الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأصل الأفريقي للحضارة المصرية القديمة (5)

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2020 / 12 / 12
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


محاولات سرقة التاريخ لم تكف يوما، لأسباب متصلة بالدونية والتميز الذاتي والعصبية القومية والعرقية، لذا فمن السهل أن تسرق التاريخ وتُزوّر أحداثه بوازع قومي وشعارات تُرضي الجمهور لكنك ستقف عاجزا أمام بعض الأسئلة الجوهرية..

مثلا فمدعين الأصل الأبيض القوقازي للحضارة المصرية يستدلون لقولهم بأن هناك خطرا يتهددهم ويهدد مصر كلها من مجموعة تسمي نفسها "الأفروسنترية" Afrocentrism أي مركزية أفريقيا في صناعة الحضارات، وهنا بالطبع لابد أن ينتفض البيض ويُشكلون عداءاً مع هذا التيار ليس على التاريخ في حقيقته ولكن على المصالح والأوهام والعصبيات المحلية، فكلا التيارين الأفريقي والأبيض متعصب حتى الثُمالة ولأن سمة المتعصب الرئيسة فشله في الجواب على الأسئلة سنطرح بعض منها بغرض الاستفهام والاستنكار معا..

أولا: القول بأن حضارة مصر القديمة كانت بيضاء لأن هناك مجموعة تقول كذا وكذا هو ليس دليلا علميا، بل شخصنة وحصر الفكرة النظرية والعقلية في شخوص ومواد مستهلكة، فلماذا تجعلونها دليلا علميا وهي ليست كذلك؟..وهل يجوز الاحتجاج بمجرد الادعاء أم بمناقشة أدلة الطرف الآخر دون شخصنة القضية معه؟

ثانيا: هذا المنطق قد يصب في صالح من يدعي أصالة مصر عبرانيا وإسرائيليا مثلا، فمن يتعصب لإثبات الأصل الأبيض ويأول أي دليل وحجة لخصومه ويقفز على المستندات التاريخية والفكرية والعقلية قد يخدم هذا التيار الإسرائيلي الذي يدعي أنهم من بنوا أهرامات الجيزة كمثال، وبالتالي فنفس المنطق يُجيز عقليا حجج الطرف الآخر المتعصب للأفروسنترية على مشروعيه عمله بحجة خطر إسرائيل والعبرانيين..

ثالثا: تيار الأفروسنترية شكّله مواطنين أمريكيين من السود، وهؤلاء أسلافهم لم يأتوا من مصر وشرق أفريقيا بل غالبيتهم العظمى من الغرب الأفريقي والوسط فكيف يكونوا هم من صنعوا حضارة مصر؟

رابعا: إذا كان الأفروسنتريين صادقين فلماذا أنجزوا حضارة مصر فقط بنفس الكيفية، لماذا لم نرى مُنجرهم ومُنجَر أسلافهم في بقية القارة الأفريقية؟..أين الأهرامات والتحنيط والمعابد الضخمة والمسلات في أثيوبيا مثلا أو نيجيريا أو الكاميرون وغانا والسنغال؟

نحن أمام حقيقة مؤكدة تاريخيا أن حضارة مصر القديمة كانت متفردة بين كل حضارات القارة، وانتسابها لأفريقيا ليس لأن الزنوج والأثيوبيين صنعوها مع احترامنا لهم، ولكن هناك عوامل أدت لهذا التطور المصري لم يناقشها الأفروسنتريين ولا خصومهم من متعصبي العرق الأبيض القوقازي، وفي هذا المبحث العلمي الهام نلقي الضوء على هذه العوامل لنرى كيف نشأت حضارة مصر وأن أصالتها الأفريقية ثابتة لتشابه اللغات والثقافات والألوان والجينات وعوامل عدة مجتمعة تشكل قرائن مع علوم التطور والبيولوجي والأحياء والاجتماع..وغيرها، لكن التفرد المصري القديم كان حصيلة جهد خاص بهم حصلوا عليه لظروف متعددة لا يمكن مناقشتها جميعا في هذا المبحث لأن المؤكد أن هناك عوامل سياسية واجتماعية كثيرة ساهمت في نشوء حضارة مصر وارتقاء الذهن فيها.

