الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأصل الأفريقي للحضارة المصرية القديمة (4)

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2020 / 12 / 12
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في كتاب "جيرمي نيدلر" بعنوان "الجذور الشامانية لمتون الأهرام" وصل فيه إلى أن المصري القديم كان يخلط معتقداته الدينية بالسحر، وأن تصوره لآلهته كان مرتبطا بقوى ماورائية تتحكم في العالم المادي سميت ب (النترو) فكل ظاهرة طبيعية ورائها قوة إلهية للنترو الإلهي بحاجة إلى وعي روحاني للكاهن والساحر ليدخل ضمن عمل تلك المنظومة، وبالتالي يُصبح الساحر/ الكاهن ليس مجرد عالما بالدين بل متحكم في الطبيعة المادية، وهذا معنى الجذور الشامانية للكتاب، وليس المقصود الجذور الشامية، لأن الشام منطقة جغرافية لكن الشامانية تعني السحر والعرافة..

ولا زالت آثار هذه الطبيعة الشامانية في الكتب المقدسة الإبراهيمية عن حضارة مصر القديمة سواء مع "سحرة فرعون" أو "مفسرين أحلام قصة يوسف" وكما قلنا أن الاحتكام للكتب المقدسة ليس بوصفها مقدسة لكن لمظاهر وتصورات الشعوب لبعضهم البعض في تلك الفترة الزمنية، وبالتالي فالاحتجاج بالكتاب المقدس هو استدلال تاريخي مشروع عن ثقافات الناس وقت التدوين، كما وصلنا في السابق إلى مشروعية الاستدلال على قتامة البشرة المصرية من تصوّر العبرانيين للنسل الحامي من أبناء نوح، ليس إيمانا بقصة حام في ذاتها ولكن لأهمية ذكر صور المصريين في أذهان الأسيويين في القرن 5 ق. م وهو الزمن الافتراضي الذي بدأ فيه تدوين التوراه على يد عزرا الكاتب.

وبالقياس على الحضارة الإيرانية القديمة فمصر وإيران ذوي تفكير ديني متشابه يتعلق بالشامانية، والمعروف عن أسلاف الإيرانيين بالمجوس أو magos وترجمتها باليونانية بالسَحرة، وهي كانت طبيعة للكاهن الزرادشتي في شعائره الشبيهة – حسب وصف نيدلر – بالكاهن المصري القديم، وهي طبيعة كانت تجمع الدين بالسحر بالعرافة والتنجيم..ثم بناء نظريات معرفية عن علوم الفلك، وهذا كان سر تقدم المصريين وحضارات آسيا في الفلك وعلوم السماء والأجرام والتقويم مما نتج عنه بعض الإنجازات المعرفية كقصص الأبراج وتعامد الشمس على وجه الملك وخلافه، ويُحكى أن الإغريق أخذوا علم الأبراج من بابل، ومظاهر يقين المصري القديم بالنجوم والأبراج ظاهرا على بعض المعابد والمقابر كمقبرة الكاهن "سننموت" كبير مهندسي الملكة حتشبسوت.

وهنا تأتي أهمية الشمس والأجرام في معتقد المصري والأسيوي، لذا صمموا آلهتهم وفقا لقدسية تلك الأجرام وأهميتها ..ثم أعطوها صفات النترو المقدسة، أما أوروبا القديمة فلم تعرف هذه الثقافة وتصورت آلهتها بعيدا عن لحقهم بالأجرام، عدا أن التحول بدأ في العصر اليوناني منذ الحضارة المينوسية وبعدها الإغريقية الذين ورثوا (الدين البكتيري الشمسي) القادم من مدينة "بلخ" ففي علوم الأنثروبولوجي حدثت هجرات من الهند لأوروبا مرورا بخراسان وإيران في الألف 2 ق.م، وهذا سر تشابه لغات تلك المناطق فيما عرفت باللغات "الهندوأوروبية"

وهنا شرح للعلاقة بين اليونان والهند وإيران تلك الحقبة..

https://www.ancient.eu/article/163/greco-bactrian-and-indo-greek-kingdoms-in-ancient/
https://www.ancient.eu/Greco-Bactria/

