الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الارسوزي وفلسفة العبقرية القومية (5)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 12 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لقد اغرم الارسوزي حد الجنون بفكرة بعث الأمة العربية، بحيث أنتج لنا لاحقا جنون البعث. والجنون كما يقال فنون. وأحد فنونه الكبرى التي تماهت مع شخصية وإبداع وحقيقة الارسوزي تقوم في ربط فكرة البعث القومي العربي برسالته الخالدة. والمقصود بفكرة البعث (القومي) عند الارسوزي هو "العودة إلى ينبوع حياتنا القومية، إلى عبقرية أمتنا التي أبدعت لغتنا، عرقنا، تقاليدنا، عاداتنا، فنوننا" . فمن الناحية المجردة هي وثيقة الارتباط بالحضارة الحديثة وبمفهوم القومية، بوصفه "أسمى مظهر لعبقرية الأمة". فإذا كان انبعاث أوربا مرتبطا بالرجوع إلى ما قبل النصرانية، وأن لهذا الرجوع أسسه الخاصة، فإن خصوصية البعث العربي يمكنها أن تنطلق من دراسة الروح الأدبي في التجارب القومية الأوربية، بوصفه أسلوبا لبعث التراث الأصيل. إلا أن للاثنين مقدمات وغايات مختلفة. ففيما يتعلق بالتجربة الأوربية، فإن اعتناق النصرانية سواء في صيغتها الكاثوليكية أو الأرثوذوكسية، قد أدى، على سبيل المثال إلى أن تكون أعمال بني إسرائيل مصدر وحي الأدباء والفنانين. لكن الأمر اختلف اختلافا جوهريا حالما اخذ الشعور القومي يدب في أرجاء أوربا (بأثر الثورة الفرنسية). حينذاك هبت الجماعات تطالب بالاستقلال والحرية. فنرى فيخته يكتب رسائله عن عظمة لغة الأجداد وتراثهم . والشيء نفسه نعثر عليه أيضا في الدولة العثمانية. وبالمقابل نرى الملوك الأوربيون يستندون إلى الكنسية من اجل الحفاظ على العبودية، بينما تستند العثمانية برجال الدين من اجل إخضاع العرب. الأمر الذي يضع قضية البعث القومي العربي بوصفه الإشكالية الكبرى أمام امتحان من نوع آخر، أي امتحان الرجوع إلى النفس بطريقة تستمد مقومتها من أصوله وجذوره.
فعلاقة العربي بالإسلام هو استمرار لعلاقة العربي بتراثه الجاهلي. حيث استبدلت المروءة بالتقوى . من هنا فإن الحل يقوم في الرجوع إلى اللغة العربية من أجل تذليل هذا الخلل وإعادة تركيبة بطريقة تزيل هذا الخلل . من هنا فكرته عن عدم الفصل بين الجاهلية والإسلام. فمحمد عربي. وأن كل سبل ووسائل الانتصارات الإسلامية هي عربية الأصل والمنشأ. ومن ثم فإن السؤال حول ما إذا كانت هذه الانتصارات بفعل التقوى الإسلامية أم المروءة العربية هو مجرد سوء فهم، لأنهما من أصل واحد .
