الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فراس السواح وهدم أسطورة مملكتي داود وسليمان

ممدوح مكرم

2020 / 12 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


فراس السواح من الباحثين الجادين القلائل، في عصرٍ ساد فيه التسطيح والابتذال، وامتزج فيه المزيف بالحقيقي، في هذه الورقة سنحاول أنْ نتطرق للرؤية التي انطلق منها السواح في بحثه عن مملكة داود وسليمان، والتي ضمنها كتابه: تاريخ أورشليم والبحث عن مملكة اليهود( ط3، دار علاء الدين، 2016م)!.
لا يمكن تجزئة رؤية السواح العامة لتاريخ بني إسرائيل وتاريخ اليهودية، بدون المرور على كتاباته الأخرى بخلاف الكتاب المذكور آنفا، فكتابه: الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم: قدم خلاصة رده على نظرية كمال الصليبي المتضمنة في كتابه المثير للتساؤلات، والذي أحدث ضجة في الأوساط البحثية: التوراة أتت من جزيرة العرب، فالسواح في الحدث التوراتي فند بشكل تحليلي ممتاز، ومرتكزا على علم الآثار نظرية الصليبي، التي لا تعدو سوى تحليل مضحك وساذج يتوسل بحفريات لغوية؛ لا تصلح للدرس التاريخي بدون علم الآثار، والحفريات!.
أما كتابه الثاني: آرام دمشق وإسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي: ميز فيه السواح بين تاريخ حقيقي، يستند على الحفريات والُلقى، وبين تاريخ مستمد من المخيال والفلكلور الشعبي، وقدم فيه خلاصة مفادها: لم يكن هناك ما يُعرف ببني إسرائيل في مصر- اليهودية كدين لم تظهر وتتبلور إلا في فترة متأخرة على يد: ( عزرا) المؤسس الحقيقي لليهودية وليس موسى( موشي) وذلك بُعيد ما يعرف بالأسر البابلي- اليهودية هي ديانة محلية فلسطينية، جاءت من الثقافة الكنعانية السائدة في الجنوب السوري، ومن ثم لا يمكن الركون للرؤى التقليدية الجاهزة، فقد صمتت آثار مصر والهلال الخصيب عن ذكر هؤلاء القوم البدو الرحل، الذين أتوا من أور الكلدانيين( العراق) بقيادة النبي إبراهيم؛ لتعبر الفرات إلى سوريا( وهذا سبب تسميتهم بالعبرانيين= العابيرو) طبعا هذه مبررات التوراة!
ما هي الدعائم التي استند عليها السواح في هدمه لمملكة داود وسليمان؟
" أخذت الكتابة التاريخية تستقل عن الأسطورة، عندما لم يعد الإنسان القديم يرى في الأحداث الماضية، أو الأحداث الحاضرة؛ نتاجا لتدخل القوى الـ ماورائية؛ عند ذلك أخذ التاريخ يتجرد من قدسيته، وراح الإنسان يبحث في الأسباب والنتائج، من خلال روابطها وصلاتها الدنيوية والواقعية، وولد علم التاريخ الذي حل مكان الأسطورة؛ في تكوين الذاكرة الجمعية، وعُرف الإنسان بدوره في صنع تاريخه.."( السواح: تاريخ أروشليم: 8).
يمكن أنْ يكون هذا النص المستل من فاتحة كتاب تاريخ أروشليم: البحث عن مملكة اليهود، مضيئا في معرفتنا بطريقة تعامل السواح مع التاريخ، والتمييز بين الحدث التاريخي الواقعي، والحدث التاريخي الأسطوري، فالأول يستند على الأسباب والنتائج المرتبطة بعلاقات مباشرة وغير مباشرة في تشكيل الحدث التاريخي. وهذا يعيدنا إلى فكرة دعائم السواح، وهي دعائم تبدو قوية وجلية وجريئة، تصطدم بثوابت تراكمت عبر الزمن، فمحاولة تفكيكها وإعادة تركيبها بشكل مغاير للقديم يعني الدخول إلى مناطق شائكة جدا، قد يدفع الإنسان حياته ثمنا لذلك، ولكن بالتأكيد لا شيء يعلو فوق المعرفة والحقيقة المعرفية.