أما الدين البكتيري فهو نسبة لمنطقة باكتيريا Bactria أو باختر باليونانية Βακτρία وعاصمتها مدينة "بلخ" الشهيرة بأفغانستان والتي كانت عاصمة تلك المناطق في العالم القديم وخرجت منها دعوة زرادشت عرفت بكونها مركزا للهجرات الهندوآرية لأوروبا، وكانت هدفا للإسكندر الأكبر لاحقا في غزواته مما أنتج لاحقا ما يعرف بالمملكة اليونانية الباكتيرية Greco-Bactrian Kingdom وهذه إشارة إلى أن مصادر آلهة اليونان الشمسية ك (أبوللو وهيليوس) مصدرها تلك الثقافة الهندية التي في تقديري طُعّمت بتأثيرات عراقية شرق أوسطية كانت تقدس الشمس هذه الفترات، خلافا لمعتقدات الفايكنج مثلا التي لم تقدس الشمس ولم تجعل لها آلهة خاصة بل جعلت (للجليد والثلج) ونسجت أساطيرها عن مخلوقات عملاقة تعيش في الجليد.

وهنا يوجد رابط بين تصور الإنسان القديم لدينه وبين بيئته الجغرافية، فالفايكنج وسكان أوروبا الشماليون ذوي ديانة جليدية، بينما الهنود والآريون والأفارقة ذوي ديانات شمسية، ولم يُعثر على أدلة من النياندرتال حول تصورهم للشمس لكنه لن يختلف بحال عن معتقدات الفايكنج، وبرغم أن علوم التطور تقول أن النياندرتال أقل ذكاء من الإنسان المعاصر لكن لوحظت بعض طقوس دينية خاصة به في شعائر الدفن..

طب وما علاقة تلك الفقرة في أصالة مصر أفريقيا؟

الجواب من وجهين اثنين: الأول: إثبات أن لمصر حضارة منفصلة عن أوروبا، فلو كان الشبه في تلك الناحية ثابت مع معتقدات الشمس لكنه مختلف في الجذر الشاماني المتعلق بالسحر والتصورات الروحانية للدين، فحضارات اليونان القديمة كانت بدائية نعم في تصورها للآلهة لكنها لم تكن شامانية بل مادية، وفي كتاب "جيرمي نيدلر" شهادات موثقة لفلاسفة يونان ك "شيرمون" عن اختلافات جوهرية بن طريقة تدين المصريين وكهنة معابدهم وبين طريقة تدين اليونان والرومان الأقرب للفلسفة المادية والتفكير العقلاني، وهذا الذي صنع الحقبة الهلنستية لاحقا بعد تعريفها فلسفيا على أنها تجمع بين العقل الهلليني المادي والفلسفي، وبين الروح الشرقية التأملية..وفي التعريف الهلنستي دلالة واضحة على اختلاف ثقافات وبون شاسع بين المصريين والعرق القوقازي في أوروبا.

وقد يُثار السؤال الفوري أنه مع فرضية حدوث هجرات هندوآرية لليونان ألا يعني ذلك ثبوت لهجرة الدين الشرقي أيضا لأوروبا وتصوراته الروحانية؟..وتقديري أن الثورة العقلية الفلسفية التي بدأت على يد طاليس وفيثاغورث وحكماء الإغريق السبعة إضافة لملاحم الإلياذة والأوديسا في بدايات حتى منتصف الألف 1 ق.م جميعها نقلت عقل اليونان لمنطقة أخرى تماما من التفكير الديني وأحدثت فارقا جوهريا بينه وبين الأسلاف الروحانيين، فأصبح اليونانيون ظاهريو الفكر بشكل كبير بينما ظل المصريون باطنيين الفكر في تصوراتهم للآلهة وهو ما ناقشه كل من "آلان ريتشاردسون" و "بيلي ووكر" في كتابهم المثير "رحلة باطنية لمصر القديمة" مع إشارات لذلك للدكتور "نديم السيار" في كتابه " قدماء مصر أول الموحدين" مع بعض الآثار المصرية كبرديات الساحر سانتي والمومياوات الثلاثة..وغيرها.

