الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
سيرورة التطور والنضج العقلي عند الأطفال - أسس الرعاية التربوية الصحية لأجيال المستقبل
مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب
(Mousab Kassem Azzawi)
2020 / 12 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مقدمة كتاب
سيرورة التطور والنضج العقلي عند الأطفال
أسس الرعاية التربوية الصحية لأجيال المستقبل
إعداد وتقديم: د. مصعب قاسم عزاوي
تعريب: فريق دار الأكاديمية
الطبعة الثالثة 2020
صادر عن دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن
قد لا يختلف عاقلان بأن هناك واقعاً مريراً يحيط بأطفال المعمورة جميعاً حوّل كينوناتهم سلعاً تُباع وتُشترى، يتم التلاعب بعواطفها وميولاتها وحتى مسارات نضجها من خلال طوفان وسائل التواصل الاجتماعي ومفاعيلها الخبيثة اللئيمة، وهو ما أنتج زيادات مضطردة في وقوعات اضطرابات الاكتئاب والقلق وحتى الميول الانتحارية التي أصبحت تنال من الأطفال اليُفَّع في بريطانيا مثلاً بمعدلات لا تقل عن 20%، وأصبح هناك تشخيص جديد يستخدمه الأطباء شماعة لتعليق إخفاق المجتمع بالغالبية المطلقة من واجباته البديهية تجاه أطفاله، يدعونها «الشخصية الحدية» أو باللغة الإنجليزية Borderline Personality و التي تدعى أيضاً «الشخصية عدم المستقرة عاطفياً من النموذج الحدي» أو باللغة الإنجليزية Emotionally Unstable Personality Disorder, Borderline Type والتي يتم تشخيص ما لا يقل عن 5% من البالغين في عموم بريطانيا مثلاً كمرضى مصابين بذلك النوع من اضطرابات الشخصية. وهو النسق الذي يجد تمظهره بشكل أكثر وحشية في تشخيص إصابة أعداد هائلة من البشر قد تصل نسبتها مثلاً في بريطانيا إلى 13% من عموم مواطنيها وخاصة الأطفال منهم بما يعرف باضطرابات «عسر الانتباه وفرط الحركية» و التي تدعى باللغة الإنجليزية Attention Deficit Hyperactivity Disorder، وهي طيف من الأمراض جوهرها علل اجتماعية عميقة متأصلة في بنيان المجتمعات التي لم يتطور البشر وأدمغتهم خلال رحلتهم التطورية الطويلة التي امتدت على سبعة ملايين من السنين قضوا معظمها في مرحلة الصيد والالتقاط، لتتكيف مع طوفان المؤثرات وشبكة العلاقات والاشتراطات التي فرضها نموذج المدنية المبني على شبكة العلاقات التي تفرزها الرأسمالية بشكلها الاحتكاري الوحشي المعولم الذي لا قيمة فيه إلا لما يمكن بيعه وشراؤه في اقتصاد السوق الوحشي الذي البقاء فيه للأكثر بأساً وفتكاً؛ بينما أولئك «المرهفون الرقيقون» والذي يحتمل أن يكونوا أكثر قرباً من «الفطرة وطبيعة الإنسان الغريزية» ولا بد أن يصعب أو يستحيل عليهم التكيف مع ذلك النمط مع العلاقات الشوهاء التي يكابدونها في محيطهم الاجتماعي والحيوي، فيقتضي ذللك أن يتم وصمهم بأي من التشخيصات والاضطرابات السالفة الذكر، وإخراجهم عليلين من فضاء المجتمع بشكل أو بآخر، وإغراقهم بأكداس من الأدوية النفسية وفق مبدأ قوانين الغابة التي تمثل ناظم خطى الرأسمالية المتوحشة والتي تفترض استحالة تغيير المجتمع و تغيير ظروفه الشوهاء في اتجاه يخالف اشتراطات اقتصاد السوق الوحشي ومتطلبات تحقيق الربح السريع بغض النظر عن أي خسائر جانبية لا بد منها، حتى لو كانت مستقبل وأحلام وحيوات الملايين من البشر. وهو التناقض الذي يجد حله الوحيد في تغيير آليات عمل أدمغة كل من يجد عسراً في التكيف مع ذلك النمط الاجتماعي الأشوه الذي ليس هناك من متسع للتفكر بتغييره، وفق عقيدة الرأسمالية الاحتكارية المعولمة المتوحشة التي تعرف نفسها بأنها (نهاية التاريخ) وفق توصيف منظرها فرانسيس فوكاياما ومن كان على شاكلته من وعاظ السلاطين وأصحاب الحل والعقد في نظم هيمنة الأقوياء عن الضعفاء.
