الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 5

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2020 / 12 / 20
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


4- الإنسان ذو الشخصية الاجتماعية

بسبب الشخصية الاجتماعية، بدأت تتوارى عن النظر المساواة الطبيعية الفطرية بين البشر، بعد أن أصبحت قيمة الإنسان تقاس بقيمة ما يستطيع تقديمه للمجموعة أكثر من قيمته الذاتية المجردة الخام كإنسان طبيعي. على سبيل المثال، تخيلوا المعاملة التي توليها مجتمعاتنا اليوم للعالم النووي أو عالم الفضاء مقارنة بالشخص العادي، أو المميزات الاجتماعية التي يحظى بها مشاهير الطب أو الهندسة أو الفن أو الرياضة فوق عامة الناس؛ أو، في المجتمعات العربية على وجه التحديد، انظروا الأفضلية الاجتماعية والتعالي على القوانين التي يحظى بها كبار رجال الحكم والدين والمال والقضاء والسياسة والعسكرية مقارنة بالمواطنين العاديين.

إذا كانت الشخصية الطبيعية هي هبة الطبيعة، الشخصية الاجتماعية هي بالأساس صنيعة المجتمع- لولا تطور المجموعة البشرية إلى تجمعات ومجتمعات أكبر، ما وجدت الشخصية الاجتماعية. كذلك، من دون المجتمعات المتطورة ما وجدت الشخصيات الاجتماعية أدواراً تلعبها أو وظائف تؤديها وما كانت ستظهر الحاجة إلى وجودها، الذي يعتمد على مساهماتها في حياة ورفاهية المجتمعات. هي بالأساس اختراع من العقل البشري وليد التوسع الهائل الذي شهدته الاحتياجات البشرية إلى الحد الذي تجاوز قدرة وطاقة الشخوص الطبيعية لتلبيته. الشخوص الاعتبارية حاجة مجتمعية أساسية.

كذلك، لا تستطيع المجتمعات المتطورة أن تستغني عن خدمات واسهامات الشخصيات والمؤسسات الاجتماعية التي تؤدي أدواراً ووظائف اجتماعية بالغة الأهمية لمجتمعاتها. هل يمكن تخيل مجتمع اليوم من دون مؤسسات مثل الأسرة، النادي، الشركة، الجمعية، الجيش، الشرطة، الحكومة، الملك، الرئيس، البلدية أو الحي...الخ. ثمة علاقة بقاء متبادل بين الشخص الاجتماعي والمجتمع، حيث من دون الأخير ما وجد الأول، ومن دون الأول ما استطاع الأخير أن يحافظ على بقائه وتطوره.

حين اكتسب الإنسان ذو الشخصية الطبيعية الأولية شخصية اجتماعية ثانوية إضافية، نشأت فوارق ضخمة فيما بين البشر ولم تعد المساواة الطبيعية الأولى ممكنة. بالتالي، استلزم الأمر من الإنسان نفسه أن يستحدث من القوانين والمبادئ الأخلاقية ما يحول قدر المستطاع دون المساس بالمساواة الطبيعية فيما بين البشر. لذلك، في الدول الديمقراطية خاصة، حرصت القوانين على تأكيد القيمة الطبيعية للإنسان لمجرد كونه إنسان طبيعي قبل وفوق أي شيء آخر، وتأكيد المساواة في الحقوق والواجبات فيما بين جميع المواطنين كبشر طبيعيين. فلا اختلاف من حيث القيمة الإنسانية الطبيعية فيما بين رئيس ومرؤوس، أو عالم وجاهل، أو مشهور ومغمور...الخ. وتكفل الدساتير والقوانين الديمقراطية مساواة كاملة أمام القانون لكل الناس، كبشر طبيعيين.

لكن رغم ذلك، لا تزال الشخصية الاجتماعية تضفي على حامليها منزلة ومكانة اجتماعية أكبر مقارنة بمن يفتقرون إليها. فمن غير المنطقي، نظرياً على الأقل، إعطاء نفس القيمة والمكانة لمساهمة شخصيات اجتماعية مرموقة من أمثال العلماء والرؤساء والمشاهير من جهة، ومساهمات المواطنين العاديين في المقابل. لا شك في أن مساهمة الفئة الأولى هي الأكبر والأعظم على الدوام من أجل ازدهار ورفاهية المجتمع ككل، ومن ثم ينالون أيضاً المكافآت الأكبر عرفاناً لجهودهم.

