الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وما نيل الأوطان بالتمني، لكنها تؤخذ غلابا

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2020 / 12 / 29
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


استأذن هنا أمير الشعراء أحمد شوقي في استعارة فكرته عن بناء "المجد"، كما عبر عنها في قصيدته "سلو قلبي" التي تغنت ببعض أبياتها كوكب الشرق أم كلثوم عام 1946، لكي أسقطها على بناء "الأوطان". يصف لنا شوقي في أبياته الشعرية كيف أن النبي محمد علم أمته سبل بناء المجد، حتى "اغتصبوا" الأرض.

وَعَلَّمَنا بِناءَ المَجدِ حَتّى .... أَخَذنا إِمرَةَ الأَرضِ اِغتِصابا
وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي .... وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا
وَما اِستَعصى عَلى قَومٍ مَنالٌ .... إِذا الإِقدامُ كانَ لَهُم رِكابا

لا أعرف كيف يتفاخر أمير الشعراء ببنائه المجيد هذا الذي تحقق على حساب "اغتصاب" أرض الآخرين؟! لكن نفس فكرته هذه التي قد تبدو مفزعة للبعض وفقاً لمعايير العصر الحديث، تعبر في الواقع عن حقيقة تاريخية لا تزال تصدق بأشكال أخرى حتى يومنا الحالي: القوة، وميزان القوى، عنصر جوهري في بناء الأوطان؛ من دون القوة، سواء في بناء الأوطان أو الاستيلاء عليها، وكذلك في صيانتها والمحافظة على استمراريتها، ما وجدت أوطان وما بقيت.

يؤكد شاعرنا أن نيل المطالب (الأوطان، هنا) لا يتحقق بمجرد التمني، بل بالمغالبة، أو التغلب بالقوة على آخرين، إلى حد اغتصاب أرضهم وممتلكاتهم ونسائهم وأطفالهم...الخ. ربما كانت لهذه الصور والأفكار الشعرية القاسية خلفيتها الاجتماعية- السياسية الخاصة بها، ممثلة في شعور عميق بالضعف والهوان بعدما خضعت المنطقة العربية لمئات السنين من الغزو والاستعمار من قبل امبراطوريات أعظم منها في القوة والبأس والجلد، ومن ثم نجحت في أن تخضعها بالقوة - أو تغتصبها تماماً كما يتفاخر شاعرنا باغتصاب أمة محمد في أوج مجدها لأوطان أخرى- لسيطرتها مثل العثمانيين والفرنسيين والبريطانيين حتى الحقبة التي قد عاصرها الشاعر بنفسه.

كان الوعي الذاتي العربي-الإسلامي في ذلك الوقت لا يزال في بداية التشكل ثانية عقب قرون طويلة من فقدان الوعي، ومتلهف لاستعادة أمجاده الماضية المتخيلة سواء في العهد النبوي أو حقبة الخلفاء الراشدين، أو الخلافتين الأموية والعباسية فيما بعد. كان شوقي في أبياته تلك يعبر عن حنين وشوق يختمران داخل المخيلة العربية والإسلامية أواخر القرن التاسع عشر وبدايات العشرين لاستعادة أمجاد ماض متصور والتحرر من نير استعمار حاضر وجاثم آنذاك. وفي هذا السياق يجب أن تفسر قسوة وخشونة صوره وخيالاته الشعرية، وربما قد يلتمس لها العذر حتى.

لا شك أن القوة تلعب دوراً مركزياً في مصير الأوطان، سواء في نشأتها أو في ضمان استمراريتها ورخائها. ربما هناك أوطان قد نشأت وازدهرت في غفلة من قوى أخرى، في أماكن نائية ومعزولة خلف الجبال أو فيما وراء البحار الشاسعة، ومن ثم وجدت الفرصة أمام قاطنيها لبناء وتطوير مجتمعاتهم وأوطانهم في هدوء وسكينة من دون تدخلات أو غزوات أجنبية مؤثرة. وقد عرف التاريخ الكثير من مثل هذه المجتمعات والأوطان المنعزلة.

لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه العزلة بقدر ما كانت تشكل ميزة نسبية وفرت عليها تبديد طاقات هائلة في تكريس الوقت والجهد والدماء ما بين صد للغزوات القادمة من الخارج، أو في إطلاق الغزوات والفتوحات هي ذاتها، إلا أنها كانت أيضاً المسؤولة عن حرمان مثل هذه الأوطان والمجتمعات المعزولة من طاقات هائلة في المقابل لتحقيق التقدم والازدهار عبر المقايضة والمنافسة الشرسة، الدموية أحياناً، مع المجتمعات والأوطان المجاورة. المجتمعات المتجاورة مع بعضها البعض تستطيع أن تتبادل فيما بينها المعارف والتجارب والخبرات والسلع والمنافع المشتركة، تماماً مثلما تستطيع أن تتحارب وتتقاتل مع بعضها البعض في أحيان أخرى.

العلاقة لا تخلو من المنافع المشتركة، مثلما لا تخلو من المخاطر. في المقابل، هذه العزلة وإن كانت قد وفرت على تلك التجمعات مخاطر الغزو القادم من الخارج، إلا أنها ما كانت تستطيع أن تجنبهم أيضاً مخاطر النزاعات والصراعات الداخلية التي في العادة لا تتوقف وسط كافة مجموعات وتجمعات الكائنات الحية، ومن ضمنها البشرية بالطبع. فالصراع ينشب لا محالة سواء على الموارد أو النفوذ أو الإناث فيما بين التجمعات البشرية المنفصلة، وكذلك في داخل التجمع البشري الواحد، فيما يسمى القلاقل والفتن أو الاضطرابات الداخلية، أو الحروب الأهلية، أو الصراع على الحكم أو السلطة...الخ.

لذلك، حتى التنظيمات الاجتماعية الهامشية وصغيرة الحجم مثل القبائل والعشائر والعائلات والعصابات وجماعات الجريمة المنظمة، مثل المافيا، لا تسلم من الانقسام والتشرذم والصراع والاقتتال الداخلي. فالصراع واستعمال القوة وسفك الدماء سمة أساسية لحياة الإنسان ويدونها التاريخ بأحرف بارزة، بل ويقرها أيضاً في أغلب الحالات كحقيقة بديهية أو كأمر واقع، أو كباعث ومحفز لتطور ورقي المجتمعات ونهضتها. خلاصة القول، وكما لخص شاعرنا أعلاه، نيل الأوطان، أو على الأقل الحفاظ على استمراريتها ورخائها، لا يكون إلا بالعمل الجاد والجهد والقوة، حتى لو وصل الأمر إلى حد "الاغتصاب" وفقاً لتعبير أميرنا الشاعر.
________________________________________
مقتطف من مؤلف "أنا الإنسان، أنا الوطن: قصة حياة". الكتاب متاح كاملاً ومجاناً عبر الانترنت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صواريخ إسرائيلية -تفتت إلى أشلاء- أفراد عائلة فلسطينية كاملة


.. دوي انفجارات في إيران: -ضبابية- في التفاصيل.. لماذا؟




.. دعوات للتهدئة بين طهران وتل أبيب وتحذيرات من اتساع رقعة الصر


.. سفارة أمريكا في إسرائيل تمنع موظفيها وأسرهم من السفر خارج تل




.. قوات الاحتلال تعتدي على فلسطيني عند حاجز قلنديا