وهو الواقع المرير الذي أصبح يحيط بكل تفاصيل حيوات الأطفال في أصقاع المعمورة، وأخذ يفصح عن نفسه باعتبار إصابة الأطفال بالكثير من الاضطرابات النفسية من طبائع الأمور، وأن معاناة الكثير منهم من تلاوين القلق، والاكتئاب، وصعوبات التعلم، والتكيف الاجتماعي، وصعوبات التواصل بأشكالها المختلفة، بالإضافة إلى تردي مستويات الذكائين العاطفي والاجتماعي عندهم واقع لا بد من قبوله والركون إلى مفاعيله إذ ليس هناك مهرب من الوقوع في شراكه التي أصبحت جزءاً عضوياً من نموذج الحياة المدنية المعاصرة بشكلها العولمي المتوحش الذي يكابده كل البشر، ويدفع ثمنه الأكثر فداحة الأطفال لقلة حيلتهم، أو لعدم اكتراث من حولهم أسرة ومجتمعاً بالرعاية الواجبة بهم بالشكل الذي يفترض لكل كائن بيولوجي يسعى جاهداً للحفاظ على ذريته وعدم اندثار مورثاته من وجه البسيطة القيام به، و هو ما لا يستقيم في ظل واقع الذاتية و الفردانية والانعزالية التي يؤسس لها واقع الرأسمالية الاحتكارية المعولمة، الذي سدرة منتهاه تحويل الفرد إلى كائن استهلاكي محض لا هم له في حياته سوى تعظيم الثروة والاستهلاك حتى الثمالة.
وذلك الواقع البائس يستدعي من كل عاقل حصيف أولاً إعمال اجتهاده لفهم أسبابه الموضوعية ومن ثم الانتقال إلى حيز مواجهته الدؤوبة بكل ما أوتي الإنسان العاقل من إرادة لأجل الانتصار إلى الواجب الأساسي للمجتمع ككل في صيانة ذاته، وضمان إعادة إنتاجه، وحماية كينونته والتمهيد لإمكانيات استمراره في المستقبل عبر رعاية أطفاله المراهقين وضمان حقوقهم الجسدية والعقلية، وهم الذين سوف يناط بهم القيام بتلك المهمة الجمعية لاحقاً، والحفاظ على نفس المجتمع الذي نشأوا فيه، ورد الجميل لأفراد ذلك المجتمع الذين قاموا بدورهم في رعايتهم وحمايتهم أطفالاً، وينتظرون من أولئك الأطفال في المستقبل حينما يكبرون أن يرعوا مسنيهم، في صيرورة طبيعية لأي مجتمع يراد له الاستدامة وعدم الاندثار من وجه البسيطة.
ويكمن جوهر أس الحاجة البيولوجية عند كل أطفال بني البشر للرعاية المستمرة في مرحلة الطفولة وخاصة بضع السنوات الأولى من عمر الطفل في المعضلة التي واجهت بني البشر عبر رحلتهم التطورية كجنس حيواني، والتي تمثلت في أن نمو أدمغتهم وزيادة حجمها توازى مع زيادة قدراتهم الحركية الفائقة وخاصة حركات الأصابع وقدرتهم على الكلام اللتين مثلتا الرافعة الأساسية لتربع البشر على عرش مملكة الحيوانات. وهو الواقع الفيزيولوجي والبيولوجي الذي اصطدم بعائق بيولوجي تطوري آخر تمثل في ضيق القناة الحوضية لدى الأمهات التي لا تسمح بمروره حجوم دماغية كبيرة منها، وهو ما تم حله بيولوجياً عند بني البشر بشكل يخالف كل أسلافهم وأقرانهم من الحيوانات الأخرى تمثل في ولادة الولدان بأدمغة لما تتكامل تطورياً بعد، والتي لا بد لها أن تقوم بتلك المهمة خارج الرحم وخاصة خلال مرحلة السنتين الأوليتين من عمر الطفل، على عكس الواقع البيولوجي الذي ينظم بقية الكائنات الحية الفقارية والتي تولد بأدمغة مكتملة النضج تمكنها من القيام بكافة الوظائف البيولوجية والحيوية المناطة بها، بينما لا بد لأطفال بني البشر من رعاية مستمرة بعد الولادة تضمن نمو أدمغتهم بشكل سليم ومتسق يؤسس لاكتمال نضج الأطفال عقلياً ونفسياً بشكل طبيعي.
