الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 2

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2020 / 12 / 12
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


حين لا يعرف الإنسان قيمة الأرض التي يقف ويحيا عليها، وتعميه الأيديولوجيات أو المعتقدات المشوهة أو الخرافات والأساطير الساذجة عن النظر أسفل قدميه، ويتطلع بناظريه نحو ما من سبيل يوصله إليه، يكون قد خسر الكثير الذي لا يمكن أن يعوضه سوى إما عبر التقليد أو الاستيراد. وحين لا يعرف الإنسان قيمة نفسه، كيف قد قدم إلى الحياة، وطبيعة الغرائز التي يحملها في مورثاته، ويسعى جاهداً لتبديل هذه الذات الطبيعية الصحية بأخرى مصطنعة مريضة بالحرمان وعقد النقص والأوهام، يكون قد خسر كل شيء ولا يبقى أمامه سوى الانتحار. الأرض والأنسان، هما محور تركيز العمل الحالي؛ منهما قد نشأت وتطورت الحياة إلى صورتها المبهرة والمدهشة الحالية.

لقد وجد الإنسان على الأرض منذ مئات آلاف السنين على الأقل، وكانت حياته عليها شبيهة تماماً بحياة الحيوانات وكافة الكائنات الحية من حولنا في كل مكان، في البيت والشارع وحديقة الحيوان، أو في البراري والأحراش والغابات. ومنذ عشرات آلاف السنين تقريباً، بفضل حادث أو ظرف ما، تطورت لدى الانسان على وجه التحديد ملكة ميزته منذئذ عن كافة المخلوقات الأخرى- العقل. يطلق على أول جد عاقل للإنسان اسم "الهومو سابينس"، ويعود إلى نسبه كل البشرية الحالية، أو هكذا يزعم العلماء في الزمن الحاضر على الأقل. وكان تطور العقل عنصراً حاسماً في نشأة وتطور الحضارة الإنسانية، حيث مكن الإنسان أولاً من إدراك ذاته واحتياجاته وغرائزه، ومن ثم استكشاف واختراع أفضل الوسائل لسدها وإشباعها، وثانياً الوعي بالعالم والكائنات من حوله، ومن ثم استكشاف واختراع أفضل الوسائل لاستغلالها وتسخيرها لتلبية احتياجاته ومقاصده. بفضل ملكة العقل، أدرك الإنسان ذاته أولاً، ثم أدرك ثانياً العالم والكائنات من حوله، وتعلم كيف يسود نفسه ويسود العالم والمخلوقات أجمع. كان تطور العقل نقطة تحول حاسمة في مسار الحياة على كوكب الأرض.

تلعب الأرض دوراً محورياً في وجود وحياة الإنسان، والكائنات الحية كافة. توفر الأرض العناصر الأساسية لوجود الإنسان وبقائه؛ منها يحصل على طعامه وشرابه، وبفضل جاذبيتها يستطيع الاستقرار والتنقل عبر أرجائها، ومن غلافها الجوي يستمد الأكسجين، وتعتمد حياته على عناصرها الطبيعية التي قد شيد منها حضارته أيضاً. فالتكوين الجسماني للإنسان بكافة عناصره مستمد، في أشكال ونسب متفاوتة، من ذات العناصر التي قد زودت بها الطبيعة الأرض التي يعيش عليها. وعلاوة على التكوين الجسماني للإنسان، الحضارة الإنسانية بالكامل مستخرجة ومشيدة من الأرض، أو عناصر موجودة طبيعياً في الأرض استخرجها الإنسان بيده وأعاد انتاجها وتصنيعها وابتكارها بعقله في صور وتطبيقات شتى. على سبيل المثال، القطارات، الطائرات، الحواسيب الالكترونية، الهواتف الذكية، الصواريخ، القنابل الهيدروجينية...الخ هي في الأصل مزيج من العناصر الطبيعية مثل الحديد والنحاس والبلاستيك ...الخ وتطبيقات لقوانين طبيعية مثل الجاذبية، الطاقة، الكثافة، الضوء، الحرارة، السرعة...الخ. كذلك الحال مع العمارة البشرية كلها، مستمدة في نهاية المطاف من رمال الأرض وصخورها وحديدها ومعادنها. في النهاية، يمكن القول أن كل ما فوق الأرض من صنع الإنسان وفي غير صورته الطبيعية الخام يعود في الأصل إلى الطبيعة والأرض، لكن بعدما يرفع عنه ما بذل فيه من جهد عضلي وذهني إنساني لصنعة وتشكيله وإعادة انتاجه في الصورة التي نقف أمامها منبهرين حالياً.

