الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأريخ لمعركة لهري 13نوبير1914م.( بين وجهتي سعيد كنون و محمد بلحسن )

حنضوري حميد
كاتب وباحث في التاريخ

(Hamid Handouri)

2020 / 12 / 12
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


إن مسألة التأريخ بدأت مع ظهور الكتابة لدى الإنسان، فما أن وجد الإنسان هذه الوسيلة حتى انطلق يدون ما وقع له شخصا كان أو مجتمعا، يدون حدثا سلميا كان أم حربيا. واستمر التدوين مع توالي العصور والحضارات. فكان اليونانيون روادا في هذا الباب. ويكفي ما فعله هيرودوت الذي حمل شارة "أبو التاريخ". وغيره من المؤرخين اليونان. ثم تلاهم مؤرخو الرومان ك بوليبيوس وغيره. ودون الأوربيون تاريخهم في العصور الوسطى، وفي عصر النهضة ثم الأنوار. ليدركوا العصور الحديثة ثم المعاصرة. وفي هذه الأخيرة ابتدعوا منهج تصحيح الأخبار، قبل كتابة التاريخ أو تدوينه. وفي هذا الفن أبدع المؤرخان الفرنسيان لانكلوا وسينيبوس فأسسا منهجا متكاملا لتصحيح الروايات والأخبار المدونة. فأصبح التاريخ يكتب بطريقة صحيحة وعلمية. وفي العالم الهندي مؤرخون، وفي العالم الصيني كذلك. وللعالم العربي والإسلامي مؤرخون بدأوا التدوين منذ العقود الأولى لظهور الإسلام وتشكل دولته. وبقي التدوين مستمرا وسائدا في كافة أقطار البلاد الإسلامية ومنها المغرب. فبقي مؤرخو المغرب يدونون مجرد الأحداث الشهيرة والسياسية فقط، إلى أن تأسست الجامعة، وبدأ أساتذتها يدرسون منهجية البحث العلمي في ميدان التاريخ. فنهض جيل جديد من المؤرخين المغاربة يدرسون التاريخ بطريقة إشكالية، أي يطرحون أسئلة عن الماضي، وعلى بعض أحداثه وقضاياه. ويجيدون في المناهج للوصول إلى الحقائق التاريخية التي لم تخطر على بال المؤرخين التقليديين طوال العصور السالفة.
وحري بالتذكير أن الأستاذ بن لحسن ينتمي إلى هذه المدرسة المنهجية بل كان من روادها الأوائل، فقد حصل شهادته الأولى على أيد المؤرخين الفرنسيين، الذين كانوا هم من علم في الجامعات المغربية أولا. ومن ثم انطلق في البحث والتأليف حتى طلع علينا بكتيبه حول موضوع هذه الدراسة. فما هي ملابسات هذا الحدث؟ ومن هي أهم الدراسات التي تناولته؟ وعلى يد من تمت دراسة معركة الهري؟ وما دور قادتها في تشكل أحداث المقاومة خلاها؟
إن الحديث عن المقاومة في الأطلس المتوسط عامة، وفي مجال قبائل زيان على وجه الخصوص، إبان الحماية الفرنسية على المغرب، لا يمكن الإحاطة به، وذلك نظرا للكم الهائل من الكتابات الأجنبية والوطنية حول هذا الموضوع. وبما أن معركة الهري، المعركة التي اشتهرت في تاريخ المغرب باسم هذه القرية؛ وهي قرية واقعة قرب مدينة خنيفرة، على منخفض جبال الأطلس المتوسط، هي إحدى أشهر المواجهات التي حصلت بين سكان هذه المنطقة والاستعمار الفرنسي، فإن الخوض في تفاصيلها يفضي بالباحث إلى الغرق في بحر من المعلومات. ولهذا السبب سأحاول أن يكون حديثي عنها مقتضبا.