من هنا فإن خصوصية العالم العربي مقارنة بأوربا بهذا الصدد تقوم في أننا متميزون، وأن لغتنا هي الأصل، وأن تراثنا هو تراثنا أساسا، كما انه لغتنا أيضا، وهي مصدر كل نماذج ومضمون العلوم والمعارف (الإسلامية). بعبارة أخرى، إن الأنا واللغة والتراث (بما في ذلك الإسلامي) هو كل واحد بالنسبة للعرب. من هنا فإن مطلوب البعث (القومي) عندنا يقوم في الرجوع إلى الينبوع، أي إلى الحدس المتضمن في الكلمات (مثل العدالة والنظام والشعر والجمال..) . ووراء هذا الحدس يكمن المضمون الفعلي لإرادة البعث القومي، بوصفها "حركة تكشف عن الحياة كمعنى يبدع تجلياته ويوجهها وفق مشيئته" . وكما يظهر هذا النوع من "حركة البعث" في الأنواع الحيوانية كوثبة، فإنه يتجلى في الإنسان كعبقرية ذات قابليات مختلفة للمدنية. ومرتبة هذه العبقرية تقاس بإخضاع الظروف لمشيئتها وطبع الأشياء بطابعها" . الأمر الذي جعل من فكرة البعث القومي العربي "بعث الحياة المتبلورة بتجلياتها رموزا". وفيما لو وضعنا هذه العبارة ضمن السياق العملي، فإنها تعني حسب فكرة الارسوزي بضرورة العودة إلى تراث الجاهلية، بوصفه عهد المظاهر القومية العربية (الخالصة). أما بالمعنى المعاصر، فإنه يعني بلوغ مستوى الوعي الذي كان عليه أجدادنا . وهي فكرة عملية تستمد أصولها من الفكرة الفلسفية العامة لحقيقة البعث القومي التي قال بها الارسوزي ألا وهي الإنساني والطبيعي بوصفها ينبوع اليقظة. فبعد الاستيقاظ من السبات على ضوء الحضارة الحديثة وانقشاع الأوهام التي هي نتيجة التباس الوجدان بالطبيعة، فإن المهمة المطروحة أمامنا، كما يقول الارسوزي، تقوم في "استكمال شروط هذه اليقظة بالعودة إلى الحياة في ينبوعها: الإنسانية والطبيعة" . والطريق إلى ذلك توحيد العلاقة العملية بين العلم والرجوع إلى الأصول، أو بلوغ "الطبيعة بالعلم، والارتقاء إلى الإنسانية بفقه تراثنا"، كما يقول الارسوزي . ووضع هذه الحصيلة في فكرته الجوهرية عما اسماه بالفعالية نحو الصميم، بوصفها فكرة البعث. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "البعث الذي ندعو إليه ليس تقاليد تتناول سطح الحياة وحسب، كما هي الحال في الأمم التي انطلقت قواها بتأثير التقدم في العلم والصناعة، بل أنه سيكون بعث فعالية تتجه نحو الصميم. بحيث يتكشف معنى المرحلة التاريخية معرفة ورسالة، انكشاف إلهام الأنشودة في الوجدان شعورا وحركة" .
لقد حاول الارسوزي أن يجعل من فعالية الإنتاج صوب الباطن، أو الصميم، أو الأصول، أو التراث أو حقيقة اللغة الوجهة الضرورية التي يجري تجسيدها بما يتطابق وإدراك المرحلة التاريخية، بحيث يتحول هذا الإدراك إلى توحيد شامل للوجدان والحركة. وفي الحالة المعنية يعني توجيه الفعالية الباطنية صوب وحدة الفكرة الثقافية والفكرة السياسية بوصفها المكونات الجوهرية لفكرة البعث القومي في المرحلة التاريخية المعاصرة. من هنا قوله، بأن للبعث القومي من حيث كونه حركة سياسية مهمتان: الأولى وهي مهمة ثقافية ترمي للكشف عن عبقرية الأمة العربية، والكشف عن مقومات الحضارة الحية، وإيجاد الانسجام بين العبقرية العربية ومقتضيات الحضارة، أما الثانية فهي مهمة سياسية وتقوم في إقامة صرح دولة عربية تجمع العرب جميعا . وبالتالي، فإن الوحدة هي رسالة البعثيين، كما أنهم يرمون إلى تكوين جيش عقائدي . أما الشعار الأكبر للبعث فيقوم في توحيد فكرة الوحدة والحرية والاشتراكية . ويعكس هذا الشعار الصيغة العملية التاريخية الملموسة لمفهوم البعث القومي والرسالة القومية (العربية).