لأن الحياة تعتمد بالكامل على الأرض، حتى الحيوانات وكافة الكائنات الحية تتخذ بالغريزة من الأرض وهباتها الطبيعية مناطق نفوذ خاصة بها، تحميها وتدافع عنها ضد كل معتد وطامع. ومثل الحيوان، كان الإنسان البدائي يتخذ من الأرض التي ولد عليها منطقة نفوذ خاصة به، يحميها ويدافع عنها ضد كل معتد وطامع بطريقة غريزية لا شعورية تماماً مثلما لا تزال تفعل كافة الحيوانات والكائنات الحية من حولنا حتى اليوم. كذلك الإنسان عبر العصور، وحتى يومنا هذا، لا يزال يتخذ من الأرض التي قد ولد عليها منطقة نفوذ- وطن- له، يرتبط بها برابط وجداني وعاطفي يصعب أن يعوضه عنه مكان آخر على وجه الأرض، مهما كان أكثر تقدماً أو ثراءً أو قوةً أو رفاهية أو احتراماً لحقوق الإنسان من مكانه الأم. الوطن قدر مثل الأب، ستحمل مورثاته بداخلك واسمه على بطاقتك أينما سافرت واستقريت واستوطنت، وما من شخص طبيعي سيحب وطناً أكثر من حبه لوطنه الأم، مثلما لن يحب رجلاً أكثر من حبه لأبيه الذي تمرغ بين أحضانه طفلاً.

كما نعيش في الوطن، الوطن يعيش فينا أيضاً. الوطن لم يظهر إلى الوجود هكذا فجأة بين عشية وضحاها، لكنه تحقق تتويجاً لجهد بشري عبر مئات وآلاف السنين، من جيل إلى آخر. كل جيل يستلمه يضيف إليه، أو على الأقل يعمل جاهداً للمحافظة عليه، وفي النهاية يسلمه إلى الجيل القادم. إذا لم يستطع الجيل الحالي أن يضيف إليه أي عمران أو تقدم أو رخاء، على الأقل سيضيف إليه لا محالة شيء من مورثاته حتى يحفظ بقاء الوطن. هكذا، الوطن ليس مجرد مباني ومشيدات وانجازات مادية فقط، بل يشمل أيضاً، وهو الأعظم أهمية، مورثات جينية تنتقل من الآباء إلى الأبناء، وذكريات طفولة وصبا، وخبرات حياتية، وأصدقاء وأحباء، وعادات وتقاليد، وثقافة يتم توارثها من جيل لآخر. حتى لو كان الوطن في الأصل مجرد أرض وعمران ووسائل مادية للعيش، لكنه يكتسب أيضاً أبعاداً عاطفية ووجدانية لها أعظم الأثر في شخصية الإنسان. كل إنسان يتعلق بوطنه كتعلق الطفل الصغير بجسد أمه. وكل إنسان يحمل في ملامحه الجسدية الملامح الفسيولوجية لطبيعة وطنه إذا كانت صحراء رملية أو وادي نهري طيني، بحرية أو يابسة، شديدة الحراة أو ثلجية، مطيرة أو جافة...الخ، ويحمل كذلك، وهو الأهم، الملامح المعنوية لوطنه مثل اللغة والدين والتاريخ والطبائع والعادات والتقاليد والثقافة...الخ. كما نعيش في الوطن، الوطن يعيش فينا أيضاً ويستطيع كل من يلتقينا أن يعرف الأرض والثقافة التي قد قدمنا منها بمجرد نظره خاطفة منه على ملامح وجهنا وبشرتنا، وسماعه لبضع كلمات نتفوه بها.