وسأبدأ الحديث عن هذه المعركة بالتطرق إلى السياق العام الذي كانت نتيجته هو هذا الحدث البارز في تاريخ قبائل أيت أومالو. إن محاولة الاستعمار احتلال هذه القبائل، ونشوب معارك عدة في مجالها الترابي بين الطرفين، كان تمظهرا لما عانى منه الاستعمار الفرنسي، من مقاومة شديدة بكل مناطق المغرب، انطلاقا من منطقتي الشاوية والدار البيضاء اللتين بدأ بهما الفرنسيون تدخلهم في المغرب.
بعد مرور سنتين ونيف على توقيع معاهدة الحماية الفرنسية، المفروضة على المغرب، في 30 مارس 1912م. حاولت السلطات الاستعمارية أن تنفذ مشروعها الهيمني في المغرب. فبعد أن أخضعت بالقوة عددا من المناطق، وحاولت تهدئة الأمور فيها، انطلت لتحتل باقي بلاد المغرب لبسط نفوذها عليها قاطبة. في هذا السياق جاءت مواجهة المغاربة لهذا الغزو، حيث كان رد الفعل قويا في كافة الجهات والأقاليم، وعلى رأسها منطقة الأطلس المتوسط. فقد كان سكانه لا يقبلون بمثل هذا الزحف الأجنبي نحوهم. فهبوا للكفاح ضد هذا العدوان، مجندين كل إمكاناتهم ولو أنها كانت بسيطة، وشارك كل السكان نساء ورجالا في معارك شرسة ضد الاحتلال الفرنسي، وكانت هذه المشاركات بقيادة زعيمي هذه القبائل المعروفين بموحى أوحمو وموحى أوسعيد الزيانين.
كان هذا كله قبل وصول المستعمر إلى تراب قبائل أخرى موجودة في عمق الأطلس المتوسط وهي قبائل أيت أومالو، وما أن بدت طلائع هذا الاستعمار حتى كان الرد قويا من هذه القبائل حفاظا على الحرية، ودفاعا عن الأرض والوطن سويا. ومن أبرز المعارك التي شهدتها بلاد زيان في هذه المرحلة هي معركة الهري 13 نونبر 1914م. التي انهزم فيه الجيش الفرنسي شر هزيمة أمام قبائل أيت أومالو بقيادة الزعيم والمقاوم الشرس موحى وأحموا الزياني. وهذا الانتصار راجع إلى الطبيعة الجغرافية الوعرة التي تتميز بها الجبال والمرتفعات. إضافة إلى طبيعة الإنسان الأمازيغي الذي لا يقبل الذل والاحتقار وخاصة إذا كان من طرف الأجانب.
وكل هذا ساهم بشكل كبير في انتصار القبائل، التي خاضت الحرب، والمواجهة ضد الفرنسيين بأبسط الوسائل التقليدية. مقارنة مع ما كان يستعمله الطرف المقابل. وهذا التفرد في الصمود، والإبداع في وسائل المقومة أعطى للكفاح المغربي صدى واسعا في العالم، وظهرت مجموعة من الكتابات الكولونيالية فرنسية ومغربية تؤرخ لهذا الحدث الذي أصبح بارزا في التاريخ المغربي رغم محليتة. وتأرجحت هذه الكتابات بين كتابات عبارة عن مذكرات من زعماء الحرب، أو شهود عيان شاركوا فيها، وكتابات صدرت عن ضباط أجانب مشاركين في المعركة فكانوا بمثابة مؤرخين هواة مارسوا الكتابة عن هذه الأحداث والوقائع. وبين نوع ثالث من الكتابات ظهرت معاصرا مع عدد من الأكاديميين الذين أرخوا لمرحلة الاستعمار ومنها معركة الهري وفعلوا ذلك بمنهجية علمية.، وكانت بحوثهم على شكل أطاريح جامعية لنيل شهادة الدكتوراه.
وهذه الكتابات نظرت إلى حدث "معركة الهري" من جوانب عدة، حسب الزاوية أو الرؤيا التي انطلق منها كل مؤرخ على حدة. وهكذا ظهرت بعض الكتابات التي نسجت حول العركة الكثير من الكلام امتزج فيه الواقع مع الخيال. فهناك من صنع منها ملحمة منتصرا لها في وجه الضمور والاندثار الذي أصبح يهددها. حاول تقزيم دورها في خضم تاريخ المقاومة.

