الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاستنساخ البيولوجي لبني البشر

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2020 / 12 / 11
التربية والتعليم والبحث العلمي


أُعلن منذ فترة قصيرة عن إطلاق مشروع استنساخ الكائن البشري بشكل ملموس في مختبرات سرّية في دولة أو دولتين من دول العالم الثالث. ويسوّق القائمون على هذا المشروع بأنّ هذه المحاولة هي محاولة دولية تتمّ بمبادرة مجموعة من العلماء والأطباء وتمولها مجموعة من الشركات الكبرى العالمية. وقد أعلن ذلك الدكتور زافوس (Panayiotis Zavos)، مدير معهد طب الذكورة في كنتاكي في الولايات المتحدة الأمريكية، في تصريح لوكالة فرانس برنس، ومؤكداً على أنّ عمليات نقل الصبغيات بهدف الاستنساخ البشري ستتم عملياً - إن لم تكن قد تمت- دون تحديد للتاريخ والمكان الذي تجري فيه، وزاعماً أنّ هناك عشرة أزواج غير قادرين على الإنجاب سيشاركون فير هذه التجارب.
ويبدو جلياً أنّ هذه المجوعة من الأطباء والعلماء الذين يعملون في دولة أو دولتين من دول العالم الثالث في مختبرات سرّية، ينالون تمويلاً كبيراً لتأسيس مثل هذه المخابر البحثية ذات الكلفة المهولة.

وصرح الطبيب السالف الذكر وبالنيابة عن فريق عمله بأنّهم استطاعوا عملياً نقل النواة وصبغياتها البشرية وزرعها في خلية بويضة حيوانية أزيلت نواتها لتوضع محلها النواة البشرية، وهذا هو مبدأ الاستنساخ، ومعلنين بأنّهم في طور التجريب العملي لهذه التجربة على خلية بويضة إنسانية.

و تقوم الطريقة التي سيعمل بها هؤلاء العلماء على إنتاج أجنّة عبر نقل نواة خلية من أحد الوالدين إلى خلية بويضة أنثوية من سيدة متبرعة بعد إزالة النواة من تلك البويضة، أي أنّه لن يتم إلقاح حقيقي بالشكل الطبيعي والذي يتم باتحاد النواتين من النطفة و البويضة فيحمل الجنين الصفات المورثية من الأب و الأم معاً، و لكن الذي يتم هنا هو أخذ نواة كاملة من خلايا أحد الوالدين، و من ثم زرعها في بويضة أنثوية بعد إزالة نواتها، و هو ما سوف يجعل الطفل نسخة مطابقة بشكل مطلق للصيغة المورّثية لصاحب النواة التي زرعت و أنتجت هذا الطفل في حال تمكّن من الاستمرار في الحياة.

و تقوم طريقة الدكتور زافوس على إحداث مجموعة من الانقسامات في الخلية التي تشكّلت من إدماج النواة في البويضة المنزوعة النواة عبر تنشيط هذه الخلية و تحريضها على الانقسام، و من ثمّ تجميدها عقب الانقسام بغية التحري عن وجود أي شذوذ صبغي أو كيماوي أو فيزيولوجي - و هذا ما نشكّ في قدرتهم على القيام به بشكل واف- ليتم بعد ذلك زرعها في رحم سيدة مستأجر وفق عقود الأمومة بالوكالة (Surrogate Motherhood) ، التي تنطوي على قيام سيدة ما بتقاضي اجر جراء قبولها بأن تنمي جنيناً ما في أحشائها دون أن يكون ابنها من الناحية الصبغية إذ أنّه لا يحتوي على أي صيغة وراثية أتت منها.

ويستدعي الطرح السابق مقاربة السؤال العلمي الأكثر أهمية في هذا المقام والذي يتناول إمكانية التحري والكشف عن التشوهات الصبغية في مجموعة الخلايا الأولى بعد الاستنساخ، والتي نستطيع القول وبثقة عميقة بأنّ كل التقنيات المتاحة حتى اللحظة الراهنة لم تفلح في رصد التغيرات الصبغية كلها، والتي يمكن أن تنتج تشوهاً جنينياً أو عقابيل لاحقة ستظهر آجلاً خلال النمو اللاحق بعد الولادة. وإنّ رسم الخريطة المورّثية للكائن البشري لا يمكن لها إطلاقاً أن تكون دليلاً كافياً لتحري كل إمكانيات التشوه التي تتداخل فيها عوامل متعددة ابتداءً من بنية الصبغيات نفسها، وصولاً إلى شروط المحيط الفيزيائي في مرحلة تخلّق الخلايا، ومروراً بالكيميائي الذي يشكّل الوسط الحيوي المحيط بالخلايا في فترة تخلّقها. أي بمعنى آخر يمكن الاستبصار بأن احتمال ولادة طفل مشوّه أو يحمل إمكانيات خلل النمو لاحقاً هو احتمال عال ٍفي عمليات الاستنساخ لبني البشر.