بينما المصري لم تحدث لديه تلك الثورة العقلية وظل على معتقده الشاماني يمارسه بيقين راسخ موروث منذ آلاف السنين، وبالتالي فلم يكن لديه الوعي بالتطور اليوناني الحاصل مع طاليس وزملائه، ولو كانت أصول المصري قوقازية كما يزعم مدعي الأصل الأبيض لعرف المصريون ذلك التطور قبل العصر البطلمي ورأينا فلاسفة عقلانيين في الحضارة المصرية القديمة على الأقل في العصر المتأخر بعد الرعامسة وهو الزمن الذي بدأ فيه التطور اليوناني العقلي تاريخيا.

أما الوجه الثاني: لإثبات أصالة دين مصر أفريقيا، فالشامانية لم تكن معتقدا مصريا فقط بالربط بين السحر والدين، بل هو سلوك أفريقي عام منتشر في القارة شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، وإلى اليوم توجد ديانات أفريقية مرتبطة بالسحر أشهرها الفودو Voodoo التي انتقلت للدومنيكان وهاييتي في البحر الكاريبي مع العبيد الأفارقة وصارت من أهم معالم هاييتي الثقافية كمثال، والفودو ديانة شامانية واضحة في ربطها بين المادة والروح، أو بين قدرة الكاهن وقدرة الرب في تغيير المواد، وهذا لا يعني تطابقا بين الدين المصري القديم والفودو لكن الفكرة المسيطرة على المعتقدات الشامانية بالعموم هي "طرد الأرواح الشريرة" والقضاء على الأشرار عبر الطقوس الدينية الممزوجة بالسحر والتعاويذ، فقد يرى مصريا شعائر الفودو العنيفة ويستغرب أن هذا كان حال أسلافه، بينما لا ينتبه أن ما يجمع المتدينين واحد في الحقيقة وهو الانتماء لحضارة إنسانية تفكر عن أصل الوجود والمواد ومعنى الحياة..لكنه يختلف في تطبيقاته العملية لهذا التدين لأسباب مختلفة.

ونفس الشئ لشعائر الهودو الأفريقية السحرية Hoodoo وهي شعائر شبيهة بالفودو لكنها متعلقة أكثر بالتعاويذ واستخدام الكتب المقدسة لغرض السحر كالتمائم وخلافه، حتى بعد دخول الإنجيل والقرآن أفريقيا استخدمت آياتهم في شعائر الهودو السحرية، وهو ما يعني أن الأفارقة يُصبغون المعتقدات الوافدة إليهم مع المستعمرين لمعتقداتهم المحلية فيخرجون بمزيج أفريقي خاص بالتدين، وليس ذلك خصيصة أفريقية بل هو سلوك لغالبية الشعوب والأمم التي مزجت بين معتقدات أجدادهم والعقائد الجديدة في تصرف تلقائي طبيعي يُرضي الأقوياء النافذين وفي ذات الوقت يُرضي الضمير المحلي، ومن هذا المنطلق كان يشكك البعض في سلامة إيمان المتحوّلين لأديان جديدة كليا، بل يُجزمون بوجود رابط وإضافات من دينه القديم وهو ما حدث مع كعب الأحبار في الإسلام وبولس الطرسوسي في المسيحية، حيث اتهمهم خصومهم بأن أصولهم اليهودية أثرت عليهم في معتقدهم الجديد.

لذا فالتصوف لم يغادر مصر لهذا السبب المتعلق بطبيعة دينها الشاماني القديم، وفي مقارنات الأديان لا نلحظ وجود التصوف وأهمية الكلمات في تغيير الحالة المادية للإنسان دون الحاجة لأفعال في معتقدات الأوروبيين وهو ما نسميه بالتدين المادي المختلف عن الروحاني الذي هو أساس التصوف وتتعايش معه الأمم الأفريقية بالكامل، حتى أن التصوف سواء كان إسلاميا أم مسيحيا صار خصيصة للقارة السوداء، وقضية التعاويذ والسحر والذكر الجماعي ليست مجرد كلمات بل أديان صحيحة لا تقبل الشك، وإنارة الطريق لهذا الموضوع مهم جدا في تحديد هوية المصريين القدماء الذين ورثوا من أفريقيا ليس مجرد العرق ولكن الدين أيضا، فالتعاويذ والأدعية التي دوّنها المصريون في كتاب الموتى لا تختلف كثيرا عن أدعيتهم وذكرهم الجماعي في الحضرات الصوفية في الإسلام..

لنا عودة..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي