 / 10
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


من المتعارف عليه في علم التطور أن الإنسان الأول عندما فقد شعره وبدا جلده ظاهرا ليختلف عن بقية أجناس الحيوان أنه بدأ في اكتساب ألوان الجلد تبعا للقرب والبُعد من خط الاستواء، فكلما كان البشر أقرب لهذا الخط كانوا سودا، بينما لو كانوا أبعد بشكل يكونون فيه أقرب للقطبين الشمالي والجنوبي يكتسبون البشرة البيضاء، وهذا سر بياض النياندرتال ومن ارتبط به من شعوب وقبائل تزاوجت مع الإنسان الأفريقي بأماكن أخرى من العالم..

وطبقا لهذه الحقيقة التطورية فالإنسان المصري كان قاتم اللون وداكن البشرة ، أولا : لقُربه من خط الاستواء عن القطبين، ثانيا : لوجود مانع مائي كبير يمنعه من التواصل مع النياندرتال في أوروبا وهو البحر المتوسط، ولو فرضنا أن شبه جزيرة سيناء تصلح كمعبر للتواصل فنكون أمام مانع صحراوي كبير يصعب العيش فيه والاستقرار بعيدا عن الزراعة التي عرفها المصري هذا الزمن، وبسببها استقرت حياته بالقرب من النيل، فكلما يبتعد المصري عن النيل ينخفض مُعدل وجوده، وهذا المانع لم يكن فقط شبه جزيرة سيناء بل الصحراء الشرقية وسيناء ،مما يعني أن المصري القديم كان يعيش وسط جزيرة نيلية بين عدة صحاري منعته من الهجرة المعاكسة كما حدث مع شعوب أخرى بحثت عن الهجرة لمصر لعوامل المناخ ووفرة المياه.

ولتأكيد هذه الحقيقة أن سواد البشرة الإنسانية مرتبطا بخط الاستواء أن جلد الشمبانزي أبيض اللون حتى من يعيش في أفريقيا منهم بالقرب من خط الاستواء لأسباب تغطية الشعر جميع جسم الشمبانزي..فيقوم الشعر بدور العازل والحاجز بين أشعة الشمس والجلد، فلو تخلى الشمبانزي عن شعره مثلنا لتحوّل لونه إلى الأسود بالتدريج كما حدث للإنسان.

وخلافا للنظرية الشائعة أن الهجرة البشرية حدثت فقط بحثا عن الغذاء والماء، لكن المشهور طبيا يقول أسبابا مختلفة بأن الهجرات البشرية بعيدا عن خط الاستواء كانت أولا: لاكتساب فيتامين D الذي فقده الإنسان الأسود بعد أن تحولت الصبغة السوداء لعازل بين الجلد وحرارة الشمس لإنتاج ذلك الفيتامين المهم للعظام والمناعة، ثانيا: للهروب من السرطانات الجلدية التي تسببت فيها أشعة الشمس القوية عند خط الإستواء بعد فقدان أسلافنا لشعرهم، وهذا يفسر وجود اللون الفاتح من الأسمر (القمحاوي الداكن) كلما اتجهنا شمالا عن خط الاستواء، فأسلافنا المصريون كانوا من ضمن هؤلاء المهاجرين بحثا عن حياة أفضل ومناخ جيد مناسب على مدار زمني طويل بلغ مئات الآلاف من السنين.

لاسيما أنه ومثلما حدث للمصريين حدث للجنوب أفريقيين أيضا، حيث يملك سكان جنوب أفريقيا بشرة بُنية قمحاوية شبيهة بالتي رسمت على جدران المعابد المصرية ومن أمثال ذلك شعب "الخوسان" Khoisan people والأغرب أن هذا الشعب ملامحه أسيوية أقرب للمغول والترك وأشهر من خرج من هذا الشعب العظيم ..المناضل (نيلسون مانديلا) بملامح تشبه كثيرا شعب أندونيسيا وشرق آسيا من نفس البيئة المناخية، في إثبات كما قلنا بين بين الجغرافيا والطقس وبين شكل الإنسان، فطبيعة المعيشة والغذاء تؤثر على الشكل بمرور الزمن، وكذلك شعب السان San people الذي هو أقرب شبها للخوسان في اللون.