ومنهم من حاول طمس معالمها في التاريخ والمجال. وفي هذا الإطار سنحاول تقديم رؤية بعض النماذج من المؤرخين الذين تناولوا في كتابتهم حدث معركة الهري، وسنتتبع طريقتهم في الكتابة. ونحاول أن نفصل في ذلك بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي. وسنحاول كذلك الكشف عن الخلفية التي انطلق منها كل مؤرخ لهذا الحدث.
فهناك من نظر إلى شخصية موحى وأحموا الزياني قائد وزعيم المعركة، على أنه انطلق في مواجهته للاستعمار من مبدأ الوطنية، وهذا التصور هو من دفعه إلى التضحية بالغالي والنفيس من أجل تحرير هذا الوطن. وهناك من نظر إلى موحى وأحموا الزياني على أنه مجرد متمرد على السلطة المحلية، التي جاءت بالمستعمر للقضاء على "السيبة" وبناء المغرب الحديث، وإقرار المشروع الحضاري في البلاد. فهو إذن لا يزيد على أن يكون فقط قائد عصابة من قطاع الطرق والخونة للسلطان وللبلاد. ولكي نعطي أمثلة عن اختلاف الآراء حول موضوع معركة الهري، سنتكلم عن دراستين مختلفتين من حيث التوجه الإيديولوجيي ومن حيث اختلاف زمان ومكان المؤرخين. لنرى أوجه التطابق أو الاختلاف بينهما، أو بعبارة أخرى كيف أرخا لحدث معركة الهري؟
المؤرخون ومناهجهم في الكتابة التاريخية عن معركة الهري.
أـ تصنيف المنهجي الأنثروبولوجي وبعد الجغرافي.
القبطان سعيد كنون: (1887ـ 1940م.) فهو ضابط الشؤون الأهلية في الجيش الفرنسي. ولد بمنطقة القبايل بالجزائر. ينحدر من منطقة أولاد عيسى بناحية دراع الميزان، تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في الجزائر، ثم التحق بالجندية الفرنسية في يناير 1902م. وعين ملازما ثانيا في أكتوبر، وفي يونيو 1914م. اعترف له بحقوقه الفرنسية، فحصل على الجنسية، والحق بالنظام العسكري، ورقي إلى رتبة قبطان في دجنبر 1916م.