في موضع آخر مهم بذات فاتحة الكتاب، عبارة ثاقبة سطرها السواح بأسلوب حاد، حيث يقول:" لستُ هنا بصدد كتابة مقدمة في فلسفة التاريخ، ولكني بصدد التقديم لأخطر سردية تاريخية أنتجها العِوج في في الفكر والسيكولوجيا الإنسانية، وهي السردية المتعلقة بما يُدعى بـ" تاريخ بني إسرائيل"، والتاريخ اليهودي الملحق به. فهنا التقت الرؤية المنحرفة للأيديولوجية القومية، بالرؤية المنحرفة للأيديولوجية الدينية، وتعاونتا على صياغة أكثر السرديات ضلالا، وبعدا عن حقائق التاريخ، ومنطق الرؤية التاريخية. وهنا برزت وتجلتْ القصة المشبعة بالأسطورة، وفي أقوى أشكال سطوتها وتفوقها، على الحدث والواقع، عندما تحولت سلسلة الف ليلة وليلة التوراتية إلى تاريخ لفلسطين القديمة، وإلى مصدر موثوق لتاريخ الشرق القديم!!"( السواح: 9).
يبدأ تشكل اليهودية حسب- فراس السواح- مطلع القرن الخامس قبل الميلاد، عودة كهنة [ يهوذا] بعد السبي البابلي، كان لابد لهم من إيجاد سردية تجعل لهذا الشكل الجديد تاريخا ضاربا بجذروه في الماضي السحيق، ممزوجا بالمقدس الماورائي، ومن ثم تم اختراع السردية التوراتية، عبر جملة من النصوص والقصص والحكايا الشعبية، بالإضافة إلى موروث الشعوب الخليطة التي أحلها البابليون والآشوريون محل الشعوب التي رحلوها من الجنوب السوري، من هنا بدأت السردية التوراتية اليهودية تأخذ ملامحها الأولى. وعلى هذا الأساس تم تشكيل وصياغة تاريخ فلسطين بشكل خاص، والمنطقة بشكل عام، من خلال الانحدار من أصل واحد( بطريرك) هو إبرام( إبراهيم) الذي يُعد أباً لكثير من الأمم حسب الزعم التوراتي، وخرجت التقسيمة الأشهر: سامية وحامية ويافثية!!.
هذه كانت البداية لانبثاق ما بات يُعرف بتاريخ بني إسرائيل وتاريخ اليهودية، وذاك ما استدعى من مفكرنا[ فراس السواح] تفكيكه في الكتابات التي أشرنا إليها في بداية المقال، ثم في تاريخ أورشليم( البحث عن تاريخ اليهود) الذي نُسند إليه في ثنايا هذا المقال. القار في دراسة تاريخ فلسطين من منظور توراتي هو التقسيمة التالية:
1- الحقبة الكنعانية.
2- التوطن الإسرائيلي.
3- المملكة الموحدة لكل إسرائيل.
4- عصر انقسام المملكة( إسرائيل ويهوذا).
5- السقوط والسبي البابلي.
6- العودة وبناء الهيكل الثاني
(السواح: 11).
ذلك هو التحقيب التوراتي القار في الدراسات التاريخية المتعلقة بفلسطين، والذي حاول كثيرٌ من المفكرين والباحثين تفكيكه، ولكن تبقى قيمة فراس السواح هي الأعلى والأرقى من كل المحاولات، فهي محاولة جادة وجديرة بالتوقف أمامها كثيرا؛ لاستيعابها وبلورتها وتطويرها ودفعها بقوة إلى الأمام؛ وهذا سيفيد كثيرا النضال ضد الصهيونية باعتبارها استعمار استيطاني إحلالي عنصري؛ يستند على سردية دينية أقرب للتاريخ الخرافي وليس التاريخ الواقعي المستند على دعائم وأدلة أثرية.
تكمن قيمة ما كتبه فراس السواح في: اعتماده على علم الآثار والحفريات( الأركيولوجيا)، باعتباره العلم الأساسي المساعد للتاريخ، فالقاعدة التي وضعها السواح: ما تذكره الآثار وتسجله يُعتبر بمثابة تاريخ واقعي حقيقي، أحداث حية دارت رحاها في زمان ومكان معينين ومعاينين، أما التاريخ الذي تصمت عنه الآثار يظل تاريخا خرافيا، مستمد من الأساطير والثقافة الشعبية، وسير الأبطال والملاحم القديمة، وإنْ تعكس الواقع المعاين؛ إلا أنَّ هذا الانعكاس يأتي مشوها ومبالغا فيه، من ثم كان اعتماد السواح على الآثار هو ما يميزه عن آخرين كسيد القمني وكمال الصليبي وزياد منى. ولكن علَّما يستند السواح؟ وكيف؟ ولماذا؟ هذا ما سنقاربه في الفقرات القادمة.