وطبقا أيضا لنظرية التطور وبالخصوص قاعدة الانتخاب الطبيعي فكل تحد للكائنات تنجح في عبوره تكتسب بناءً على نجاحها مُقوّمات وصفات جديدة، كاكتساب السود والزنوج مثلا مادة "الميلانين" المقاومة لسرطان الجلد..وكذلك الشمبانزي الأفريقي للمناطق العارية في جسمه، بينما الذين هربوا من هذا التحدي ذهبوا شمالا ناحية البحر..وبالتالي لم يعودوا بحاجة لإفراز الميلانين لذهاب خطر السرطان

وأميل إلى أن مسار الهجرة لأسلاف المصريين حدث بالقرب من النيل ولم يبتعد عنه لأسباب خاصة بالزراعة واعتماده على النيل كليا في الغذاء، وبالتالي وصل الإنسان الأفريقي مصر لهذه الأسباب، وهنا وقفة مهمة أن المشهور مصريا في قصة الإنسان الأول أن المصري نزل من الجبال للأودية والسهول لزراعتها..وفي الحقيقة لو كان ذلك صحيحا لزرعت أودية وسهول الصحراء الشرقية بعد النزول من جبالها المرتفعة، ولوجدنا فيها مستوطنات قديمة بدلا من النيل، أو لزرعت سيناء بعد نزول المصري من جبالها الجنوبية..لكن جميع مستوطنات مصر في الحقيقة حدثت بالقرب فقط من النيل..وهذا سر قداسة ذلك النهر في حضارة مصر القديمة..بيد أنه لو كانت لأودية وسهول أخرى فضلا على حياة المصري الأول لذكرها..أو رسمها في المعابد كإحدى طرق المعيشة..لكن التاريخ المصري القديم يحكي حصريا أن نمط حياته الزراعي كان متوقفا فقط على النيل.

كذلك فهجرة أسلاف المصريين تأثرت بمناخ الصحراء الكبرى فجاء إلى النيل كل من تضرر من جفاف وقسوة الصحراء بعد العصر الجليدي الأخير قبل 20 ألف عام، فالتاريخ الأركيولوجي يثبت مناخا مختلفا وطبيعة مختلفة للصحراء الكبرى قبل العصر الجليدي، بدليل ما عثر عليه من حفريات لتماسيح في منطقة "تاسيلي ناجر" بالجزائر، وحفريات كثيرة لديناصورات عرفت ب "الأفروفيناتور" مما يدل بشكل مؤكد على وجود حياة عُشبية كثيفة في منطقة الصحراء قبل جفافها لاعتماد هذه الكائنات الضخمة على الأعشاب والمراعي اللازمة لحياة فرائسهم، ومن هذه النظرية يكون السلف المصري مهاجرا ناحية النيل كلما زادت مشكلة التصحر حتى وصل إلى النهر واستقر على ضفافه.

وأما الذي يقول بالأصل الأبيض فيقفز عن هذه الأمور ويكتفي بأن اللون المصري الجنوبي في الصعيد والنوبة تغير فقط بهجرة العبيد الأفريقي للشمال، وهذا خطأ من عدة نواحي:

الأولى: أن هذا القول ناتج عن فرضية سلف الرقيق للنوبيين والصعايدة، وفرضية أخرى باختلاف البشرة المصرية عن النوبية، برغم أن شامبليون وعلماء الحملة الفرنسية اعترفوا بأن نقوش المصري القديم لم تكن تفرق بين نوبي ومصري..وأن الجميع ذوي بشرة واحدة بنية داكنة على المعابد والقبور، وتقديري الشخصي أن مصطلح "نوبي" لم يظهر قبل الهجرات الأوروبية في العصر البطلمي لأنه وريث تلك الحقبة، والمعنى أن المصري نوبي، والنوبيون مصريون ثقافة ولغة وشعبا ولونا..أما التفريق فحدث منذ قدوم الرجل الأبيض في الشمال خصوصا في مستوطنات جديدة وثقتها مجلة نيتشر غرب الدلتا وهي "الإسكندرية" إضافة للفيوم التي كانت مهدا للحضور الروماني وقتها.

