الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض نظرية المعرفة لدى أفلاطون

هيبت بافي حلبجة

2020 / 12 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بعدما إنتقدناه في ثلاثة قضايا ، في مفهوم الدالة الفارغة مابينه ومابين هوبز ، في إشكالية الوجود ، في معضلة المثل ، نحبذ أن ننتقده في أساس نظرية المعرفة لديه . ذلك الأساس الذي قد لايبدو هكذا سهلاٌ كما يتوهم البعض ، فأفلاطون يمزج ، من بعيد ، مابين الوجود والمعرفة ، مابين العقل والتصور ، مابين الشيء وحقيقته ، مابين الفعل والصيرورة ، مابين السيرورة والديالكتيك ، مابين الديالكتيك الصاعد والديالكتيك النازل . لذلك ينبغي أن نبحث ، بتمعن زائد ، في تلك الأسس التي أشكلت في ذهنية أفلاطون ، نفسه ، وجعلته ينظر إلى القضايا بتلك الطريقة التي إنتهجها . ولكي ندنوا أكثر من جوهر أفكاره من الضروري أن نعين محتوى أربعة مجموعات من الفلاسفة والمفكرين في خصوص الوجود والمعرفة معاٌ .
المجموعة الأولى : في موضوع العلاقة مابين الخالق والمخلوق ، في موضوع العلاقة مابين الخالق والوجود والمعرفة ، في موضوع إن وجودنا وبالتالي معرفتنا هووجود لم يكن أبداٌ إنما كان بفضل إله الكون الذي قال كن فيكون ، هو وجود وماخلقت الجن والأنس إلا ليعبدون ، هو وجود زائل بالضرورة وإلا لكان جزءاٌ من إله الكون ، وهذا مرفوض بالمطلق من الخالق . كما إنه وجود مصادراٌ ، لاقيمة فيه ، ولاقيمة له ، حتى إن خصائصه ، إن وجدت هذه الخصائص حسب هذا المفهوم ، هي ملكات من الخارج ، هي تابعة لإرادة مزاجية لاندرك منها شيئاٌ . كما إنه وجود قد يتحول ، في كل ثانية ، إلى العدم ، إلى لاشيء ، كما لم يكن شيئاٌ فيما قبل وجوده ، كما يمكن أن يخلق مرة ثانية ويفنى ، ومرة ثالثة ورابعة ومليون ، فلامعيار ولامنطق ولاشيء . فوجود مسلوب سلباٌ تاماٌ بهذا الشكل لايتضمن أي علاقة حقيقية مابينه ومابين المعرفة ، فإحساسنا وعقلنا ليستا ، في النهاية ، إلا أدوات لكي نتمكن من الإستمرار في العيش المفروض علينا . فالوجود الحقيقي هو الوجود الإلهي ، والمعرفة هي خاصية إلهية ، والعلم هو العلم اللدني الإلهي . وهكذا وجود وهكذا علم ومعرفة مرفوضان في تأصيلهما .
المجموعة الثانية : في موضوع إن الوجود هو تصور عقلي ، تصور ذهني ، هو ليس إلا لاوجوداٌ ، ليس إلا ظلالاٌ ، ليس إلا محاكاة ، ليس إلا هو ليس إلا . وإذا كان إله الكون هو الذي ، في الحالة الأولى ، قد صادر حقيقة الوجود والمعرفة بإرادته ، فإن الإنسان ، في هذه الحالة ، قد صادر حقيقتهما بوعيه . وهذا يشكل مصدراٌ لعدة إشكاليات ، الأولى إن الوعي البشري هو الوعي الوحيد في الكون ، وهو يلغي أي وعي آخر ، وينفي وجود أي كائن آخر . الثانية إن العلاقة الفعلية الأصيلة في الوجود هي مابين وعي الإنسان ومابين ماتبقى من الأشياء والموجودات . الثالثة إن الوعي البشري هو الذي يحدد العلاقة مابين الوجود والمعرفة . إن هذه الفرضيات هي كلها كاذبة ، لعدة أسباب نذكر منها السبب الآتي ، وهو إن الوجود البشري حديث الولادة في الطبيعة فهو لم يلد إلا أمس في حين إن الوجود قد سبقه ببليارات بليارات من السنين إن لم يكن أكثر بكثير بكثير ، أي إن الوجود الحقيقي الأصيل غير مرهون لا له ، ولا لوعيه ولا لإلهه المزعوم .