غير أن مضمون الرسالة العربية التي يتكلم عنها الارسوزي هي رسالة إنسانية. وبالتالي، فإنها توّحد في ذاتها الطبيعي والإنساني، وذلك لأنها قومية حقيقية. ووضع ذلك في فكرته القائلة، بأنه حالما يجري استكمال شروط الإنسانية والطبيعية في الكيان العربي، أي الرجوع إلى التراث وفقهه والعمل به بما يستجيب للطبيعي (المعلوم علميا)، حينذاك نتمكن من "خلق ثقافة إنسانية رفعتها على مقياس فسحة قاعدة حياتنا في الطبيعة. وعندئذ نتمكن من ردع الثقافة الحديثة عن شططها في فهم الإنسان كما رَدَعَنا العلم الحديث عن شططنا في فهم الطبيعة" . لاسيما وأنها مهمة ترتبط بموقع العرب "في أسرة الإنسانية" التي يرفعها الارسوزي إلى مصاف موقع "الابن البكر في العائلة المالكة". فهي "أمة وسط بمعنى الاعتدال، أو القرب من الينبوع، ومن الكمال الذي هو المثل الأعلى المتجلي في الرسالة حينا بعد حين". الأمر الذي "جعل الرسالة والولاية متلازمين في تاريخ الأمة العربية". وذلك لأن الأمة العربية (ولغتها) "شجرة سحرية جذورها في الملأ الأعلى وتجلياتها في الطبيعة" .
إن إدراك هذه الحالة الصميمية وتحويلها صوب الفعل على مستوى الوجدان والحركة يعني تمثل حقيقة المرحلة التاريخية ورسالة العرب فيها لأنفسهم وللآخرين. ومن هذه المقدمة اعتقد الارسوزي بأن ما اسماه بمرحلة البعث اليوناني هي المرحلة الحالية للرسالة العربية الحديثة. وسوف تستكمل هذه المرحلة شروطها عندما تستيقظ الأمة العربية بوصفها ينبوع الشعوب السامية، والتي يتمثل فيها القطب الآخر لهذا التراث. فترتقي الإنسانية حينئذ نحو الملأ الأعلى، ارتقاءً متناسبا مع فسحة أفق الحياة المستحدثة" . كما أنها سوف تصنع على مثالها مثال القوة الإنسانية القائدة بوصفها قوة رحمانية. وانطلق الارسوزي بهذا الصدد من مقدمة سليمة لكنها عامة، يقول فيها، بأن القيمة الاجتماعية منظومة. وفي حالة عدم توافق بنيتها مع معناها فإنها تؤدي إلى شل حركة المجتمع، ومن ثم جفافه كما هو حال العرب الآن. من هنا استنتاجه:"ليس على أبناء هذه الأجيال التعيسة المتحجرة إلا أن يتركوا الأموات وشأنها، فَيَصْبوا بأنفسهم إلى السماء حيث تفيض الحياة فتجرف بفيضها ما تراكم عليهم من قيم بالية. وينبثق النبي من صميم الأمة حاملا إلى المجتمع رسالته. الرسالة التي يتجلى بها للناس معنى هذه المرحلة التاريخية. ويبدو حينئذ نظام القيم الإنسانية متجسما في ذاته" .
ذلك يعني، أن فكرة الرسالة والمرحلة التاريخية التي تشكل خاتمة الحركة والفعالية نحو الصميم، ليست إلا المظهر الواقعي للفكرة الميتافيزيقية عن الخلود التي تمّثلتها الأمة العربية منذ أوائل نشوئها وجسّدتها بصورة نموذجية في لغتها. بعبارة أخرى، إن فكرة الرسالة العربية عند الارسوزي مرتبطة بفكرة الخلود، أو تمثل الأمة العربية لروح الفكرة السامية (المتسامية) عبر دعوتها للاعتدال. ووضع هذه الفكرة ضمن سياق لا يخلو من تأويل لغوي سياسي ثقافي يستقيم مع مضمون المنهج الفلسفي الذي اتخذه في الموقف من تأسيس فكرة البعث القومي والرسالة الذاتية. فنراه ينطلق من اختلاف بل وتضاد السامي - الآري. مع إنهما ينتميان للجنس الأبيض(!). إنهما يمثلان قطبي الثقافة الإنسانية الطبيعية والملأ الأعلى . فالساميون من سما، يسمو، أسمى، اسم. أنهم أولاد السماء وتصبوا إليها نفوسهم. كما انبثقوا عنها، وإليها ينتهون كغاية لهم. أما صورتهم المحققة بها، أي الملأ الأعلى، فإنها الخلود. بينما الآريون هم أبناء الأرض حسب الأسطورة اليونانية. وبغض النظر عن تباين أسس هذه المقارنة من حيث المنهج، إلا أنها تنتمي إلى منهج أعم وهو التأول الشامل.