الثانية: كُتب التناخ رغم عدم حجيتها العلمية لكنها مرجع تاريخي لتصور الشعوب لبعضها، فهي تصف الشعب المصري ب (الحامي) أو الأسود المنحدر من حام ابن النبي نوح، وبرغم ما يُثار عن أسطورية القصة لكنها كشفت عن تصور قديم جدا عند كُّتاب التوراه لأصول المصريين الداكنة، فكيف يكون الأصل المصري أبيض في ظل هذه الشهادة الموثقة، ونفس الشئ لعلماء اليونان الذين رأوا الشعب المصري داكن البشرة أو ينتمي لسكان أفريقيا السوداء، وفي هذا التحقيق العلمي لواشنطن بوست تفاصيل مهمة..

https://www.washingtonpost.com/archive/opinions/1987/10/11/the-black-roots-of-egypts-glory/1c3faf74-331c-4cc1-a6a0-3535fa3e098a/

الثالثة: أن الهجرة اللازمة لتغير لون شعب كامل لا يمكن أن تحدث لمجرد استقدام عبيد، والتاريخ يشهد أن أكبر الدول في التاريخ استقداما للعبيد لم تتغير نسبة السود فيها لأكثر من 13% وهي الولايات المتحدة الأمريكية..علما بأن الأقلية الأٍسيوية تمثل 10% من مجمل عدد السكان، فهل كان الأسيوي عبدا أيضا أم أن هناك عوامل أخرى لزيادة نسب المهاجرين خارج إطار الرق والاستعباد؟..هنا يبطل الاستدلال فورا بقصة العبيد هذه التي أراها ساذجة..فاللون المصري الغامق والداكن منتشر في محافظات الصعيد ويزداد قتامة كلما اتجهنا جنوبا، وهي ظاهرة لم تكن لتحدث بمجرد استقدام عبيد..بل للعوامل التطورية المذكورة والمرتبطة بالمسافة اللازمة عن خط الاستواء.

هنا التحقيق العلمي لا يكتفي لإثبات العرق بلون البشرة فقط، فهناك عوامل أخرى كشكل الجمجمة وملامح الوجه والشعر والأزياء والثقافة المادية عن الأدوات والحروب..وغيرها، ولذلك قصدت مناقشة أصالة مصر أفريقيا من جوانب متعددة لا الوقوف على مجرد الألوان بل خضنا في مساحات متنوعة من علوم التطور والتاريخ والأنثربولوجي والأركيولوجي مع طرح الأسئلة الفكرية التي توضح الصورة الفوتوغرافية عن مصر القديمة بشكل أكثر وضوحا.

وأذكر أن مدعي الأصل الأبيض لم يُجيبوا عن سر اعتماد المصريين القدماء بعد الملك أحمس على العجلات الحربية قبل الهكسوس..وهذه حقيقة مشهورة عن التاريخ المصري لكن السؤال المتضمن فيها يكاد يكون صادما للذهنية المصرية الحالية، وهو أنه طالما لم يعرف المصري القديم حربا بعجلات حربية قبل الهكسوس فهذا يعني أن الثقافة المادية له عن المعارك لم تعرف ما ألفه الأسيويون واستعملوه..فكيف يقولون أن المصري بجذور بيضاء شامية أو قوقازية؟..فلو كان ذلك صحيحا لعرف العجلات الحربية قبل أحمس على الأقل، وهو التاريخ المفترض أنه سجل أولى هجرات الأسيويين لمصر في القرن 14 ق. م ولم نعثر في التاريخ على حقيقة خروج الأسيويين من مصر كليا بل انتهت قصة ملوك الهكسوس بظهور أحمس فقط وتكوين الدولة الحديثة..

ولمن يقول أنه لم تكن هناك حاجة لعجلات حربية للمصريين لأنهم لم يحاربوا ويغزوا الدول الأخرى قبل أحمس، أقول أن تراتيل الملك "سنوسرت الثالث" في الدولة الوسطى وخلال القرن 19 ق. م كانت تقول أمرا مختلفا

https://www.ucl.ac.uk/museums-static/digitalegypt/lahun/kinghymns.html

ويظهر من كلام الملك المصري أنه كان يحارب بدو الصحراء الليبيين الذين هددوا مُلكه في الفيوم، وهو أقدم إثبات على أن مناطق الصحراء في ذلك العصر كانت ساكنة في ظل التفريق بينها وبين مناطق الحضر المصرية بجوار النيل، وأن الهجرات الأفريقية شمالا راعت ظروف الصحراء الكبرى من ناحية مناخية، وتحديات الإنسان الاستوائي الأول في البحث عن مناخ جيد وصحة ملائمة له بعيدة عن أضرار أشعة الشمس، لذا فالسؤال المطروح: كيف لم يعرف سنوسرت حروبه بالعجلات الحربية وقد كانت سمة أسيوية في الشام والأناضول مع فرضية الأصل القوقازي؟ وكيف تأخر اكتشاف هذه التقنية لما بعد قدوم الهكسوس إلا تأكيدا لحقيقة تاريخية أن المصري كان ينتمي لأفريقيا جنسا وثقافة..

