الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيصل حرية التعبير

صبحي حديدي

2006 / 7 / 18
المجتمع المدني


هذه حكاية قانونية ذات مغزى في السجال الدائر حول حرّية التعبير في الديمقراطيات الغربية، وما إذا كان القانون هو الناظم الأوّل في ضبط حدودها. وهي تخصّ ثلاثة: إدغار موران، فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي بارز، ويهودي تعود أصوله إلى يهود إسبانيا الـ "سفارديم"؛وسامي نير، جامعي ومؤلف فرنسي من أصول جزائرية، وزير سابق وعضو سابق في البرلمان الأوروبي عن "حركة المواطن"؛ ودانييل سالناف، المؤلفة والأستاذة في جامعة باريس العاشرة. والحكاية بدأت في صحيفة "لوموند" الفرنسية، يوم 3 حزيران (يونيو) 2002، في ذروة البربرية الفاشية الإسرائيلية ضدّ مخيّم جنين الفلسطيني، حين وقّع الثلاثة مقالاً بعنوان "إسرائيل ـ فلسطين: السرطان"، انتقد سياسات أرييل شارون على خلفية التفكير التوسعي الصهيوني، واعتبر أنّ طبيعة السرطان ناجمة عن اعتلال سياسي ـ أمني ينهض على الإخضاع والهيمنة من جانب إسرائيل، والفقدان والتجريد على الجانب الفلسطيني.
ولم تمضِ أيام حتى سارعت منظمتان، هما "محامون بلا حدود" و"فرنسا ـ إسرائيل"، إلى رفع دعوى قضائية ضدّ الثلاثة، ومعهم جان ـ ماري كولومباني رئيس تحرير "لوموند"، استناداً إلى القانون الفرنسي الذي يحظر التشهير العنصري. واقتبست المنظمتان فقرتين لا غير، لا تزيدان عن 90 كلمة من أصل مقال يتجاوز 2500 كلمة: الأولى تقول: "من الصعب أن نتخيّل أمّة من المشرّدين، أسسها شعب تعرّض للاضطهاد أكثر من أيّ شعب آخر في تاريخ الإنسانية، وعانى أسوأ الإهانة والاحتقار، تصبح قادرة على تحويل نفسها خلال جيلين فقط إلى شعب مهيمن مطمئن إلى ذاته، شعب متغطرس لا يشفي غليله إلا الإذلال، باستثناء أقلية جديرة بالإعجاب". الفقرة الثانية تقول: "إنّ يهود إسرائيل، وهم نسل ضحايا الأبارتيد الذي عُرف باسم الغيتو، يزجون الفلسطينيين في الغيتو. اليهود، الذين تعرّضوا للإذلال والإهانة، يذلون ويهينون الفلسطينيين".
وفي 12 أيار (مايو) 2004 ردّت محكمة نانتير الدعوى، معتبرة أنّ الفقرتين "لا يمكن أن يتمّ تقييمها بمعزل عن التأمّل الأعمّ الذي كان المؤلفون قد ابتدأوه". واعتبر القضاة أنّ ذلك التأمّل جرى في سياق "موقف يحثّ شرعاً على السجال"، والفقرتان موضوع الشكوى تندرجان في "نصّ حامل لرسالة سياسية". ولكن، بعد قرابة عام تقريباً، أبطلت محكمة الاستئناف في فرساي حكم محكمة نانتير، معتبرة أنّ المقالة تنطوي على التشهير لأنها "تلصق بمجموع يهود إسرائيل تهمة واقعة محددة هي إذلال الفلسطينيين، فتسم سلوكهم بميسم على قياس تاريخهم المشترك". هنا تدخّل الرأي العام، فصدرت عريضة تضامن لافتة تماماً، وقّعها 150 من المثقفين الفرنسيين والأوروبيين البارزين من أمثال بول ريكور، ريجيس دوبريه، جان بودريار، جيل مارتينيه، بيير نورا، ماريو شواريس، ألان تورين، جياني فاتيمو، وبيير ـ فيدال ناكيه. وبالطبع، توفّر بعض اليهود في عداد الموقعين.