لقد أراد الارسوزي القول، بأن الآريون ينتمون إلى تصوراتهم عن أنفسهم كما ننتمي إلى تصوراتنا عن أنفسنا. ولكل واحد مقدماته وأساليبه وقواعده ومبادئه وغاياته. فإذا كانت غاية العرب الساميين تقوم في السمو نحو الملأ الأعلى بما يتطابق مع حقيقة بواطنهم المعكوسة في اللغة، فإن الآريون استغرقوا في تجليات الوجود واكتشفوا النظام الذي ينطوي عليه هذا التجلي. النظام الذي يبدو في النفس عقلا، وفي المجتمع شريعة، وفي الطبيعة قانونا. من هنا اختلافهما وتباينهما. فالعبقرية الآرية تنشد العلم والكشف عن النظام، بينما العبقرية السامية تنشد النبوة والأخلاق، التي وجدت تعبيرها الأمثل في شخصية المسيح ومحمد بوصفه خاتم الرحمة.
حددت هذه الرؤية مواقف الارسوزي تجاه قضية البديل الاجتماعي السياسي القومي. ففي موقفه من الدولة، نراه ينظر إليها على أنها "نزعة الحق إلى إحقاق ذاته عند الناس. وليست قدسية السلطة إلا هالة الحق المستفاضة على رجل الدولة استفاضة قدسية الواجب على صاحب المروءة" . بينما تتحول السلطة عنده إلى مزيج من قدسية الحق ومن الكفاءة للقيادة . أما النظام السياسي المترتب على ذلك فليس إلا النتاج الذي يلازم ما اسماه الارسوزي ببلوغ المجتمع درجة الحرية التي على أثرها يستطيع إعادة النظر ببناء ذاته من جديد. وعندها فقط يمكنه وضع نظامه السياسي الخاص، أي بلوغ ما اسماه الارسوزي بإضافة "سلطان الحق إلى سلطان العهد" . وليس هذا بدوره سوى قيام الدولة في أعلى مراتبها على إقرار الإرادة .
وعندما طبق هذه الفكرة الخطابية المجردة، التي تتوافق مع تطويع الرؤية المنهجية لفلسفته القومية تجاه العالم العربي، فإنه توصل إلى أن العرب كانوا سادة العالم. وبالعربي كانت تقترن فكرة الرجولة والبطولة والجمال. ومن ثم فالعرب أمة وسط، أي أقرب إلى الكمال. فأرضهم وسط أيضا. وبالتالي، فإن مهمة الدولة العربية تقوم في ترسيخ الحرية من أجل أن يفيض أفراده بتجاوبهم الرحماني. مع ما يترتب عليه من تعظيم شئون المجتمع بالطريقة التي تجعله منسجما وتراتبيا حسب الكفاءة. عندها يستكمل المجتمع شروط مهامه بالدولة . أما مرتكزات الدولة فهي كل من الحق والعدالة. فالحق والحقيقة في الذهنية العربية من جذر واحد. والحق في الحدس العربي ذو منزلة مثلى . أما العدالة، فإنها مصدر ومحدد كل القيم الكبرى. إذ ليس البطل إلا ذاك الذي تجسدت فيه العدالة. كما أن العدالة هي النظام الأصيل المنطوية عليه حياة الجماعة . ومن هذا "المنطق" توصل إلى أن "الدولة هي شخص الأمة في طور التحقق وظل حقيقتها المثلى" .