وتلك الحقيقة البيولوجية التطورية تستدعي التفاتاً مرهفاً إلى الأهمية الفائقة التي يكتسي بها الدور التربوي الرعائي الذي تقوم به الأسرة والمدرسة والمحيط الحيوي في المجتمع للأطفال عموماً، لما له من تأثير عميق على كينونة أولئك الأطفال في المستقبل، وهو ما يستدعي الاتكاء في تأسيس ذلك النهج التربوي على معرفة علمية واثقة تستند إلى الكشوفات العلمية في مجالات النمو البيولوجي والعقلي للأطفال، والتي لا بد أن تتفارق عن أي نهج تربوي يستند في جوهره على التقليد أو العفوية أو الارتجالية، والتي قد تفضي في كثير من الأحيان إلى كوارث تربوية تنتج أعداداً مهولة من الأطفال ضحايا الإهمال التربوي جهلاً أو قلة اكتراث أو كليهما معاً، وهو ما يفضي في المآل الأخير إلى نماذج شوهاء من البالغين ليس لعلة فيهم حقاً وإنما لتقصير من كان يناط بهم الاعتناء بأولئك البالغين في مرحلة طفولتهم بشكل تربوي ورعائي ممنهج يضمن تطورهم البيولوجي العقلي بشكل سوي.
وذلك الواجب التربوي الرعائي المناط بكل البالغين القيام به تجاه أطفالهم بشكل ناضج ورشيد ومستبصر علمياً يكتسي بإلحاحية منقطعة النظير وتعقيد إضافي في زمن التلوث البيئي الشامل عمقاً وسطحاً في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية أساساً، والتي تميزت بطوفان من الملوثات الصنعية التي أدخلها البشر إلى صلب نموذج حيواتهم المدنية، وأصبحت جزءاً عضوياً منها، دون أي دراسات حقيقية ذات معنى لخطورة تلك المدخلات على صحة وعقول البالغين والأطفال على حد سواء، من قبيل التلوث بالأمواج الكهرومغناطيسية القصيرة التي تستخدمها الهواتف المحمولة والأبراج التي تتصل بها. والأمثلة على ذلك كثيرة وعسيرة على الحصر وخاصة ما تعلق منها بالمواد الكيميائية الصنعية التي يتم استخدامها كمواد حافظة غذائية، أو تلك التي يتم استخدامها في صناعة الملابس التي أصبح جُلُّها يعتمد على أقمشة تركيبية وصنعية مادتها الأساسية ألياف من المشتقات النفطية. وهو واقع مرير معقد يحتمل أن يفضي إلى أطفال متواضعي القدرات العقلية ليس بسبب قصور تشريحي في أدمغتهم، أو قصور في الرعاية التربوية التي حصلوا عليها خلال صيرورة نضجهم في السنوات الأولى من عمرهم، وإنما لوحشية منظومة الرأسمالية بشكلها البربري المعولم الذي لا يبصر من الأهداف سوى هدف تحقيق الربح السريع، وتسليع كل شيء ليصبح سلعة تُباع وتُشترى في اقتصاد السوق الوحشي، دون اكتراث بأي أضرار جانبية لا بد من حدوثها في منظاره البائس حتى لو كان حيوات ومستقبل وعقول الملايين من الأطفال.