والعامل السياسي بالذات لا يمكن أن نناقشه بمفرده لارتباطه بالوعي والعقل وطبيعة المجتمع والاقتصاد وخلافه، لاسيما أن قوة أي دولة سياسيا يسبقها تطورا فكريا وماديا كبيرا حصل للمصريين في الألف 4 ق. م لم يحدث لغيرهم في القارة، بعد ذلك تسنى للمصريون أن يُنجِزوا حضارتهم بفعل هذا التطور الذي أصبح من صميم علم المصريات Egyptology البحث في طبيعة عمله وماهية تفكير المصري القديم وطبيعته وهويته الأصلية وغيرها من العلوم التي يجب أن تُناقَش بمعزل عن أخرى لزوم الدقة، فلا يمكن أن نناقش هوية المصريين العرقية ضمن إطار سياسي فقط أو بيولوجي لكون هذه العوامل جزء من صناعة الهوية وتطورها، والقول بأن العامل السياسي أو البيولوجي وحده كافيا كمن يقول أن هوية الفرنسي هي نفسها هوية المصري القديم طبقا لأبحاث جينية وصلت لتشابه جيناته مع الملك "توت عنخ آمون" الذي سبق الإشارة إليه بالمصدر في الجزء الأول..

إن الأفروسنترية شأنها كشأن اليوروسنترية Eurocentrics أو الأسيوسنترية..قائمة على العنصرية المناطقية لا غير وينفون العلم والحضارة عن غيرهم، ولمن لا يعلم فمركزية أوروبا كانت معتقدا استعماريا طوال عدة قرون ظنوا أنهم من صنعوا كل حضارات البشرية ومن حقهم أن يُعيدوا هذا الإنجاز للعالم ولو بالقوة العسكرية، فلم يكن المحرك للاستعمار الأوروبي فقط مصالحه المادية ولكن عدة عوامل مجتمعة لا زالت عالقة في ذهن الأوروبي الذي وضع كل أجناس الأرض في الدرجات الدنيا من الأبيض، ثم وضع الأوروبي فوق كل هذه الأجناس ليحق له استعباد الشعوب والتعامل مع مسألة الرقيق والمسروقات دون لومٍ أو تأنيب ضمير..

ويمكن اختصار هذه القصة أن مركزية الحضارة لا تقوم على المنطقة والعرق فالكل كانت له حضارات مختلفة في اللون والشكل والدين، إنما صناعة الحضارات لها عوامل أخرى غير هذه الأمور، كمن يدعي أن حضارة مصر القديمة مثلا كانت سامية أو حامية أو عربية طبقا لمركزية النسل والقبيلة، فهذا التفكير هو آخر ما ورثه الإنسان من عصر القبيلة ولا يود أن يفارقه بسهولة كما نعتقد، وجزئية صناعة التاريخ قد تحدث على يد ملك من الملوك أو مجموعة ما أو شعب أو دولة، فالقصة هي قدرات توظّف بشكل جيد في الإطار الزمني والمكان الذي يحويه..وأكبر دليل على ذلك أن حضارة مصر انتهت وتخلف الشعب عندما فقد هذه القدرات ولم يعد التاريخ ولا المكان يخدمه كما خدم أسلافه..

أما خصوم الأفروسنترية فهم الوجه الآخر من العملة لخصمهم، مجموعات متعصبة ضد العلم والمنطق ويجتزأون أي حقيقة علمية لتخدمهم ، مستفيدين من كثرتهم العددية في مناطقنا وإمكانياتهم المادية الكبيرة والمدفوعة بروح وطنية قومية، وللأسف فقد خُضت حوارا مع بعضهم على صفحاتي في الفيس بوك وتويتر، ولم أجن منهم سوى الإهانة والشتم مع حملات اغتيال معنوي وتشويه عن طريق ذباب ألكتروني مدفوع ..مما أجبرني على استخدام أسلحتي في السوشال التي لا أملك سوى غيرها مع قلمي وهي الحظر النهائي لأكثر من 500 حساب لتحدث العزلة بيني وبينهم مع ترصد لأي منهم بالحظر إذا أقدم على الدخول في معترك معي دون التزام بأصول النقاش المتحضر..