أما موقفه من المجتمع فإنه مبني على مدخله العام القائل، بأن لكل مجتمع فلسفته الخاصة في القيم. وأن نظام القيم يخضع تكوينه لفلسفة الجماعة من جهة، ولقاعدة استقرار الجماعة في الطبيعة من جهة أخرى. أما الشريعة فهي بناء مماثل في محاولته التوفيق بين الوسائل والغاية مثل "فن العمارة في توفيقه بين مواد البناء وبين إلهام المعمار" .
والشيء نفسه يمكننا العثور عليه في موقفه من الديمقراطية. فالديمقراطية المعاصرة، بالنسبة للارسوزي، تقوم على مبدأ إيجاد الانسجام بين مستلزمات القومية وحقوق الإنسان . وبالتالي، فإنها "استطاعت أن تجمع بين الإلزام والحرية، بين عبقرية الأمة وبين مواهب الأفراد" . واعتبرها ضرورية من أجل بناء الدولة الحديثة، والأهم من ذلك الأسلوب والوسيلة الوحيدة الكفيلة بالحيلولة دون استبداد الحكام. وأدرج ضمن هذا الأسلوب جملة من القواعد والمهمات الكبرى حصرها بسبع وهي كل من حرية الصحافة، وحكم القانون، ووضع الميزانية تحت إشراف الجمعية العامة، ومساهمة المواطن في سلطات الدولة، والمساهمة في السلطة التشريعية، وربط السلطة التنفيذية بالجمهور، وأخيرا معارضة الحزب الواحد .
وأسس لفكرة ضرورة الديمقراطية من كونها ترتبط من حيث الجوهر بما اسماه بالطبع الإنساني. فالطغيان والاستبداد يفككان الوحدة بين المجتمع، ويجعلان الرعايا هباءً منثوراً لا حول لهم ولا قوة. كما إنهما ينتزعان من المرء ثقته بنفسه وبالآخرين. ويجعلان القانون سخرية. ويقيمان الإرهاب مقام الطمأنينة، والشقاق مقام المحبة. الأمر الذي يجعل الطاغية اشد خصومة للأحرار الأباة من أي خصم آخر . بينما الديمقراطية المعاصرة هي "فلسفة ترتبط بالطبع الإنساني". وبالتالي، أنها "الوجهة الإنسانية للحضارة المعاصرة التي قامت على انقلاب في مفهوم الإنسان للإنسان" . أنها مبنية على العلم والصناعة. وللديمقراطية مقومات في الطبع البشري، في الصورة والمعنى، أي "المعنى المنبثق من النفس، ينزع إلى استكمال شروط حقيقته بصورة معينة" . أما هدف الديمقراطية فهو إيجاد الجو الصالح لانطلاق المواهب. وفي الديمقراطية وحدها يصبح المواطن فنانا ينشئ نفسه وكيان الدولة وفق وجهة نظره في الوجود . ذلك يعني، أن حقيقة الحكم الديمقراطي تكون بالفعل حالما تخضع فيه السلطة التنفيذية للسلطة التشريعية. وكماله على قدر ما تصدق السلطة التشريعية بالتعبير عن إرادة الأمة . ووضع كل حصيلة تصوراته بهذا الصدد في استنتاج نهائي يقول، بأن الديمقراطية هي التي "تجعل من تضحيات المواطنين أعمالا حرة مكللة بهالة البطولة" .