عندما يكون الوطن جزء من هوية الإنسان ذاته، حينئذ لا يستقيم منطقياً أن تقوم أي مفاضلة فيما بين الأوطان. إذا كان الارتباط بين الإنسان ووطنه الذي قد شهد مولده وطفولته وصباه، تكوينه المادي والمعنوي الأساسي، يشبه ارتباطه بأمه وأبيه، مصدر تكوينه الجسدي والمعنوي أيضاً، عندئذ تصبح المفاضلة فيما بين الأوطان، مثلما فيما بين الآباء والأمهات، مستحيلة وغير منطقية في أحسن الأحوال. لا يعقل أن يتمنى إنسان سوي لو كان رجلاً آخر غير أبيه أباً له؛ كذلك لا يعقل أن يتمنى إنسان سوي لو كان وطناً آخر وطنه الأم. أنا أحب أبي واحترمه أكثر من حبي واحترامي لأي رجل آخر في العالم، حتى لو كان أبي في حقيقة الأمر أكثر رجل فقراً وجهلاً وفظاظة وغلظة في العالم. هو، في النهاية، أبي الذي قد خصني بحماية وحب ورعاية وعطف وتمكين لم يخص به أحداً غيري في العالم. هكذا هي أيضاً علاقة الإنسان بوطنه، لا يمكن تعويضها بأي وطن آخر. أنا أحب وطني مصر وأفتخر به أكثر من حبي وافتخاري، مثلاً، بوطن مثل السعودية أو الولايات المتحدة الأمريكية أو أي وطن آخر في العالم. هكذا الحال، أو هكذا ينبغي أن يكون، مع السعوديين والأمريكيين وكافة البشر حول العالم، ينبغي أن تكون أوطانهم أنفسهم هي الأحب إليهم من كل الأوطان على وجه الأرض.

بفضل امتلاك الانسان لخاصية العقل والتفكير منذ زمن بعيد وتفرده بها على كافة المخلوقات الأخرى، استطاع أن يغير شكل الحياة على الأرض من خلال منجزات كثيرة من ضمنها الوطن- موضوع هذا العمل. لكن هذه القدرة الإنسانية الفريدة بقدر ما كانت قادرة على البناء والتشييد والإنجاز بقدر ما كانت قادرة في الوقت نفسه على الهدم والتخريب والدمار أيضاً. بفضل العقل، يستطيع الإنسان مناورة ومعالجة وتهذيب غرائزه الطبيعية الفطرية، ومراكمة الخبرات والمعارف وبناء الأوطان والحضارة. لكنه يستطيع أيضاً، في حالة اساءة استعمال هذه الملكة الفريدة، أن يضر نفسه ويقتلها بالانتحار، أن يخون وطنه ويساعد في هزيمته وتخريبه. العقل يعطي الإنسان قدرة بلا حدود للبناء والهدم، التقدم والتخلف، الرخاء والبؤس. وتستمر حياة الإنسان على الأرض مترددة إياباً وذهاباً عبر نقاط متعددة بين هذين القطبين، لا تخلو بدرجة أو بأخرى من البناء والتدمير، الحرب والسلام، التقدم والتأخر، الغنى والفقر، الصحة والمرض، العلم والجهل، الموت والإنجاب...الخ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصطفى البرغوثي: الهجوم البري الإسرائيلي -المرتقب- على رفح -ق


.. وفد مصري إلى إسرائيل.. تطورات في ملفي الحرب والرهائن في غزة




.. العراق.. تحرش تحت قبة البرلمان؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. إصابة 11 عسكريا في معارك قطاع غزة خلال الـ24 ساعة الماضية




.. ا?لهان عمر تزور مخيم الاحتجاج الداعم لغزة في كولومبيا