المجموعة الثالثة : في موضوع الإغتراب والإستلاب ، في موضوع دورة الكمال التاريخي ، في موضوع مراحل هذه الدورة . فالمرحلة الأولى حيث الجنة والفردوس ، المشاعية الأولى ، التاريخ النقي البسيط ، لا ألم ولا كبد ولا إستغلال ، مساواة أولية ، عدالة أولية ، لاقوانين لافيزياء لارياضيات لاكيمياء ، الفكرة المطلقة والوعي المطلق ، النفس في المثل . المرحلة الثانية ، حيث الجحيم والجهنم ، حيث مأساة أبليس ، الخطيئة الكبرى ، الألم والمعاناة والظلم والقهر والإستبداد والإستعباد ، ماتحت الشعور والآنا والهو ، ضياع الفكرة المطلقة ، تجسد النفس في الجسد ، الرذالة والشهوة ، وأصفاد المادة . المرحلة الثالثة عودة تلك الأشياء إلى أصولها ، عودة الفردوس والجنة ، الإرادة المطلقة في الإشتهاء ، المساواة الأبدية مابين الإنسان والإله ، خلود الإنسان ليصبح هو الإله الجديد ، وربما يتحول إله الكون ، عندها ، إلى صنم ، إلى جوبيتر ، إلى زهرة ، إلى اللات والعزة ، ويندثر الإبليس .
المجموعة الرابعة : بعكس الحالات الثلاثة السابقة والتي نرفضها جملة وتفصيلاٌ ، فإن هذه الحالة ، والتي نحن من أنصارها ، تخص موضوع إن هذا الوجود ، الذي هو كما هو ، إما إنه هو الوجود النهائي الكلي ، إما إنه جزء حقيقي وأصلي وأصيل من الوجود النهائي الكلي . وفي الحالتين يتمتع هذا الوجود بالآتي : أولاٌ إن هذا الوجود هو وجود واقعي ، يتطور ، يتفسخ ، يتفاعل ، يأخذ أشكالاٌ عديدة ومتعددة . ونذكر هنا إن ماسمي ، جهلاٌ وسخافة ، بالمسألة الأساسية في الفلسفة ، أيهما سبق الآخر ، الوعي أم المادة ، لاقيمة فعلية لها وهي مسألة مصطنعة مخترعة كأختراع الإنسان لإله الكون . فكلاهما ، أي المادة والوعي ، إن وجدا هما نفس الشيء في الكون ، أو كلاهما حالات متفارقة لموجودات الوجود . ثانياٌ إن هذا الوجود يمارس ذاته بذاته ولذاته ، فهو يمارس فيزياءه ورياضياته وكيمياءه ، ويخلق قوانينه المقرونة بوعيه وبمطلبات تطوره . ثالثاٌ إن هذا الوجود يتمتع بخواصه البنيوية لذاته وفي ذاته ، فلا أحد يفرض عليه شيئاٌ ، ولا أحد يصادر منه شيئاٌ . رابعاٌ إن هذا الوجود يتمتع بوعي خاص به ، ويتمتع بإرادة خاصة به ، وهو قادر أن ينتقل من حالة إلى حالة أرقى ، كما إنه ، وهذا هو الرائع في الوجود والكون ، إنه ينقل هذا الوعي وهذه الإرادة إلى كائناته ، بل وإلى أعضاء كائناته ، مثل عضو الجلد والكبد ، بل إلى كل خلية في الجسم الإنساني . خامساٌ إن هذا الوجود يتطور ويخلق قوانيناٌ تناسب وجوهر التطور في أي مرحلة كانت . ونستنتج من كل ماسبق إن : لاتوجد قوانين سرمدية أبدية منذ الأزل ، ولاتوجد إرادة غائية خارجه .