وواقع التلوث البيئي الشامل ذاك لا يمكن مواجهته بأي شكل عفوي اتكالي وإنما فقط بالاتكاء على المعرفة العلمية الواثقة، والاجتهاد في استدامة التواصل معها و العمل وفق توجه بوصلتها لتمكين أولئك الذين يناط بهم الدور الجوهري والمحوري في رعاية الأطفال وحمايتهم من الوصول إلى درجة من الكفاءة المنهجية والمناعة المعرفية تمكنهم من القيام بواجبهم بأقصى درجة ممكنة من الحرص للدفاع عن حق الأطفال في التطور الطبيعي وعدم الوقوع ضحية لنموذج اجتماعي بائس يكاد يبتلع أطفال المعمورة وحقهم الأساسي في إفساح الفرصة لأجسادهم وعقولهم للتطور بشكل طبيعي.
وإن تأسيس ذلك النهج الرعائي للأطفال المبني على معرفة علمية واثقة تتجاوز العفوية والارتجالية، يمهد الطريق لأجل الارتقاء بذلك الواجب ليكون بمثابة المنظار الكلياني الناظم لسبل مداخل رعاية الطفل، والقبول الثابت بالتنوع السلوكي والتباين في اتجاهات وميولات الأطفال، الذي يقتضي عدم مقاومته ومحاولة ترويض الأطفال وتنميطهم سلوكياً وفكرياً بحيث يصبح كل منهم نسخة كربونية عن الآخر، وهو الشكل الذي تتبناه جل النظم التعليمية المعاصرة التي تهدف بشكل حصري لزرق المعارف والخبرات الدراسية في عقل التلميذ والطالب، من أجل تعزيز فرص حصده لعلامات أعلى في الامتحانات التي لا بد له من اجتيازها؛ وهو نموذج من التعليم يختزل العملية التربوية لتصبح تعليمياً من أجل الامتحان، دون استبطان للواجب الأكثر جوهرية وأهمية والمتمثل في تنمية شخصية الطفل، وقدراته على التفكير الحر، والاجتهاد للاكتشاف، والتجريب، والبحث، والحوار، والتواصل اللغوي، والعاطفي، و استنهاض القدرات الإبداعية وحتى الفنية التي تمثل حاجة عضوية وفيزيولوجية في سياق أي نمو ونضج طبيعي للجهاز العصبي. وهو ما يقتضي إعادة الاعتبار لحق الأطفال في اللعب والتفاعل مع الأطفال الآخرين الذي لا بد من اعتباره حقاً بديهياً من حقوق الإنسان، لا بد من تخصيص الوقت الكافي له في سياق أي عملية تعليمية أخلاقية و تربوية حقة، وعدم التعامل مع الأطفال كما يحدث في جل النظم التعليمية بأنهم حيوانات برية ضالة لا بد من ترويضها، وتنميطها باستخدام أدوات الثواب والعقاب لتحقيق هدف محوري يتلخص في اجتياز الامتحانات بنجاح وتحقيق أعلى حاصل فيها حتى لو كان على حساب حق الطفل في النمو الطبيعي المتسق مع فزيولوجيا وآلية نضج الجهاز العصبي المركزي، واعتبار أي طفل ناشز عن تلك الجوقة طفلاً «مؤوفاً» بآفة نفسية ما لا بد من زرق دماغه بأكداس هائلة من الأدوية النفسية لإرغامه على الانسياق في سبيل القطيع المرسوم سلفاً. وهو واقع شاذ وخطير لا بد من تعريته في كل زمان ومكان والاجتهاد الدائب لتغييره وتصحيح مساره إن كان يراد للبشرية التقدم حضرياً وإنسانياً ومعرفياً دون حصر ذلك التقدم بمظاهر التمدن والتقدم التقاني.