فلم يجدوا وسيلة للانتقام سوى إطلاق الإشاعات في حق العبد لله، أنني أجير عند الأفارقة برغم اعترافهم بفقر السود..فالأولى إذن أن أكون أجيراً عند البيض الذين سيدفعوا أكثر بالطبع..!.. ومن ناحية أخرى لم يجدوا طعنا في مقالاتي سوى الادعاء كذبا بأن حجتي في قتامة البشرة المصرية هي لون المومياء..وهذا لم يحدث طوال 4 حلقات سابقة بل لعوامل أخرى في الآثار والملامح العامة الخاصة بعلوم التشريح والأجناس كالشفاه الغليظة مثلا والتي تميز الآلاف من التماثيل والرسومات وشكل الأنف والجمجمة المصرية وخلافه، وكذلك ادعوا كذبا أنني أطالب بعودة السود لمصر لتحفيز عنصرية البيض في الشمال..و سؤالي هل خرجوا منها؟؟! ولماذا أدعو لعودتهم وهم شعب الجنوب؟ وكذلك ادعوا كذبا قولي بأن حضارة مصر زنجية، وقد نفينا ذلك في الجزء الأول على حقيقة محورية أن أفريقيا متعددة الأجناس وأن الشعب المصري ينحدر من هجرات الشرق الأفريقي للشمال حول نهر النيل بعد فقدان الهوموسابينس شعره وظهور الجلد كما بيّنا في الجزء الثالث.

هؤلاء الذين يسمون أنفسهم خصوم الأفروسنترية استفادوا من دعم عربي لهم يتحور حول الكراهية للعرق الأسود ولصق كل نقيصة بهذا العرق مع اجترار مآسي التاريخ في العبودية البائدة وصورة الزنجي في المُخيّلة العربية بشكل عام، برغم أن أسطورة الأفروسنترية التي يكرهونها لضعف وتخلف السود العلمي تساوي حبهم وعشقهم لمزاعم التفوق الآري والأبيض من جهة أخرى، وهذا الذي أسميه ب (التنمّر العلمي) أي توظيف العلم والحقائق الثابتة لأمور غير أخلاقية كالتنمر أو التحرش أو الطائفية وخلافه، فالثابت أن للسود حضارات كبيرة أشهرها كوش في السودان وأكسيوم في الحبشة، برغم أن منطقة القرن الأفريقي والسودان كانت مصدرا للرقيق الأسود في مجتمعات العرب طوال عدة قرون، فيتم تجاهل حضارات هؤلاء العبيد البائدة لتأكيد استحالة تفوقهم الأبدي..وهذه كانت المحرك الرئيسي للبيض في جنوب أفريقيا بعنصريتهم ضد السود، أن ذوي اللون الأسود مرفوع عنهم القلم والعقل والعلم..وبالتالي هم كائنات خلقت لخدمة الأبيض القوقازي لا غير..

وللجانب الديني جزء من القصة، فالعرب ليسوا وحدهم من يتعاطفون مع مركزية القوقازيين البيض بل العبرانيين والإسرائيليين في تصورهم لأبناء حام الملعونين ومنهم (مصرايم وكوش وكنعان) وهنا يفسر سلوك الإسرائيليين ضد السود الفلاشا في دولتهم وضد المصريين والفلسطينيين والأفارقة أنهم جميعا ملعونين في كتاب مقدس لما اكتسبه أبيهم حام من ذنوب وكبائر، برغم أن العرب تاريخيا لديهم حضور أسود شهير في الذاكرة الأدبية بعنترة العبسي ، وقصصه المليئة بالحزن والشجن كتعبير عن تعاطف الرواه مع الأسود المظلوم مع شجاعته وقوته، لكن الجانب النقدي هنا ليس غافلا إذ أن المخيلة العربية الأدبية رغم حُسنها في ذلك الجانب إلا أنها تحصر في ذات الوقت تعاطفهم مع الشجاع القوي، مما يعني أن الأسود الجبان والضعيف يستحق العبودية والاسترقاق.