بعد هذه الإطروحات الأربعة ، نفقه مدى الإشكالية لدى أفلاطون في موضوع نظرية المعرفة :
المقدمة الأولى : ثمت فكرتان لم يستطع أفلاطون أن يتخلص من أبعادهما ، الفكرة الأولى هو موضوع النظام في الكون والوجود ، فرأى إنه منظم ومرتب بصورة دقيقة ، وكأنه أية من أيات الجمال نفسه ، ومن الإستحالة بمكان أن ينعقد هذا الرونق والجمال والنظام من خلال علل إتفاقية ، عرضية ، علل أتت ، هكذا ، لتتوافق معاٌ ، ولتتغايا معاٌ في سبيل خلق هذه الحالة الفريدة . وإذا إنتفت هذه الفرضية ، فلا مناص من علة عاقلة ، علة ناظمة ، علة حقيقية ، علة بالضرورة خارج هذا الوجود . الفكرة الثانية هو موضوع الخلق من العدم ، فرأى إن العدم لايمكن أن يكون قابلاٌ أن يصدر منه الوجود حتى لو كان ذلك نتيجة إرادة إله الكون نفسه ، لإن العدم ، حسبه ، ليس إلا ليس ، وماهو ليس لايمكن أن يدرك ( بضم الياء ) ، لايمكن أن يعرف ( بضم الياء ) ، لايمكن أن يولد شيء منه .
المقدمة الثانية : ثمت فكرتان أساء إفلاطون فهمهما ، الفكرة الآولى هو موضوع الجمال ، يرى إفلاطون إن جمال الشيء لايستقر في المعرفة البشرية ، ولا يتناسب مع إختلاف وتباين رغبات وميول ماهو هذا وماهو ذاك ، فهذه القضايا الأخيرة هي نسبية بالضرورة ، في حين إن الجمال ، كمفهوم ، هو من المعاني الكلية المجردة ، تلك المعاني التي ترسم ( بضم التاء ) دائرتها من خارج حدود منافذ الإنسان ، والإنسان لايكتشف القيمة الجمالية بمعاييره الخاصة ، إنما هو يطابق مابين جمال هذا الشيء ومابين مثله الحقيقي الفعلي الذي تعرفت عليه النفس سابقاٌ ، هذا المثال هو معياري نتعرف عليه من خلال تلك الأشياء التي تماثله . الفكرة الثانية هو موضوع التجربة البشرية ، والعلاقة مابينها ومابين مفهوم العلم ، يرى إفلاطون إن العلم هو مرهون بعالم المثل ، فكلما إقتربنا من عالم المثل ، كلما إقتربنا من موضوعات العلم ، وهذا الإقتراب مرهون ، ومرهون فقط ، بمدى تذكر النفس ، أي نفسنا ، للمثل . أي ، وبتعبير أدق ، كلما تذكرت نفسنا المثل من خلال الأشياء ومحتوياتها ، كلما إقتربنا من المصداقية الفعلية للعلم ، وهذا هو جوهر ما تسمى بالتجربة البشرية لديه .
المقدمة الثالثة : لو أحدجنا البصر في تلك الإطروحات الأربعة ، أي إن ثمت إله للكون ، عدم إمكانية الخلق من العدم ، إن المعاني الكلية المجردة هي موجودة في عالم المثل ، إن العلم هو مرهون بتلك المثل ، لبدت لنا إطروحتان ، لديه ، بمعالم واضحة ومدركة . الإطروحة الأولى إن النفس كانت ، في حالة ما ، في عالم المثل ، تعرفت على حقيقة الأشياء ، تعرفت على جوهر العلم ، تعرفت على أسرار إله الكون . ثم لسبب يجهله أفلاطون ، لسبب لاسبب له ، إغتربت وإستلبت وإنحطت من عالم المثل إلى عالم الظلال ، ونست كل ماتعرفت عليه هناك . وفي عالم الظلال والظل ، عالم الإنحطاط والإغتراب ، حينما وقعت بصرها على الأشياء إستردت وتذكرت حقيقتها في عالم المثل . الإطروحة الثانية إن المعرفة لايمكن أن تكون مرهونة بأعضاء الحواس ، فالمعرفة هي المعرفة العقلية ، أي المعرفة المرهونة بالعقل وحده . وهذا ماسبب له إشكالية أصيلة ، وهي هل بالعقل ، كأداة للمعرفة ، نبدأ ندرك الأشياء خطوة خطوة ، أم به نكتشف حقيقة المثل ، وما قيمته في موضوع تقر وتبت به النفس ، فالنفس ، حسبه ، هي التي كانت في عالم المثل . لذلك فإن المعرفة العقلية لديه هي معرفة تصورية .