وبالإضافة إلى ذلك لابدّ أن نشير إلى أنّ التجارب التي أجريت على استنساخ الحيوانات أثبتت معدّلات فشل عالية ابتداءً من الإخفاق في الإدماج النووي في البويضة التي أزيلت نواتها، وصولاّ إلى النسبة الكبيرة من الإسقاطات والولادات المبكّرة، والنسبة المرتفعة من التشوهات الشكلية، والتردي وعدم انتظام النمو الخلوي الجسدي لاحقاً، والهرم المبكر الذي لوحظ على كلّ الحيوانات التي تم تخليقها عبر تجارب الاستنساخ .

وهنا نجد أنفسنا في مواجهة سؤالين محوريين يمثلان جوهر القراءة النقدية العلمية والاجتماعية لتطبيق الاستنساخ على الكائن البشري:

السؤال الأول: من هو المستفيد الحقيقي من تجارب الاستنساخ، ولماذا يتم في الولايات المتحدة الأمريكية إصدار تشريعات تمنع إجراء تجارب الاستنساخ على الكائن البشري في الولايات المتحدة، دون أن تشير تلك التشريعات إلى حظر تمويل مثل هذه التجارب خارج الولايات المتحدة، لمخالفتها للمبادئ الأخلاقية السامية المزعومة في الولايات المتحدة، و دون الاجتهاد لتمكين تلك القوانين من إحداث تأثير حقيقي عبر توسيعا لتشمل محاصرة التمويل و تجميد الحسابات المصرفية الخاصة بعمليات الاستنساخ التي تتم بتمويل أمريكي في الدول النامية أسوةّ بكل عمليات الحصار التي تتم تحت الشعارات الأخلاقية الكبرى لمحاصرة و الحد من النشاطات المالية التي تنظر إليها الولايات المتحدة على أنّها غير أخلاقية مسوّغة ً بذلك لنفسها محاصرة دول بأكملها و ليس مؤسسات بعينها فقط.

والسؤال الثاني: لماذا يتم رصد كل هذه الأموال الكبيرة على أبحاث لن تستطيع بالضرورة تحسين سوية الحياة لعموم سكان الأرض، ولماذا يتم تناسي الكم الكبير من الأمراض الفتّاكة كالملاريا والبلهارسيا والسلّ، والتي تفتك بمئات الملايين من البشر سنوياً في عموم أصقاع المعمورة، وخاصة ّ في العالم النامي المفقر المستضعف. ونشير في هذا السياق إلى المثال المؤلم والذي يتمثل بمشروع القضاء على البعوض الناقل لطفيلي الملاريا، من خلال التعديل المورّثي له بحيث يصبح عقيماً ويقضي على نفسه والطفيلي فيه بعد عدة أجيال. وهذا المشروع هو قابل للتطبيق عملياً وقد طُبّق بنجاح على أنواع أخرى من الحشرات وبشكلٍ لافت. ولكن هذا المشروع ظلّ حبيس الأدراج في مراكز الأبحاث الأمريكية بسبب عدم تقديم دعم مالي ملائم له لنقله من الحيز النظري إلى حيز التطبيق العلي في الواقع، وهو بالتأكيد دعم متواضع الاحتياجات بالمقارنة مع ذلك الذي تتطلبه تجارب الاستنساخ، إذ أنّ الملاريا تفتك بأولئك (المفقرين) في العالم الثالث من فئة (اللا بشر) وفق قاموس هيمنة الأقوياء على المستضعفين، وليس بأولئك (الأسياد) في العالم الغني.

و ختاماً لا نستطيع إلاّ القول بأنّ هنالك أزمة حقيقية في أخلاقيات العلم الذي تحركه المصالح الكبرى للشركات الاحتكارية التي تحرك الشبكة السياسية الحاكمة في العالم الصناعي، و التي تعمل كواجهة على طريقة الصور المتحركة لتلك الشركات الاحتكارية التي أتقنت فنون المراوغة الإعلامية ونهج دس السم في الدسم، و أسلوب ( أكذب ... أكذب حتّى يصدقك الآخرون) و تصنيع مجموعة من الشعارات السياسية الجوفاء لتلك الدول (العظمى) و طبقتها السياسية (الفذة)، التي لا تمتلك من منظار أخلاقي سوى ذلك الانتهازي الذرائعي، الذي ليس فيه أي اعتبار لمصلحة أولئك الفقراء المسحوقين الذين لا يعيشون في العالم (المتمدن) الذي راكم ثرواته على حساب سرقة أولئك المفقرين مباشرة أو بالوساطة خلال عقود طويلة و إلى اللحظة الراهنة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسلمو بريطانيا.. هل يؤثرون على الانتخابات العامة في البلاد؟


.. رئيس وزراء فرنسا: أقصى اليمين على أبواب السلطة ولم يحدث في د




.. مطالبات بايدن بالتراجع ليست الأولى.. 3 رؤساء سابقين اختاروا


.. أوربان يثير قلق الغرب.. الاتحاد الأوروبي في -عُهدة صديق روسي




.. لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.. فرنسا لسيناريو غير مسب