يجيب فراس السواح قائلا: " إنَّ عمل المؤرخ الحديث ينحصر في تفسير واستقراء نوعين من البيِّنات، الأول بينات أركيولوجية مباشرة، والثاني بينات كتابية نصية، وكلاهما يجب أنْ ينتميا إلى زمن الحدث الذي نؤرخ له، أو قريبا من زمنه بدرجة تسمح بإلقاء الضوء عليه. أما العكوف على تأمل وتفسير بينات نصية متأخرةـ فليس من التاريخ في شيء، وهو أقرب ما يكون إلى العمل الأدبي، الذي يعتمد الخيال، منه إلى الكتابة التاريخية، ..."( السواح: 14). وفق فراس السواح: أقدم نص للتوراة موجود بين أيدينا هو نص مخطوطات البحر الميت، وهي أجزاء غير كاملة من التوراة، فيما عدا سِفْر أشعياء الذي وُجد كاملا في أكثر من مخطوطة، بالإضافة إلى شذرات من نصوص أخرى غير قانونية( أي ليست معتمدة رسميا)، ومن ثم" ...أنَّ أقدم أحداث الرواية التوراتية المروية في سفر التكوين( أول أسفار العهد القديم)، منقطع عن أقدم نص للتوراة بما يقارب 1900 سنة( ألف وتسعمائة عام)، وقصص الخروج من مصر، ودخول كنعان منقطعة ما يقارب 1300 سنة( ألف وثلاثمائة سنة)، وقصص مملكة داود وسليمان ما يقارب 1100 سنة( ألف ومائة عام)، وقصص مملكتي إسرائيل ويهوذا منقطعة ما يقارب 900 إلى 600 سنة( من تسعمائة إلى ستمائة عام)!!"( السواح: 14). ذلك يعني أنَّ القيمة التاريخية للبينة النصية كما يراها السواح ووضحانها في فقرة أسبق هي مرتبطة بمدى قربها أو بعدها عن الحدث المراد توثيقه ومعرفته وتتبع سيرورته وصيروته، كلما كانت البينة النصية معاصرة أو قريبة من الحدث، كان تصديق الحدث يكون أقرب، والعكس إذا كانت البينة أبعد زمنيا، قد يكون لا يعطي مصداقية قوية للحدث، ولا ينبني الحدث على دعائم معقولة ومؤكدة إنْ نصيا أو حفريا, هذه طريقة السواح في التعامل مع التاريخ بشكل عام، وتعامله مع تاريخ فلسطين بشكل خاص. ويصيغ السواح خلاصة رؤيته في عبارة شديدة الأهمية وجلية:
" إنَّ قصة بني إسرائيل التوراتية لم تجر على أرض فلسطين ولا أي مكان جغرافي آخر، بل هي قصة أصول مفعمة بالأيديولوجية الدينية، تهدف إلى ابتكار تاريخ للدين اليهودي، الذي صاغه كهنة أروشليم، خلال ثلاثة قرون من الفترة المدعوة بـ [ الأسر البابلي]، أو فترة الهيكل الثاني...."( السواح: 15).
بنى السواح دعائمه القوية التي هدم فيها أسطورة مملكتي داود وسليمان من خلال عدة عناوين لكتابه المذكور( مملكة أورشليم: البحث عن تاريخ اليهود) على ما يلي:
1- إطلالة جغرافية وطبوغرافية.
2- بدايات التنقيب في فلسطين واكتشاف أورشليم القديمة.
3- أورشليم اليابوسية.
4- أورشليم القرن العاشر( البحث عن شبح داود).
5- أورشليم القرن العاشر( البحث عن عفريت سليمان).
6- ثقافة فلسطين في القرن العاشر.
7- عودة إلى الوراء( فلسطين في عصر البرونز).
8- عودة إلى الوراء( عصر الحديد والبحث عن العبرانيين).
9- المملكة الموحدة مرة أخرى( أين القرن العاشر؟).
10- مملكة السامرة الكعنانية( 880- 721 ق.م).
11- مملكة يهوذا الكنعانية.
12- يهوه وآلهة كنعان( الدين والثفافة في المملكتين).
13- أزمة التاريخ التوراتي.
14- أورشليم في العصر الفارسي.
15- أورشليم في العصر الهيلنستي.
16- العصر الروماني ونهاية أورشليم.
هكذا صاغ السواح عناوين كتابه، ولكن كيف كان يبحث ويستقرأ ويجادل ويستنج؟