المقدمة الرابعة : في موضوع عالم المثل ، حيث هي معاني كلية مجردة تتمتع بالخواص التالية : الخاصية الأولى هي مثل خارج دائرة الزمان والمكان ، أي لايحدها حد ولايقيدها زمن ولايشرطها شرط . الخاصية الثانية هي مثل لامادية ، أي جواهر تصورية غنية عن شرط وجودها . الخاصية الثالثة هي تمتلك عناصر وجودها بصورة ذاتية ومنفصلة ، وتمنح الأشياء شرط وجودها ، أي إنها مستقلة ، في وجودها ، عن كل الأشياء ، كما إنها علة وجود تلك الأشياء . الخاصية الرابعة هي مثل ثابتة تامة مطلقة أبدية ، لاسيرورة لها ولاصيرورة فيها .
المقدمة الخامسة : في موضوع وجود الأشياء ، حيث إنها تأتلف من مبدأ المادة ومن مبدأ الصورة . والمادة هي لاشكل لها ولاقوام ولاصورة ، وهي في الحقيقة لاتتمتع بأي صفة ، وهي ليست إلا مصطلحاٌ يفرض ضرورته على فكر إفلاطون ، لكي يمكن للشيء أن يتحول إلى ذاته من خلال إنطباع الصورة فيها . وأما الصورة فهي ، ومن خلال عالم المثل ، تضفي على الشيء حقيقته الفعلية وشكله النهائي من خلال المادة ، والشيء هو لاشيء ولايتحول إلى نفسه إلا إذا إقترنت صورته بمادته . فهو في الغياب ، ولايمكن أن يكتسي حقيقته الإنطولوجية إلا إذا إنطبعت صورته على مادته ، وهكذا لكل شيء صورته الخاصة ومادته الموازية .
نكتفي يهذا ، ونعترض على ذلك من خلال التالي :
أولاٌ : في موضوع النفس البشرية ، إذا كانت النفس موجودة في عالم المثل ، وتعرفت على كل شيء ، ومن ثم إنحدرت إلى العالم السفلي ، فإن هذا يخلق عدة إشكاليات قاتلة : الإشكالية الآولى كيف يمكن ، وحسب أفلاطون ، لوجود حقيقي أصيل ، وهو النفس ، إن يهجر عالماٌ حقيقياٌ أصيلاٌ ، وهو عالم المثل ، إلى عالم لاوجود له أصلاٌ ، وهو عالمنا ، أي إلى عالم الوهم ، عالم الظل والظلال ، نظرية الكهف . الإشكالية الثانية رغم الإشكالية الأولى إذا كان الوجود الحقيقي والفعلي هو وجود عالم المثل حيث الآلهة والنفس البشرية وكافة المعاني الكلية المجردة فكيف يمكن أن يوجد عالمنا ، وهو من حيث الأساس ، لاوجود لا وجود له ، أن توجد أرض من المفروض ألا تكون موجودة تأصيلاٌ ، أن يوجد لاوجود حتى لو كان وهماٌ وظلاٌ . الإشكالية الثالثة رغم الإشكاليتين السابقتين لايوجد سبب ، حتى لو كان سخيفاٌ وتافهاٌ ، أن تنحدر النفس من عالم المثل إلى عالم الأرض ، ان تغترب من عالم الوجود إلى عالم الوهم ، من الوجود إلى اللاوجود . الإشكالية الرابعة رغم الإشكاليات السابقة كيف يمكن لوجود أن ينحل في اللاوجود رغم التناقض في طبيعتهما ، فالنفس تتمتع بوجود فعلي حقيقي في عالم المثل فكيف أصبحت طبيعتها على الأرض ، هل حافظت عليها ، أي تعايش وتحايث وتماهى الوجود مع الوهم ، وهذا محال وتناقض ، هل فقدتها ، أي أصبحت النفس بذاتها وهماٌ ، حينها ينتهي إفلاطون وينتهي العالم والكون والوجود ، وننتهي إلى عالم الوهم . الإشكالية الخامسة رغم الإشكاليات السابقة كيف تحقق إفلاطون ، وهو وهم ، حسبه هو ، من وجود وجود حقيقي فعلي ، وهو عالم المثل .