شارك القبطان سعيد كنون في مجموعة من المعارك الحربية العصيبة والقاسية، كمعركة فاس تحت الأسوار 1912م. وكذلك رتل خنيفرة. وعمليات تادلا، وخاض حربا ضــد زعيم الريف عبد الكريم الخطابي، مما أهله أن يشتغل كضابط استعلامات أو استخبارات من درجة عالية لمنطقة زيان بحكم معرفته الجيدة لهذه المنطقة.
أرخ القبطان سعيد كنون للأطلس المتوسط عامة، ومنطقة خنيفرة على وجه الخصوص، بصورة دقيقة؛ بحكم عمله في الجيش، ومعرفته الجيدة بالمنطقة ، واحتكاكه مع الإنسان الأمازيغي. وبمشاركته في معركة الهري اعتبر شاهد عيان. وأثناءها كتب مذكراته اليومية التي جمعها في كتاب " الجبل الأمازيغي أيت أومالوا وبلاد زيان".
اعتمد سعيد كنون في التأريخ لأحداث معركة الهري داخل كتابه "الجبل الأمازيغي أيت أمالو وبلاد زيان" المنهج الأنثروبولوجي والسيسيولوجي واستحضار البعد الجغرافي بشكل أساسي. يتيبن ذلك في رصده لطريقة عيش وتحرك قبائل زيان، وتتبع تقاليدها وعادات سكان المنطقة. ولاحظ، كما وظف طبيعة البلاد وتضاريسها، فهو يشير إلى دور وعورة الجبال في مساعدتهم على شن الغارات، ثم التحصن في كهوفها وأدغالها. الأمر الذي صعب على الفرنسيين القضاء على مقاوميها بسرعة. فقد عانى جيش الاحتلال من هجمات يومية، كما أكد ذلك سيعيد كنون في مذكراته. كان ذلك في حدث معركة الهري وغيرها من المعارك بين المقاومين والفرنسيين.
والخلاصة أن سعيد كنون بصفته ممثلا للمدرسة الفرنسية، التي كانت دوما تمجد أعمال الفرنسيين وجيشهم، أظهر أن معركة الهري، والمشاركين فيها، وقائدها، إنما هم عصابة فساد وتخريب، كان عليهم أن يضعوا السلاح ويصفقوا لدخول الفرنسيين الذين جاؤوا للقضاء على الفوضى، وبناء الحضارة المعاصرة في المغرب، وكل ذلك بالاتفاق حسب زعمهم مع سلطان البلاد.
ب ـ تصنيف المنهجي التاريخاني للحدث
واخترت للتمثيل على هذا النوع من الكتابة المؤرخ محمد بن لحسن. وهو كاتب وباحث أكاديمي متخصص في التاريخ المعاصر للمغرب. وكانت جهوده في معظمها تصب في تسليط الضوء على منطقة الأطلس المتوسط، وقبائله الزيانية. وكان ذلك ربما بسبب انتمائه لهذه البلاد. ولد هذا المؤرخ سنة 1945م. في حضن قبيلة أيت سكوكو، إحدى قبائل زيان الشمالية. تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدينة خنيفرة. ثم التحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط لاستكمال دراسته الجامعية، حيث حصل منها على شهادة الإجازة في التاريخ سنة 1972م. تخصص التاريخ والجغرافيا، ليستمر على منواله في المثابرة والاجتهاد، حتى حصل على شهادة الدكتوراه سنة 1997م.
اشتغل محمد بن لحسن استاذا في التعليم الثانوي لمدة عقدين من الزمان، ثم إلتحق بكلية الآداب بجامعة سلطان مولاي سليمان بمدينة بني ملال حيث مقر هذه الجامعة، وذلك سنة 1991م. كأستاذ للتاريخ المعاصر. وله مؤلفات عديدة منها:
ـ دراسة وتحقيق كتاب" كباء العنبر من عظماء زيان وأطلس البربر" لمؤلفه أحمد بن قاسم المنصوري.
ـ "الأمازيغ أضواء جديدة على المسيرة الحضارية عبر التاريخ"
- Mouha ou HamouZayani, l’âme de la résistance a la pénétration française dans le Moyen Atlas.
- Coquète spirituelle des colonisés, le cas des Imazghénes du Moyen Atlas
ـ معركة الهري 13 نونبر 1914م. صفحات من الجهاد الوطني.


فمن خلال هذه الترجمة السريعة لحياة محمد بن لحسن، يتضح أنه لم يعاصر حدث معركة الهري. لكن أرخ له برؤية شاملة، معتمدا على جمع المصادر والمراجع أجنبية ووطنية تلك التي تحدثت عن الموضوع، وقام بمقابلتها بعضها مع بعض. مستعينا كذلك بالرواية الشفوية؛ وقد ساعده في ذلك كونه ابن المنطقة، ويتكلم لغة البلاد. الأمر الذي أضفى على كتاباته الأصالة والمصداقية، زيادة على تطبيقه وسائل ومناهج العمل الأكاديمية. الشيء الذي أعطى لما كتبه عن المنطقة عموما، وعن معركة الهري خصوصا مصداقية كبيرة من حيث جدة المعلومات. إضافة إلى الصبغة الأكاديمية، حيث اعتمد على منهج دقيق في التأريخ المعركة الهري، حيث اهتم بهذا الموضوع كثيرا، وتناوله بكيفية دقيقة، ومفصلة في أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه.
منهجه في التأريخ
على خلاف جل الدراسات والأبحاث التي تناولت تجربة الاحتلال الفرنسي للمغرب، وخاصة الكتابات التي تناولت حدث معركة الهري، والتي ركزت في إطارها العام على الجوانب العسكرية والاقتصادية والسياسية كمحاور أساسية في التحليل والمساءلة، فإن الأستاذ محمد بن لحسن عالج في دراسته نوعا آخر من وجوه هذه التجربة، قلما حظي بعناية المهتمين والمتخصصين في تاريخ الحماية الفرنسية على المغرب. ويتعلق الأمر هنا - على وجه التحديد ـ بالآليات المدنية فكرية وحضارية تلك التي وظفتها الإدارة الاستعمارية ضمن مشروع غزوها الشامل للمجال المغربي، أرضا وإنسانا وفكرا وحضارة وتراثا.