ولا نغفل دور السينما في تعميق هذه الهوّة الثقافية، فبرغم البشرة المصرية الداكنة والواضحة أركيولوجياً وأثريا يتم تصوير شعب مصر القديم أبيض اللون في السينما المصرية والغربية، وهنا ذكر السينما والدراما المصرية كتابع ثقافي ليس إلا، فمن السخف تصوير عائلة سقنن رع وكاموس وأحمس قادة مصر ضد الهكسوس على أنهم بيض ذوي شعر أبيض وعيون ملوّنة وشفاه صغيرة..بينما كانوا يحكمون طيبة في الصعيد التي ورثت هذا اللون الداكن في شعب الأقصر والنوبة إلى اليوم، مع تجاوزنا قصص الجينات والتشريح والملامح والرسومات على المقابر والمعابد..إلخ، ولكن هناك حقيقة تاريخية مؤكدة أن من طردوا الهكسوس (كانوا صعايدة ونوبيين) بمفهومنا المعاصر عن شعب كيمت في مصر العليا..

كذلك فالملك مينا موحد القطرين لم يأتِ من الشمال الأبيض بل من الجنوب الداكن كما هو ثابت في التاريخ المصري، وسياسيا قد يُفهَم ذلك على أصالة المركز ودعم القوى والأعيان لذلك المركز..مما يعني أن طيبة والأقصر في سجلات مصر ما قبل التاريخ كانت مركز حضاري مهم..ولا يعني ذلك أن الشمال كان أبيض اللون تبعا لهذا السياق بل استنكار لثبوت الضد فلم يكن الشمال والجنوب المصري مختلفين عرقيا ولونيا بشكل كبير لكن المركز المصري الجنوبي ظل طوال عصر الأسرات وإلى انهيار الدولة الحديثة وبدء العصر المتأخر هو مركز مصر وشريانها الثقافي المغذي للشمال..وأكبر دليل على ذلك أن الآثار المصرية القديمة ما قبل العصر البطلمي 90% منها – نسبة تقريبية – في الصعيد والنوبة.

ولماذا نذهب بعيدا ولدينا حضارتيّ (نقادة والبداري) ما قبل عصر الأسرات وهي جنوبية مصرية في محافظتيّ (قنا وأسيوط)، كأقدم أثر مصري بشري ينتمي ويؤسس للحضارة المصرية القديمة، مما يعطي شاهدا آخر على أصالة الجنوب الأفريقي للشعب المصري ومركزية هذه الحضارات ما قبل التاريخ في طريق الهجرة للشمال التي سقنا بعضا منها في الجزء الثالث كدليل تطوري، وكذلك شهادة الأديبة والمؤرخة الأمريكية "ميريام ليشتهايم " Miriam Lichtheim في موسوعتها "الأدب في مصر القديمة " أن قصص المصريين القدماء تُرجع أصولهم لمناطق جنوب الشلال الأول تسمى "واوات" Wawat وهي أحد التسميات القديمة لمناطق النوبة والسودان الحالية..

ألا يستحق كل ذلك أن نقف عنده حين نتحدث عن مصر وهويتها؟ أم سنحارب التاريخ ونصنع آخر مزيفا يقول أن مصر القديمة لا علاقة لها بأفريقيا سوى الجغرافيا؟

لنا عودة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ساعدت كوريا الشمالية إيران بهجومها الأخير على إسرائيل؟ |


.. مسلسل يكشف كيفية تورط شاب إسباني في اعتداءات قطارات مدريد في




.. واشنطن تؤكد إرسال صواريخ -أتاكمس- بعيدة المدى لأوكرانيا


.. ماكرون يدعو إلى أوروبا مستقلة أمنيا ودبلوماسيا




.. من غزة| 6 أيام في حصار الشفاء