أولا: يعتمد السواح على علم الآثار في دعم وجهة نظره، ومن ثم استطاع اسقاط الرواية التوراتية.
ثانيا: يعتمد على التحليل النصي، من خلال نقد النص كوثيقة، رابطا بين النص وتاريخ تدوينه.
ثالثا: يجري مقارنات بين الحفائر والنصوص، ويستنطق كل منها، للوصول إلى الحقيقة، وعلى الأقل الاقتراب من الحقيقة إذا تواضعنا.
فعندما يتحدث عن بداية نشأة أروشليم كمدينة: يستشهد بالحفريات التي قامت بها العالمة الأثرية[ السيدة كينيون]، يقول:" أورشليم اليابوسية لم تكن سوى بلدة صغيرة مسورة، ولم يكن لها من العراقة في التاريخ ما لمدن فلسطينية أخرى مثل أريحا، ولا ضخامة وأهمية مواقع مثل مَجِّدو وحاصور....." (صـ39). ومن ثم بقيت أورشليم مدينة صغيرة مسورة، لا يعرفها أحد حتى نهايات القرن التاسع ق.م، وهو يعاكس تماما النص التوراتي الذي يرى في أورشليم مدينة عظيمة وعريقة، مرهوبة الجانب، ويشير السواح إلى عدم ذكرها مدينة[ إيبلا] السورية في الألف الثالث ق.م، ولكن مثلا هناك ذكر لمدينة [ حاصور] في ذات النصوص، وفي نصوص مدينة[ ماري] على الفرات الأوسط..إلخ. هذه طريقة السواح في التعاطي مع التاريخ. ويردف أنَّ ذكر [ أروشليم اليابوسية] لم يرد سوى مرتين فقط، وخلال فترة تنوف عن ألف وخمسائة سنة، تمتد من تأسيس المدينة في عصر البرونز الوسيط، وحتى نهاية القرن الثامن ق.م. فأول ذكر لأورشليم في نصوص اللعنات المصرية، المنقوشة على جدار فخارية، ويعود ذلك إلى سنة 1750ق.م( السواح:39، 40). أما الذكر الثاني لأورشليم في النصوص المصرية: فكان في عصر آمونحتب الرابع( إخناتون) في الفترة: 1369- 1353ق.م، وذلك من خلال أرشيف[ تل العمارنة] عاصمة مصر عصرئذٍ( موقعها الحالي جنوب المنيا= مصر الوسطى)، وكانت الوثيقة التي ذُكرت فيها [ أورشليم] هي رسائل متبادلة بين[ عبدي حيبة] حاكم المدينة والبلاط المصري، ويختفي اسم أورشليم لمدة ستة قرون، إلى أنْ تظهر كعاصمة لمملكة [ يهوذا] في القرن الثامن ق.م. ويطرح السواح سؤالا: عن سر اختفاء أورشليم طوال هذه الحقبة التاريخية الطويلة؟ إلى أنْ تعود للظهور في وثائق الملك الآشوريل[ تغلات فلاصر الثالث] ( 744- 727ق.م)،وخَلفِه الملك[ سنحاريب]( 704- 681ق.م)، خاصةً وأنَّ وثائق آشور لم تترك مدينة في غربي الفرات إلا وذكرتها! وبذلك يرى السواح: أنَّ معالجة نقص الوثائق التاريخية، يكون من خلال استقراء وتحليل الوثائق الأركيولوجية. ويستمر فراس السواح بذات الطريقة والمنهجية إلى أنْ يصل لخلاصة مفادها: خيالية وجود مملكة داود وسليمان، وعدم ذكرها في أي وثيقة أركيولوجية سواء في أرض فلسطين( باعتبارها هي بؤرة الأحداث)، أو أركيولوجيات الهلال الخصيب ومصر.
فراس السواح يغريك بقراءته، والسير معه خطوة خطوة، للوصول إلى نتائج مبنية على معرفة تاريخية نصية، ومعرفة آثارية، يلضمهما خيطٌ واحد رفيع، كل منهما يتجادل مع الآخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهاجمة وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير وانقاذه بأعجوبة


.. باريس سان جيرمان على بعد خطوة من إحرازه لقب الدوري الفرنسي ل




.. الدوري الإنكليزي: آمال ليفربول باللقب تصاب بنكسة بعد خسارته


.. شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال




.. مظاهرة أمام شركة أسلحة في السويد تصدر معدات لإسرائيل