إن مفارقة الإبداع الكبير والعميق والفلسفي الأول للارسوزي في مجال تأسيس الفكرة القومية (العربية) تقوم في ما وجده هو نفسه عندما أشار إلى ما قاله أحد الإغريق القدماء، من أن اخطر الأشياء على الفكر حالما يأخذ أهل اللغة بالتفلسف(!). وإذا كان الارسوزي قد قلب الآية، بمعنى انتقال أهل الفلسفة إلى الولع بالكلمة والعبارة، فإن المعنى يظل واحدا. وهو إننا نقف أمام فيلسوف يلغو أو لغوي يتفلسف! وهي الدوامة التي طبعت نمط وأسلوب وقواعد تفكير وتفسير وتأويل الارسوزي وتأسيسه للفكرة القومية. وليست فكرة العبقرية العربية في لسانها سوى هوس الارسوزي وإعجابه غير المحدود بما اكتشفه يوما بصورة مفاجئة. بحيث أدى ولعه التأويلي إلى إلغاء المعنى المنطقي في اللغة نفسها. مما جعل منها في حالات عديدة لغوا، مع أنه وجد في العربية لسانا وفي غيرها لغوا. وهو تلاعب فظ باللغة واللسان والأنا والآخر. الأمر الذي أدى إلى أن تكون لغته حتى في أجمل أشكالها رونقا ودقة من حيث النحت والتأويل اقلّ قدرة على صنع اليقين والفكر المنسجم والمنطق الدقيق بما في ذلك بالمعنى المنظومي للكلمة. وليس مصادفة أن يؤدي ذلك إلى إمكانية دغدغة الفكر بالوصول إلى استنتاج يقول، بأن محاولة الارسوزي بناء منظومة فكرية (فلسفية) تنطلق من قاموس اللغة، أدت إلى إنتاج لغة بلا قاموس، يتحكم فيها مزاجه العارم في حب العربية. وأدى هذا بدوره إلى أن يكون فكره وتقييمه في اغلب مظاهره تنقلا دائما لا يربطه غير جنون التأويل والتلذذ بالبقاء أسيرا "لعبقرية اللغة" القومية (العربية).
وفي هذا يكمن أحد جوانب ضعف فلسفته النظرية والعملية. بمعنى أن استعباده للغة قد أدى إلى عبوديته لها. وأن رغبته باستعباد اللغة قد أدى إلى استعباده، بحيث يبدو أحيانا كالمراهق الذي اكتشف شيئا عاديا أو جانبا لامس خياله، بحيث جعل من نفسه فريسة لأمر طارئ، مستغرقا في خيال هو بحد ذاته لحظة عابرة. ويتضح ذلك في ولعه بالكلمات بحيث جعل العالم وما فيه أسيرا لمخارج حروفها. وبالحصيلة قد أدى إلى يكون الارسوزي مسكونا بجنون اللغة وبعثها الجديد فاخرج إلينا بعثا مجنونا! وهنا كان يكمن أيضا التناقض الجوهري في فلسفة الارسوزي. فكلما يتعمق المرء في آراء الارسوزي كلما يزداد ابتعادا عن العقل حتى في أشد دعواته للعقل والحركة. كما أن الوجدان المفرط عنده يؤدي إلى ابتذال الوجدان، لأنه يصبح أسير العبارة. وذلك لأن الوجدان المفرط يؤدي إلى تهشيم الترابط المنطقي في الفكرة، ومن ثم خلخلة قيمتها. وبالحصيلة قد جعل من آراء الارسوزي أدبية شاعرية وبالتالي ليست قادرة على تأسيس رؤية عملية عقلانية تعي حدودها بمعايير الحاضر والمستقبل. الأمر الذي جعلها قابلة للتأدلج العنيف. وقد تكون فكرته عما اسماه بظهور الأمة على مسرح التاريخ كعقيدة احد نماذجها الكبرى.