والحقيقة أن الشيء الذي ميز دراسة محمد بن لحسن عن غيرها، وأعطاها رونقا استثنائيا، مقارنة مع الأعمال التي أنجزت في تاريخ المقاومة المسلحة المغربية، هو اختياره في دراسته
حدثا عسكريا بارزا ومضبوطا، حصلت وقائعه وفصوله خلال يوم واحد بعينه. وهو يوم 13 نونبر 1914م. وفي مكان معين من بلاد المغرب، ألا وهو مركز قرية الهري جنوب مدينة خنيفرة. وهكذا ساعدته محدودية الموضوع على الإحاطة به، والإتيان فيه بتفاصيل غير مسبوقة.
استطاع محمد بلحسن أن يشق طريقه في ميدان البحث التاريخي، ضمن توجه جديد في ساحة البحث التاريخي المغربي، وسعى بشكل كبير خلال العقدين الأخيرة من القرن العشرين إلى تجاوز منهج التأريخ الشامل للحوادث والقضايا التاريخية الوطنية، المرتبطة بحيز زمني طويل المدى، المنهج الذي سلكه فيرناند بروديل الفرنسي Fernand Braudel والمسمى: « L’Histoire à long terme » لتكريس منهج أكثر تخصيصا وانتقائية هو منهج التاريخ المحلي المعروف بالمنغرافيات ،Les Monographiesالمرتبط أساسا بحيز مجالي وزماني محدودين.
أما طبيعة المادة المرجعية التي استعملها الباحث في التأريخ لمعرفة الهري، فقد كانت أساسا معتمدة على وثائق ومراجع أجنبية الأصل في غالبيتها ، ويبدو أن هذا الاقتصار ناتج عن عدم وجود كتابات مغربية قديمة أو معاصرة لهذا الحدث؛ إلا أن هذا لا يعفيه من البحث والنبش عن المصادر المحلية الموازية بما فيها أرشيف الزوايا الطرقية. والروايات الشفهية التي عاصرت الحدث أو تناقلته في إطار ما يسمى بالذاكرة الجماعية، من أجل تأكيد الطابع العلمي تقتضي تحليلا موضوعيا حتى يوضع الحدث في سياقه الصحيح ليكون أقرب إلى الصواب. وهذا ما فعله الباحث بلحسن.

أما من ناحية طبيعة الكتابة التي أرخ بها لحدث معركة الهري، فقد استعمل منظومة مفاهمية تحمل في طياتها أبعادا ودلالات تجسد رؤيته الفكرية والمنهجية، إلا أن ما يعاب عليه
أنه وظف مجموعة من المصطلحات ذات المرجعية الإسلامية (الجهاد، الأمة الإسلامية .....)بدل (المقاومة، الشعب ...) الشيء الذي يؤثر سلبا على الإطار النظري والمنهجي، الذي يحكم بنية التأريخ، مما لا يسمح بتجديد خطاب تاريخي برونق جديد وقد يضفي ضبابية على وقائع الحدث، ويصعب إخضاعها إلى مشرحة تحليلية دقيقة تتسم بصبغة نزيهة.
رسم المؤرخ في كتابه " معركة الهري13 نونبر 1914م. صفحات من الجهاد الوطني" في محاولته للتأريخ لهذا الحدث، تصميما محكما، قسمه إلى قسمين. وقد عالج في القسم الأول الصعوبات التي واجهت الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال" هنريس" سببت عدم تمكنه من احتلال منطقة زيان بالرغم من الاستيلاء على مدينة خنيفرة. كما بين المؤرخ محمد بن لحسن رغبة فرنسا في تحقيق غزو شامل لهاته المناطق. وذلك بغية إنجاحها مشروعها الاستعماري المحضر للمغاربة على حد زعمها. ورغبة في تحقيق السيطرة على وسط المغرب، وسعيا للحد من خطورة المقاومة الزيانية التي كانت تستغل تضاريس المكان كمساعد استراتجي للحرب ضد العدو. باعتبار أن السيطرة على هذه المناطق رهان الإدارة الفرنسية للتمكن من الجهة، واتخاذها معبرا للربط بين شمال وجنوب المغرب، وللحصول على الطمأنينة الكافية لاستغلال خيرات المغرب النافع بدون تهديد. وكانت هذه هي ستراتيجية الجنرال اليوطي المقيم العام بالمغرب. ولهذا عملت سلطات الحماية جاهدة بالاستقطاب تارة، وبالحرب تارة أخرى، على إنهاء مقاومة سكان هذه المنطقة بزعامة قائدهم موحى أحمو الزياني.
وقد أورد المؤرخ طريقة مفصلة في الإعداد لعمليات الهجوم الفرنسي، على بلاد زيان وسواء في كيفية التخطيط وتنظيم الفرق العسكرية، أو في نوع المعدات والأسلحة التي هيئت