ثانياٌ : إذا كانت النفس البشرية قد تعرفت على حقيقة الأشياء وعلى حقيقة العلم في عالم المثل ، ثم لما إتحدت مع الجسد نسيت ذلك العلم وتلك الأشياء ، ومن ثم أستردت حقيقتها وحقيقته كلما شاهدت ماهو شبيه تلك الأشياء أو كلما سنحت الفرصة ، فإن واقع التجربة البشرية وتطورها تناقضان هذه الرؤيا . أي إذا صدقت تلك الفرضية فمن الضروري ألا تكذب النفس علينا وأن تصدق فيما تنقله لنا ، لكن نجد إن التطور العلمي قد حدث بعد أحداث دموية وإعدامات شملت الفلاسفة والمفكرين ، ويكفي أن نذكر إن النفس لم تخبرنا هل الأرض هي مركز الكون ، أم هي الشمس ، أم لايوجد مركز على الإطلاق . ثم ماهي حقيقة الآلهة ، أليس من المفروض أن تخبرنا النفس بوجوده أو عدمه دون أن نحتاج إلى فرضيات وبراهين مثلما فعل إفلاطون بنفسه في برهان النظام . ثم هل تستطيع النفس أن تخبرنا ، الآن ، ماهي حقيقة كوننا هذا ، أم إنها قد أخبرت إفلاطون إن عالمنا وهم ، ولماذا أخبرته ذلك ولم تخبر ماركس به .
ثالثاٌ : إذا كانت النفس قد إتحدت مع الجسد ، فكيف حدث ذلك ، كيف يتحد الوجود مع الوهم ، ولماذا يكون الجسد موجوداٌ أصلاٌ وأساساٌ ليقبل بها ويحضنها ، وهل إحتاجت النفس إلى الجسد ، وهل إحتاجت إليه ليكون محل إغترابها ومسخها وتشويهها . وبعد أن يفنى الجسد هل تعود النفس إلى عالم المثل ، إلى عالم العلم اللدني والمعرفة المطلقة والوجود الأبدي .
رابعاٌ : إذا كان إفلاطون يرفض مبدأ الخلق من العدم ، فإن وجود عالم المثل لايقبل فرضية سوى هذه : إنه جزء من الآلهة ، وإلا ، إذا لم يكن ، كان إلهاٌ مستقلاٌ بحد ذاته ، لإنه أبدي مطلق غير مخلوق ، ووجوده غير مشروط بشرط ولامحدد بمكان ولامحدود بزمان ، ولايرتهن في وجوده على أي وجود آخر ، بل ترتهن الأشياء ، حسب إفلاطون نفسه ، في وجودها على وجوده .
خامساٌ : إذا كان إفلاطون يقيم برهاناٌ على وجود الآلهة والإله من خلال برهان النظام ، ويؤكد إن النظام موجود في الكون بتمام محتواه ، وإن العلل الإتفاقية لايمكن أن تبدع في ذلك ، أي إن الإله هو من وضع النظام في الكون ، فكيف يمكن أن ندرك إن الآلهة قد وضعت النظام في الوهم ، في الظلال . وقد يعتقد البعض إن النظام المقصود ليس موجوداٌ في الظلال نفسها ، إنما هو كائن في من يولد هذه الظلال ، فينتقل النظام إليها . هذه الفرضية ، وإن بدت منسجمة مع إطروحات إفلاطون في نظرية الكهف ، هي مرفوضة ، فمن ناحية كان إفلاطون سيتقرأ النظام في عالمنا تحديداٌ ، ومن ناحية ثانية كيف تسنى لإفلاطون أن يدرك النظام في عالم هو ، في حده وأسه ، تصوري بحت .
سادساٌ : تتمة لثالثاٌ إذا كانت النفس قد إتحدت مع الجسد ، فلماذا أصابها النسيان ، لماذا نسيت علمها وحقيقة الأشياء ، ألم يكن من الأرجح أن يسيطر الوجود الفعلي على الواقع الوهمي ، أي أن تتحكم النفس في الجسد دون أن يعتورها أي خلل من أي نوع كان ، لا أن يصادر الوهمي حقيقة الفعلي ، لا أن يصادر الجسد حقيقة النفس . ثم والأصعب من هذا وذاك ، كيف أدرك أفلاطون إن النفس قد نسيت علمها وحقيقة الأشياء ، وكيف أدرك إن النفس تسترد عافيتها كلما شاهدت ما يذكرها بالأصل .