ونفس ذلك السياق الأخير لا بد أن يقود إلى محورية إعادة الاعتبار لمفهوم التربية العاطفية والوجدانية في أي نهج تربوي يراد له النجاح في المساهمة بواجبه الجوهري في تأمين الفضاء الملائم لنضج الجهاز العقلي للطفل بشكل متكامل وشامل. وهي التربية العاطفية الوجدانية التي تستدعي اعتبار تنمية الذكاء العاطفي والوجداني عند الطفل بأهمية لا تقل عن تنمية القدرات الذكائية العلمية التقليدية المقاسة بالقدرات الحسابية واللغوية وغيرها. وإن المرتكزات الأساسية في أي تربية عاطفية ووجدانية ناجحة لا بد أن تنطلق من زرع مبادئ المحبة والتراحم والتعاضد وتلمس آلام ومعاناة الأقران والسعي والاجتهاد الدؤوب لتقديم يد العون لهم. وذلك النهج الأخير يمثل المدخل الذي ليس أكفأ منه في تخليق ذكاء عاطفي ووجداني سليم قادر على منح الطفل الأرضية العقلية التي تنسجم مع البنى الفطرية والغريزية في دارات الدماغ الإنساني، وتضعه على الطريق الصحيح للقيام بواجبه في قابل الأيام بالغاً لا بد له من حماية المجتمع الذي يعيش فيه، وإعادة إنتاجه، ورعاية شيوخه بما استبطنه نهجاً عاطفياً ووجدانياً.
وقد يكون أس كارثة الهشيم الاجتماعي والفردانية القاتلة التي تفصح عن وجهها القبيح بذلك السلوك اللامبالي الذي يشاهد في الكثير من الحواضر الغربية متمثلاً في احتمال أن يسقط إنسان على الرصيف متألماً دون أن يكترث به أي من المارة، باعتبار ذلك لا يعني أيا منهم من الناحية النفعية، وليس له أي صدىً في منظاره العاطفي والوجداني، إذ أن فاقد الشيء غير قادر على إعطائه، وهو النتيجة البائسة التي كان لا بد من حدوثها لنموذج التربية والتعليم ورعاية الأطفال على طريقة الرأسمالية الاحتكارية الوحشية المعولمة التي لا اعتبار فيها لكل ما لا يمكن بيعه وشراؤه في اقتصاد السوق وقياس قيمته المادية حالياً بشكل أو بآخر، وهو ما انعكس في حال من الخواء العاطفي ينطلق من المبدأ الفيزيولوجي الذي مفاده أن خلايا أي عضوية بيولوجية سوف تبدي تكيفاً مع أي مثير تتعرض له على أمد طويل يقتضي منها تحويراً بيولوجياً في طبيعة عمل مورثاتها بشكل يؤدي مثلاً في راحتي من يمشي حافياً لتسمك الجلد في أخمص قدميه، ويؤدي في الخلايا الدماغية إلى نموذج من التغير التكيفي الذي يختلف بين طفل وآخر ولكنه غالباً يقع في حيز العصابية والقلق المزمن كمحاولة من الجهاز العصبي للتحفز والقيام بكل ما قد يستطيع القيام به لاستشعار الخطر قبل حدوثه ومحاولة التملص من مفاعيله قبل تحققه فعلياً، وهو اجتهاد دماغي لا يفلح في غالب الأحيان كون مصادر الخطر المعقدة التي يحاول أن يتكيف معها تقع خارج قدرته على التنبؤ والتعامل والهروب منها في غالب الأحيان، و هو ما سوف يؤدي في نهاية المطاف إلى تشكل نموذج مهيمن في عمل دارات الدماغ يفصح عن نفسه بحالة من القلق المزمن والعصابية التي قد تصل في بعض الأحيان إلى مستوى مقعد للطفل خائفاً مرتعداً غير قادر على أي شكل من الحياة الطبيعية. وهو التكيف الدماغي الذي يأخذ شكلاً آخر في الكثير من الأحيان الأخرى، وخاصة عند الأطفال اليفع، يتمثل في استبطان الدماغ لآلية إهمال وتثبيط المؤثرات الحسية الخارجية كوسيلة وحيدة للتكيف مع الواقع المأزوم البائس الذي يكابده، وهو ما يعبر عن نفسه سلوكياً بحالة مزمنة من اللامبالاة والقسوة والفظاظة التي قد ترقى في كثير من الأحيان إلى ما يمكن تعريفه بالشخصية المعادية للمجتمع Antisocial Personality، وهي نموذج الشخصية الذي يتمثل في أولئك القادرين على إعادة إنتاج القهر والقمع والعسف الذي تعرضوا له سالفاً بدم بارد، بشكل يبدو فيه الاستبطان شبه الكلي لسلوك الجاني في عقل الضحية، وهو ما يتجلى في ذلك النموذج الوحشي الذي يعيد إنتاج نفسه اجتماعياً بأرتال لا تنتهي من عتاة الاحتراب الأهلي والتقتيل السرمدي الذي يبدو في وجدانهم وآلية عمل دماغهم التكيفية بأنه السلوك الاجتماعي الوحيد الصحيح، ودون التفات إلى أنه ناتج تكيفي لصيرورة الواقع المهول في بربريته الذي نشؤوا فيه، و كان ذلك النمط السلوكي الوحشي النكوصي نتيجته التكيفية الكارثية في مآلاتها على كل الأصعدة.