للاستعمال أثناء شن الهجوم. كما أدرج الباحث رد الفعل العنيد والقوي من طرف المقاومة الزيانية تجاه المحتل الفرنسي.
أما القسم الثاني فقد حاول فيه المؤرخ إماطة اللثام، وكشف المستور عن الأسباب المباشرة، التي أدت إلى وقوع المعركة. والتي جاءت ضمن سعي الكولونيل le Vendure
إلى فك الحصار التام الذي أطبقته المقاومة الزيانية على جيش الاحتلال، بالمقربة من مركز الهري، رغم أنه يقع بعيدا عن أعالي الجبال مستعينين في ذلك بمساعدة عشائرهم وجموع كل المكونات الأمازيغية المتحالفة.
قيادات المعركة في الكتابات التاريخية.
إن من إنصاف الكتابات التاريخية سواء كانت أجنبية أو مغربية، أنها أدرجت الحديث عن الشخصيات التي صنعت التاريخ، وأثرت في تغيير مجرى أحداثه. ولهذا نظرت إلى القائد موحا أوحمو الزياني إلى أنه من أهم الشخصيات والأبطال الذين قاوموا بشراسة قوى الاحتلال ضمن باقي قادة المقاومة الأمازيغية الأطلسية. وهو الذي لعب دورا هاما في التاريخ المغربي الحديث والمعاصر على وجه الخصوص، حيث نال شهرته من خلال نضاله المستميت في العديد من المعارك المغربية قبل وصول المستعمر إلى تراب الأطلس المتوسط، وبالتحديد إلى أيت أومالو.
إن التطرق لمثل هاته الشخصيات التاريخية، يستلزم التعريف بمن صنع الحدث. فمن خلال الكتابات التاريخية التي لها اهتمامات واسعة بالمجال الزياني، كــكتاب " الجبل الأمازيغي ... ، و "معركة الهري صفحات من الجهاد الوطني..."، و"كباء العنبر من عظماء زيان... "؛ بالاضافة إلى الرواية الشفوية كل هذه المصادر تتفق على أن موحى أوحمو (1870ـ1921م.) كان قائدا