إلا أن قيمة وفاعلية الفكرة الفلسفية التي وضعها الارسوزي تتلألأ أيضا من خلال نقاط الضعف هذه وتناقضها الجوهري. فإذا كانت فلسفته موضوعة بهيئة أحكام وقيم وجدانية، فإن ذلك لا يقلل أو يتعارض مع الحقيقة القائلة، بأن كل ما فيها صادق لأنها صدرت عن نفس مخلصة وأبية. وبالتالي هي التعبير النموذجي عن معاناة المعنى. الأمر الذي جعل من فلسفته القومية فلسفة المعنى الغائب والمستلب والمسحوق. من هنا بدائله المثلى في مقولات الحاضر والجوهري والفاعل. ومن هذه الحصيلة تراكمت فكرة الأبدية والخلود. مما جعل منه بحق شاعر الفلسفة القومية العربية. من هنا إنزاله الفكرة الفلسفية إلى مصاف الفكرة الشاعرية القائلة، بأن الأمة العربية ليست كالأمم الأخرى. وأنه لا يمكن تطبيق مفاهيم وصور الآخرين عليها. كما أنه لا يمكن فهمها بحق إلا بالحدس والتحسس الوجداني الخالص، لأن حقيقتها ميتافيزيقية وكينونتها إرادة متسامية. ومنهما ينشأ انسجامها الدائم وخلودها. ورسالتها تقوم في تقويم البشرية وتخليصها من آفاتها، كما لو أنها مسيح الأمم ومهديها المنتظر! الأمر الذي جعل أسلوبه يبدو من حيث المظاهر أحيانا الوجه الآخر لتأملات وحِكَم جبران خليل جبران. إلا أن حقيقتها أعمق وأوسع وأبعد.
فالارسوزي أول من حاول إدخال فكرة المبدأ الواحد والأول في الفكر الفلسفي العربي الحديث من خلال إرجاعه إلى اللغة. بحيث نراه يجعل من اللغة العربية مبدأ الكون الثقافي العالمي، أي أصل الصيرورة النموذجية. وبالتالي أصالة الفكرة القومية العربية كما لو أنها الخيوط غير المرئية لنسيج الكون الأبدي. أما من أين جاءت هذه الأسطورة الجميلة، فإن الإجابة عليها بسيطة كالبسيطة:أنها جاءت من تعاسة الواقع الفعلي وعدم تناهيه! لهذا أراد استبدال الموت بحياة لا يمكنها الخضوع لشيء غير ذاتها على مثال "الذات الإلهية" في الوعي الديني. انه أراد قومية حية مريدة عالمة قوية فاعلة ناصعة أبدية. من هنا فكرة الرسالة والخلود الممكنة في وحدتها. وذلك لأن جوهر الفكرة القومية عند الارسوزي يقوم في تمثل كل تاريخ النهضة واليقظة ولكن من خلال توجيهها صوب الباطن، أي المكون الثقافي والروحي الجوهري للعربية من لغة وتقاليد وتاريخ وعادات، باختصار كل ما بإمكانه أن يكون عربيا خالصا. من هنا جوهرية الجاهلية من أجل التحرر من تراث وعادات وتقاليد الفرقة المذهبية والدينية وغيرها، أي كل ما لا علاقة جوهرية له بالفكرة العربية، أي كل ما وضعه في فكرة البعث باعتبارها فعالية نحو الصميم.
لقد بلور الارسوزي هنا نموذجا أصيلا للرؤية الثقافية البحت. وهنا تكمن القيمة التاريخية والفكرية الكبرى لفلسفته القومية. وهي فلسفة لها نظامها الخاص والصارم أيضا. إنها تخضع لمنطق الكلمة كما اكتشفت بنيتها في القاموس، فجعل منه مفتاح الوجود في كل مستوياته. ومن ثم فهي أقرب إلى رؤية شاعرية وأدبية منها إلى نظرة فلسفية عقلانية، كما أنها منظومة فلسفية لا شعر فيها ولا أدب غير حدس الروح الباحث عن حلول قومية "أبدية".(انتهى).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرد الإسرئيلي على إيران .. النووي في دائرة التصعيد |#غرفة_ا


.. المملكة الأردنية تؤكد على عدم السماح بتحويلها إلى ساحة حرب ب




.. استغاثة لعلاج طفلة مهددة بالشلل لإصابتها بشظية برأسها في غزة


.. إحدى المتضررات من تدمير الأجنة بعد قصف مركز للإخصاب: -إسرائي




.. 10 أفراد من عائلة كينيدي يعلنون تأييدهم لبايدن في الانتخابات