إنما لا يعني ذلك وجود علاقات حسنة بين ملوك مصر وشعوب الجنوب، بل ذكرت فيها أقدم معارك السلطة المركزية المصرية في عصر "سنفرو" بالدولة القديمة، وتعددت معارك ملوك مصر فيها أيضا في الدولة الحديثة وتم تدوين ذلك في معبد أبيدوس الذين كان يحكي حربا بين رمسيس الثاني وبين شعوب الجنوب (نوبيين وزنوج) ليس تفريقا بين المصري وهؤلاء لكنها من قبيل الحروب الأهلية، وتقديري أن الشلالات الستة على النيل وصولا لمثلث الخرطوم شكلت لحد كبير صراعات الملوك المصريين مع شعوب هذه المناطق، فالحروب تبقى دافعها الأصلي ضعف السلطة المركزية بما يؤدي لتمرد الجماهير فيضطر الملك لحشد الجنود وضبط الأوضاع..وهذا ما كان يجري منذ عصر سنفرو إلى الرعامسة.

فالنيل عند المصريين القدماء لم يكن مجرد نهر جاري يفيض بالماء والحياه، بل وسيلة انتقال وثقافة تحكم طبيعته الجغرافية والطبوغرافية عديد من العوامل كالاجتماع والسياسة، وهذا نلحظه من اختلاف الألون والثقافات واللهجات تبعا للمسافة بين هذه الشلالات وبعضها، حتى أن التدوين المصري والسوداني يذكر حضارة kerma النوبية بمعنى سلطة متفردة جنوب الشلال الرابع سقطت في عصر الدولة الحديثة كما هو مبين في هذا الرابط..

https://www.ucl.ac.uk/museums-static/digitalegypt/nubia/kerma.html

ويبقى أن علاقة المصري القديم تبعا لهذا السياق التاريخي كانت مرتبطة أكثر بأفريقيا ليس لأنها قارته الأصلية ولكن لأهمية نهر النيل في حياته، ولا يعني ذلك انقطاع الصلة بينه وبين آسيا فالتاريخ الأركيولوجي يثبت وجود صلة سياسية بين ملوك مصر وملوك العراق مثلا كما هو مبين في آثار "تل العمارنة" لإختاتون، كذلك يثبت بشكل طفيف وجود علاقات مع الساحل الشامي بأسماء بعض الملوك المصريين في آثار لبنان وفلسطين، لكنه حضورا ليس بمعنى الثقافة والسلطة لكنه حضور علاقات دبلوماسية وتجارية أراها طفيفة جدا لا تشكل برهان على انتماء المصري القديم لآسيا، فلو كان هذا الانتماء ثابتا تاريخيا لرأينا ثقافة ومعابد مصر منتشرة في الشام على سبيل المثال..وهذه الفكرة موجهة لأصحاب الأصل الأبيض مدعومة بسؤال جوهري: لو كانت أصول المصري القديم شامية أو قوقازية لماذا لم يبني المصري في الشام وآسيا (أهرامات ومعابد وقبور وتماثيل ضخمة) واكتفي بذلك على طول ضفتي النيل؟

لنا عودة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لم يكن مجرد نهر جاري يفيض بالماء والحياه
هاني شاكر ( 2020 / 12 / 11 - 03:17 )

لم يكن مجرد نهر جاري يفيض بالماء والحياه
______________

يا تبر سايـل بين شطين ؛ يـا حـلـو يـا اسمـر
لولا سمــارك جـوّا الـعيـن ؛ ما كانــ تنـوّر
يا ريحـة من الأحبـاب ؛ يـا نيل
وأهل مـش أغــراب ؛ يـا نيل
يا حلو يا اسمر

عبد الحليم حافظ
سمير محجوب
محمد الموجى

...

اخر الافلام

.. الضفة الغربية: مقتل 7 فلسطينيين بنيران القوات الإسرائيلية في


.. زيلينسكي يطمئن الأوكرانيين ويعيد التأكيد على الحاجة الماسة ل




.. الأطفال في لبنان يدفعون غاليا ثمن التصعيد في الجنوب بين -حزب


.. ردود فعل غاضبة في إسرائيل على طلب إصدار مذكرات توقيف بحق نتن




.. جيل شباب أكثر تشدداً قد يكون لهم دور في المرحلة المقبلة في إ