وذلك التوصيف العلمي الأخير لآلية تكيف أدمغة الأطفال المظلومين في مجتمعاتهم يكتسي بأهمية بالغة الرهافة خاصة حينما يتعلق ذلك بما يتوقعه أبناء جيلنا من أطفالهم في قابل الأيام حينما تحل عقابيل الشيخوخة بكل كاهلها الثقيل على أجسادنا، والتي قد لا يحق لأي من أبناء جيلنا حينئذٍ مطالبة أخلافهم لاحقاً بالقيام بواجبهم الفطري في الاعتناء بشيوخهم، ليس فقط لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولكن لأن ذلك النمط الاجتماعي الذي أسس له جيلنا في مجتمعاتنا القائم على حالة عدمية من الاقتتال الأهلي على نهج قابيل وهابيل، وداحس والغبراء، بالإضافة إلى استمراء وتواطؤ مريب في كثير من الأحيان لأنماط اجتماعية شوهاء تقوم على التكسب من نظام الطغيان والاستبداد والظلم والقهر للآخرين و التمسح بها، وهو ما ينتج حالة اجتماعية شوهاء من علاقة الأجيال فيما بينها يحكمها أن الساكتين عن الحق ليس لهم حق في مطالبة ضحاياهم من الأطفال بالرأفة والرحمة والترفق بهم في قابل الأيام بينما لم يكترثوا بالترفق بأولئك الأطفال حينما كانوا قادرين على ذلك وكانت الفرصة متاحة لهم حينئذٍ.
كتاب صيرورة التطور والنضج العقلي عند الأطفال مشروع علمي تم تجميع وإعداد وتحرير المادة العلمية الخاصة به باللغة الإنجليزية في محاولة لتشكيل منظار مبسط وشمولي عن المسار الذي يتبعه تطور الأطفال جسدياً ودماغياً، والذي ينتج في مآله الأخير الأرضية التي سوف يتم البناء على أوتادها لمرتكزات شخصية الإنسان البالغ من ذلك الطفل في قابل الأيام، مع تركيز مدقق على المرتكزات والمفاصل المحورية في تلك العملية التطورية التي لا بد من الالتفات إليها من قبل كل من قد يناط به المسؤولية التي لا تعلو مسؤولية عليها في حيوات بني البشر بيولوجياً وأخلاقياً، وأعني هنا إعادة إنتاج الجنس البشري والتأسيس لعدم انقراضه بيولوجياً واجتماعياً.
والشكر موصول لإدارة دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن التي قامت مشكورة بتحمل أعباء ونفقات ترجمته وتعريب النص الإنجليزي، وتقديمه للقارئ العربي الكريم بشكل مجاني كمساهمة متواضعة من كل المشتركين في مشروع «صيرورة التطور والنضج العقلي عند الأطفال»، علَّ ذلك يكون مساهمة بقسط صغير من واجبهم تجاه أطفال المجتمعات العربية الذين يستحقون التفاتاً أكثر إلى محورية وجوهرية رعايتهم جسدياً وعقلياً إذا كان يراد لتلك المجتمعات الديمومة وعدم الاندثار هي وأهلها أسلافاً وأخلافاً من قائمة المجتمعات الحية.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الانتخابات الرئاسية الأمريكية: نهاية سباق ضيق
.. احتجاجًا على -التطبيق التعسفي لقواعد اللباس-.. طالبة تتجرد م
.. هذا ما ستفعله إيران قبل تنصيب الرئيس الأميركي القادم | #التا
.. متظاهرون بباريس يحتجون على الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان
.. أبرز ما جاء في الصحف الدولية بشأن التصعيد الإسرائيلي في الشر