وقبل أيام بلغت القضية نهاية دراماتيكية حين كسرت محكمة النقض الحكم الأخير، فأبطلت تهمة "التشهير العنصري"، واعتبرت أنّ نصّ المقالة يندرج في باب حرية التعبير: "إنّ الأقوال التي تمّت ملاحقتها امام القضاء، وقد عُزلت عن مقال تنتقد سياسة تتبعها حكومة إسرائيل تجاه الفلسطينيين، لا تلصق تهمة أية واقعة محددة ذات طابع يُلحق الأذى بشرف أو اعتبار الجماعة اليهودية في مجملها بسبب انتمائها إلى أمّة او دين، ولكن تلك الأقوال تعبير عن رأي ذي صلة بالسجال فقط". أكثر من هذا، اعتبرت محكمة النقض أنّ قرار محكمة فرساي لا ينتهك قانون الصحافة الفرنسي (العائد لعام 1881!) فحسب، بل كذلك المادة العاشرة من الميثاق الأوروبي حول ضمان حقوق الإنسان وحرّية التعبير.
هي، إذاً، قضية في صالح الرأي الآخر ضدّ ممارسة الإبتزاز القانوني وكمّ الأفواه والتضييق على حرية التفكير. وهي، في المغزى العامّ، تؤكد القاعدة التي تقول إنّ القانون هو الفيصل الأوّل في تحديد الفارق بين حرّية التعبير وحرّية التشهير، ولكنها في الآن ذاته لا تلغي الإستثناء المعتاد الذي لا ينفكّ عن كلّ وأية قاعدة. الدليل؟ هذا القانون الفرنسي ذاته الذي أنصف موران ونير وسالناف، لم ينصف ديودونيه، الكوميدي الفرنسي ـ الكاميروني الأصل الذي أحيل إلى القضاء بتهمتين مزدوجتين (متكاملتَين؟): إهانة العرق البيض على خلفية القول إنّ الاوروبيين كانوا تجّار رقيق، وتمتعوا في هذا بدعم الكنيسة الكالثوليكية؛ وتهمة العداء للسامية وإهانة الذاكرة الإنسانية، عن طريق القول إنّ استعباد السود ليس أقلّ مأساوية من المحرقة.
الجانب الآخر من المسألة يخصّ قاعدة أخرى، غير قانونية هذه المرّة، مفادها أنّ انحيازات بعض أشباه المثقفين لا تدفعهم إلى مباركة أخبث طرائق وأد حرية التعبير فحسب، بل تسوّغ لهم تمجيد تلك الطرائق من جهة أولى، وتأثيم المدافعين عن حرّية التعبير من جهة ثانية. هذه، مثلاً، كانت حال ألان فنكلكروت، الكاتب الفرنسي اليهودي الذي يصرّ على حشر صفة "الفيلسوف" أسفل مقالاته البائسة، والذي لم يجد حرجاً في القول إن قضية موران ونير وسالناف لم تذكّره إلا بقول شارل بودلير: "ما يثير السأم في فرنسا أنّ الجميع يتصرّفون مثل فولتير".
بالطبع، لأنّ الجميع لا يتصرّفون مثل أرييل شارون!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آلاف الإسبان يتظاهرون ضد السياحة المفرطة في -أرخبيل البليار-


.. خيام النازحين الفلسطينيين تمتد على طول شاطئ دير البلح في غزة




.. إسرائيليون يتظاهرون في القدس المحتلة للمطالبة بصفقة لإعادة ا


.. إيهاب جبارين: ذوو الأسرى يريدون أبناءهم أحياء لا جثثا هامدة




.. انقسام في إسرائيل حول عملية رفح.. وأهالي الأسرى يطالبون بوقف