سابعاٌ : لو تمعنا في المنظومة الفكرية لأفلاطون ملياٌ ، لأدركنا إن هناك آلهة ، ومعاني كلية مجردة ، والنفس البشرية ، هذا في الإطار العام لكن في الإطار الخاص ، يوجد كوننا كله هناك ، فنموذج الشجرة موجود ، ونموذج الخروف ، ونموذج الموز ، ونموذج الرياح والرعد والبرق ، ونموذج كل شيء ، ولايمكن أن يغيب نموذج أي شيء وإلا لكانت إطروحة إفلاطون بخصوص المعاني الكلية المجردة ناقصة ومعيبة . وإذا كان كل مايدور بخلدنا موجود هناك ، فلماذا ، وماهي العلة ، أن تنتقل تلك الأشياء قاطبة إلى عالم النسيان ، إلى عالم الوهم ، إلى عالمنا . وهل إغتربت تلك الأشياء كما إغتربت النفس البشرية ، هل إغتربت الشجرة ، والجبال والوديان ، والفيزياء والكيمياء ، والبقرة والشاة ، والسحاب والغيوم .
ثامناٌ : إذا كانت النفس البشرية قد إغتربت وأتحدت مع الجسد ، فلابد إن الواقعة قد حدثت وإنتهى أمرها ، فهل إتحدت النفس مع أي جسد ، هل هو الجسد العام ، أم هو الجسد المباشر الشخصي ، في الحالة الثانية يرفض إفلاطون ذلك بنفسه ومن خلال موضوعات إطروحاته ، أذن هو إتحاد النفس مع الجسد العام ، كيف ذلك ، إما أن يتحقق ذلك إما ألا يتحقق ، فإذا لم يتحقق تعطبت الفرضية من جذورها ، وإذا تحقق ذلك غدا الجسد المباشر والشخصي حقيقة وجودية ، أي أصبح وجود جسدنا كوجود آلهة الكون ، كوجود المعاني الكلية المجردة ، وهذا ما لا يقبل إفلاطون به .
تاسعاٌ : تتمة لسابعاٌ لو تمعنا في المنظومة الفكرية لأفلاطون ملياٌ ، لأدركنا إن هناك آلهة ، ومعاني كلية مجردة ، والنفس البشرية ، والمادة ، والصورة ، وهنا نحن إزاء فرضين لاثالث لهما ، إما أن تكون المادة والصورة مثل الآلهة أنطولوجياٌ ، أي تتمتعان بوجود حقيقي تام ، وإما إن تكونان مجرد حالة خواء تام وعماء مطلق ، في الفرض الأول دعونا نركز على المادة ، وسوف تنطبق النتائح على الصورة أيضاٌ ، ونحن هنا إزاء حالتين ، إما أن تكون طبيعة المادة واحدة لكل الأشياء ، وإما أن تكون متنوعة بتعدد الأشياء ، وفي الحقيقة إن طبيعة المادة ، حسب إطروحات إفلاطون نفسه ، هي ذات طبيعة واحدة في تصوره ، وهي ، في عين الذات ، متعددة حسب الأشياء ، أي إنها ، في الأصل وكذلك الصورة ، خواء تام وعماء مطلق . إذن لننتقل إلى الفرض الثاني ، أي ان تكون المادة خواء تام وعماء مطلق ، عندها تتحول المادة إلى مجرد أداة ، وفقط أداة ، لكن أداة تصورية صرفة .
عاشراٌ : هي كملاحظة ، في الفعل إن إفلاطون يعتبر من أقوى الفلاسفة ، على الإطلاق ، في إدراك أنطولوجية الكون ، ولقد تأكد إن جميع الإحتمالات والفرضيات تؤدي إلى نتائج كارثية ، لذلك إعتقد إن من الضروري أن يكون الكون خاضعاٌ لهكذا إطروحات . وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة بعد المائة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فراس ورند.. اختبار المعلومات عن علاقتهما، فمن يكسب؟ ????


.. 22 شهيدا في قصف حي سكني بمخيط مستشفى كمال عدوان بمخيم جباليا




.. كلية الآداب بجامعة كولومبيا تصوت على سحب الثقة من نعمت شفيق


.. قميص زوكربيرغ يدعو لتدمير قرطاج ويغضب التونسيين




.. -حنعمرها ولو بعد سنين-.. رسالة صمود من شاب فلسطيني بين ركام