مخزنيا على منطقة زيان، منذ تعينيه من طرف الحسن الأول سنة 1887م. بخنيفرة التي كانت بمثابة مركز لتسيير قبائل زيان وتبير شأن كافة تراب قبائل أيت أومالو وغيرها.
تعتبر الاستراتيجية التي عمل عليها القائد موحى أوحموا الزياني لمواجهة الاحتلال الفرنسي، من أهم الاستراتيجيات المغربية ضد المحتل، حيث استغل كل من الجبال والسهول والفيافي والوديان، فجعلها نقطا مهمة لوضع المستعمر في الشراك. فالجبال كانت ملجأ المقاومين، والسهول تركها فقط لتحرك قوات المستعمر، حتى يترصدها ويستهدفها بهجمات مباغثة. أما الوديان فتصورها بمثابة حدود بين المناطق المحتلة والمحررة ...، ومن استراتيجياته هو عمله جاهدا على إبقاء المقاومة الأمازيغية موحدة بين قبائل أيت أومالو وقبائل كافة الأطلس المتوسط.
وكون الجيوش ودربها على القتال والتحدي والصمود في وجه الفرنسيين. وحينما أحس بأن المؤامرة موجهة ضده شخصيا من طرف الأجانب الغزاة، لجأ إلى خطة التحالف مع القبائل الأطلسية المجاورة، وخاصة نلك التي كانت بقيادة موحى وسعيد الوراوي، الذي اتخذ القصيبة مركزا استرتيجيا لمقاومته.
إن الهدف من هذا التحالف السياسي الأمازيغي، الذي اعتمد في بقائه ملتحما ومنظما على الأعراف الأمازيغية، هو الوقوف في وجه القوات الفرنسية التي زرعت الرعب والشتات بالأطلس المتوسط من أجل التحكم في خيرات المنطقة، واستنزافها وتطويقها لفرض السلطة واتمام الاحتلال.
لم تظهر مقاومة موحى أوحمو الزياني في الأطلس في بداية دخول الاستعمار الفرنسي، وذلك راجع إلى مشاركته في مناطق أخرى مختلقة داخل أرجاء تراب المملكة. لكن مع دخول الاحتلال الفرنسي إلى تراب أيت أومالو، حضر القائد موحى أوحمو للدفاع عن حوزة بلاده، فتصدى بكل ما أوتي من قوة للجيش الفرنسي، حتى اشتهر، وصار الأسطورة الملهمة في مجال الفدائية والدفاع عن البلاد والعباد. لم تقف شهرته بالمغرب فقط، بل أصبح رمزا وقدوة في كافة