كعلاج لهذه المعضلة، حرص المشرعون على التأكيد على مبدأ "تكافؤ الفرص" فيما بين جميع البشر الطبيعيين. فمن الناحية النظرية على الأقل، ينبغي ألا يوجد أي عائق أو مانع أو قيد اجتماعي أو قانوني دون أن يكتسب أي شخصي طبيعي أي شخصية اجتماعية مهما كانت، مثل طبيب أو فنان أو قائد عسكري أو رئيس دولة...الخ، طالما توفرت فيه المؤهلات الموضوعية المطلوبة لذلك؛ لا طبقية، ولا توريث للمناصب، ولا احتكارات. في قول آخر، الشخصيات (الوظائف) الاجتماعية على تنوعها، في المجتمعات الديمقراطية على الأقل، يجب أن تكون متاحة لجميع الأشخاص الطبيعيين على قدم المساواة ودون أي تفرقة من أي نوع؛ المانع الوحيد، إذا كان هناك مانع، هو قدرة المرء ذاته على استغلال هذه الفرصة المتكافئة بينه وبين الآخرين. إذا استطاع فهو مرحب به وسينال مكافأته كاملة بصرف النظر عن عرقه أو لون بشرته أو جنسه أو دينه...الخ، وإذا لم يستطع فلا يلوم إلا نفسه أو حظه العثر. لكنه في جميع الأحوال، إذا كان يشغل أعلى المناصب أو أوضعها، يبقى إنسان كامل القيمة ولا ينتقص من قيمته الإنسانية الطبيعية شيء على الاطلاق.

تكافؤ الفرص فيما بين الشخصيات الاجتماعية هو المعادل الموضوعي للمساواة الكاملة تقريباً فيما بين كافة البشر الطبيعيين، لكونهم بشر قبل وفوق أي شيء آخر. تؤكد القوانين الديمقراطية باستمرار على مبدأ "تكافؤ الفرص" بين مواطنيها، وفي سبيل ذلك تحارب الطبقية والاحتكارات وتوريث المناصب والمراكز الاجتماعية والوساطة والرشوة والمحسوبية...الخ. كما تكفل القوانين الديمقراطية أيضاً المساواة في الحقوق والواجبات فيما بين جميع البشر، سواء في شخصياتهم الطبيعية أو الاجتماعية.

من جهة أخرى، هناك بعض الشخصيات الاجتماعية ذات طبيعة حساسة وتتمتع- ضماناً لمصالح مجتمعاتها وليس مصالحها الشخصية الذاتية- بامتيازات غير شائعة مثل الحصانة والسيادة وحماية السرية وما إلى ذلك، بما قد يمنع أحياناً من توقيفها أمام العدالة على نفس قدم المساواة مع الشخصيات الاجتماعية الأقل شأناً. مع ذلك، تحرص القوانين الديمقراطية على وضع الضوابط الكفيلة بتحقيق العدل من الشخصيات المحصنة بحكم مناصبها مثل الأعضاء البرلمانيين المنتخبين من عامة الشعب وأعضاء البعثات الدبلوماسية وشاغلي المناصب السيادية مثل رؤساء الحكومات والدول عن طريق ضمانات معينة تنسجم مع طبيعة شخصياتهم الاجتماعية المحصنة أو السيادية أو السرية، لكنها في الوقت نفسه تستطيع محاسبة شخصياتهم الطبيعية ومعاقبتها إذا اقتضى الأمر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لبنان - 49 عاما بعد اندلاع الحرب الأهلية: هل من سلم أهلي في


.. التوتر يطال عددا من الجامعات الأمريكية على خلفية التضامن مع




.. لحظة الاصطدام المميتة في الجو بين مروحيتين بتدريبات للبحرية


.. اليوم 200 من حرب غزة.. حصيلة القتلى ترتفع وقصف يطال مناطق مت




.. سوناك يعتزم تقديم أكبر حزمة مساعدات عسكرية لأوكرانيا| #الظهي