الدول المغاربية وحتى العربية. وكان حريصا على جعل مقاومته عملا جماعيا، لم يفرط يوما في جهد أي فرد من أفراد القبائل الموالية له رغم تعرضه لخيانة البعض من أهله.
إن محاولة الفرنسيين الدخول والتغلغل في المناطق السهلية المغربية، استعدادا لغزو جبال الأطلس المتوسط، لتطويق المقاومين الأمازيغ الذين دافعوا بشراسة عن أراضيهم. تقودهم الرغبة العارمة في الاستشهاد والدفاع عن الحرمات والأعراض. هذه هي الرغبة التي جعلت من موحى أوحمو الزياني بطلا تزعم الصدام مع المحتلين في جل مناطق البلاد القريبة والبعيدة، إلى أن وصل المستعمرون إلى أبواب الأطلس المتوسط مسقط رأس هذا البطل. بدأ مكافحة المستعمرين منذ حطوا رحالهم بالدار البيضاء سنة 1907م. وبالشاوية سنة 1908م، وشارك في التصدي لهم.
بالإضافة إلى مشاركته الكثيفة للدفاع عن القصيبة سنة 1913م. لتصل به الأقدار إلى مواجهة الفرنسيين وجها لوجه بترابه الزياني. فمن هو الذي قاد الجيش الفرنسي؟ وماهي استراتيجيته؟
في المقابل كان الكولونيل هنريس، هو الذي قاد العمليات العسكرية الفرنسية لغزو بلاد زيان منذ بداية 1913م. ولما فشل الفرنسيون في محاولة الاقتراب من المنطقة عن طريق قرية مريرت وأكلموس وتادلة، حاولوا عن طريق أقرباء الزعيم استمالته وإغرائه والتسويف عن استعجال المواجهة. فلما رفض الزعيم الزياني ذلك، قررت قوات الاحتلال، بقيادة الكولونيل هنريس Henrys شن هجومات وارتكاب إبادات ضد القبائل الأمازيغية الزيانية والمجاورة لها. وفي هذا الصدد قال الجنرال گيوم:" لا تكمن قوة الزيانيين في كثرة عددهم، بقدر ما تكمن في قدرتهم على مواصلة القتال بالاعتماد على ما كانوا يتحلون به من بسالة وتماسك وانتظام، وأيضا بفضل مهارة فرسانهم البالغ عددها 2500 فرس، فكانوا بحق قوة ضاربة، عركتها سنوات طويلة من الاقتتال. كما كانت أيضا سرعة الحركة والإقدام، إلى جانب القدرة العفوية على المخاتلة في الحرب من الصفات المميزة لمقاتليهم…"، وهذه المقولة شائعة في كل التحقيقات والترجمات التي تمت لما كتب عن مقاومة قبائل أيت أومالو.
ومن خلال هذا الاقتباس الذي صرح به أحد مؤرخي الجيش الفرنسي، يظهر أن الزيانيين كانوا مناضلين متمرسين على فنون الحرب والقتال، يغذيهم الحماس والشجاعة للدفاع عن الأرض والأهل. وفي هذا الإطار، فقد احتل الفرنسيون بقيادة الكولونيل هنريس منطقة زيان وتحديدا مدينة خنيفرة بتاريخ 12 يونيو 1914م. بجيش تجاوز تعداده ثلاثين ألف محارب، حسب الكتابات الفرنسية. فاضطر القائد موحى أوحمو الزياني إلى إخلائها، والسير نحو الجبال المجاورة للمدينة، من أجل الحفاظ على جيشه، ومن هذه بدأ في شن هجمات مرارا وتكرارا على مدينة خنيفرة التي احتلتها القوات المهاجمة. وكانت نتيجة هذه المناوشات والاصطدامات الكثيرة خسائر جسيمة في صفوف الجيش الفرنسي.
والخلاصة أن التأريخ لمعركة الهري جاء ذكره عند كل المؤرخين الذين تحدثوا عن التاريخ المعاصر للمغرب، وخاصة المتخصصين في جانب المقاومة منه. إلا أن بعض المؤرخين مثل سعيد كنون عن الجانب الفرنسي، والأستاذ محمد بن لحسن عن الجانب المغربي، خصا معركة الهري بتفصيل متميز. والسبب راجع عند سعيد كنون أنه كان مشاركا في هذا التاريخ بصفته قبطانا في الجيش الفرنسي، الذي حارب رجال هذه المنطقة إلى أن تم القضاء على آخر مقاوم من هاته القبائل.
والثاني أي بن لحسن بصفته أولا أحد الباحثين الأكاديميين الذين تناولوا موضوع المقاومة بالمغرب، وثانيا لأنه أحد أبناء قبائل زيان، مما دعاه إلى إحياء تاريخ أجداده، وربما بمناهج معاصرة في البحث التاريخي، وبالكشف عن معلومات جديدة حصل عليها من المقاومين أنفسهم، لأنه يتحدث معهم لغتهم، ويتعاطف معهم كما يفعلون هم أيضا معه. ومعلوم أن تلك المعلومات، لو لم يكن بن لحسن لما استطاع أحد غيره استخراجها شفويا من ذاكرة أولائك المقاومين أومن أبنائهم
على الأقل. إذن نقول بأن معركة الهري لحسن حظها كحدث تاريخي، قيد لها أن تدون من مؤرخين مهمين، واحد شاهد عيان عليها، والآخر من الباحثين الغيورين على المنطقة وتاريخها.
لا ئحة المراجع
1ـ الفقيه الإدريسي، "قراءة في كتاب معركة لهري." ،مجلة الذاكرة الوطنية، ـ العدد السابع، سنة 1426هـ / 2005م.،ص.215.
2ـ محمد بن لحسن، معركة الهري 13 نونبر صفحات من الجهاد الوطني، مطبعة أنفو ـ برانت 12 شارع الليدو، فاس المغرب، ط.1، 2001م. ص.88.
3ـ قبطان سعيد كنون، الجبل الأمازيغي ايت أمالو بلاد زيان، المجال والانسان والتاريخ، باريس، لجنة افريقيا الفرنسية،1929م.، مصلحة شؤون الأهلية للمغرب.
4ـ فرانسوا بيرجي، موحى وحمو الزياني 1870ـ 1921م.، فاس، مطبعة أنفو برانت، ترجمة محمد بوستة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الولايات المتحدة تعزز قواتها البحرية لمواجهة الأخطار المحدقة


.. قوات الاحتلال تدمر منشآت مدنية في عين أيوب قرب راس كركر غرب




.. جون كيربي: نعمل حاليا على مراجعة رد حماس على الصفقة ونناقشه


.. اعتصام لطلبة جامعة كامبريدج في بريطانيا للمطالبة بإنهاء تعام




.. بدء التوغل البري الإسرائيلي في رفح