الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القتل باسم الدين والبارانويا

عايدة الجوهري

2021 / 1 / 2
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يثير القتل باسم الدين، سواء استهدف عسكريين أم مدنيين، أو كان نظاميًّا، علنيًّا، جهريًّا، أو ‏سريًّا مغفلاً، المزيدَ من جهود البحث والتفسير، وتذهب هذه الجهود في اتجاهات متعدّدة، أيديولوجية ‏نصية، أو تاريخية وقائعية، أو اقتصادية اجتماعية، أو سياسية سلطوية، ترمي كلّها إلى استكناه ‏أسرار هذه الظاهرة، التي تنهض كنقيض تامّ لمنجزات عصر التنوير، ولمفهوم حقوق الإنسان ‏وكرامته، في صيغة ضدية مذهلة، وكنقيض أيضًا لوظيفة الدين نفسها، بصفته كود أخلاقي غايته ‏الأصلية تنظيم حياة البشر، والارتقاء بهم إلى مرتفعات الفضيلة والتوازُن والسكينة، لا كراهية ‏بعضهم بعضًا، ولا إلغاء بعضهم بعضًا، ولا تدمير بعضهم بعضًا.‏

إلى جانب هذه الجهود البحثية والفكرية، التي أسهمت وتُسهم في إزالة الكثير من الغموض ‏حول هذه الظاهرة الأزلية والمعاصرة، التي باتت تُقلق العالم، لا أكفّ، ولا يكفّ بعض الباحثين، عن ‏التساؤل حول طبيعة الحالة النفسية – العقلية التي يسبح فيها المتديّن العدواني، إلى أي دين انتمى، ‏فالتاريخ الواقعي يشهد على أنّ ارتكاب العنف ليس محصورًا بأتباع الأديان الإبراهيمية، وقد تورّط ‏ويتورّط به بوذيّون وهندوس وسيخ وغيرهم. أتساءل عن الذي يجعل المتديّن ينتشي بتعذيب ‏الآخرين، وقتلهم، وحرقهم، وشنقهم، وسحلهم، نافياً عنهم قيمتهم وكرامتهم، مستكثرًا عليهم حقّهم في ‏الحياة، كما عن الذي يجعله كارهًا لحريات الآخرين، يزجرهم، يقمعهم، يضطهدهم، يكمن لهم، ‏مستكثرًا عليهم الحق في التفكير والتعبير، والشعور، والاختلاق.‏

أتساءل عن هذه الحالة النفسية الشاذة، وتبعًا عن هذه الآلة التعبوية التأهيلية التربوية الضخمة ‏التي تجعل من كائن عادي، ذي طبائع اعتيادية، خصمًا للعالم المحيط، المغاير عنه وعن معتقداته ‏وخياراته، وقابلاً لتشييء البشر وإفقادهم قيمتهم، وتحويلهم إلى أدوات ووسائل لتحقيق أهداف ‏تتخطاهم، وتتخطاه هو ذاته، تبعًا وربطًا، كما أتساءل عن جوهر الأفكار والمشاعر والأحاسيس ‏والتصورات التي تحتدم في دخيلته، وتجعله يتجرّأ على الانقضاض على الآخرين وكرههم حتى ‏الموت، وعن هذه الحرية الوجدانية التي يبيحها المتعصّب السفّاك لنفسه وتجعله يعلي قيمته وأهدافه ‏ومثله ونزواته، على كل ما يحيط به، مقتنعًا بأنّ مساعيه تتسامى على العالم الأرضي، ببشره ‏وحجره. ‏

يُحيلك هذا النمط من التساؤلات إلى المفاهيم التي اجترحها علم النفس لتوصيف أحوال النفس ‏البشرية وأطوارها، فإلقاء اللوم على النصوص، وحتى على الذاكرة التاريخية، والأغراض السياسية ‏السلطوية، الاستراتيجية، لا يفي بالغرض، بقدر ما تستند هذه العوامل المؤثرة كلّها إلى كائن بشري ‏ذي بنية نفسية ذهنية وجدانية محدّدة.‏

ذهبتُ إلى الأدبيات المتداولة في هذا المجال، والتي يتمّ عمومًا استصغارها وتهميشها لصالح ‏عوامل ومحدّدات أخرى، ووجدتُ أنّ مجموع السمات النفسية المرضية التي رصدوها لدى المتديّن ‏المتعصّب والسفّاك والفتّاك، تجعل منه شخصيةً مريضةً بامتياز، وحين دمجتُها بسمات المتعصّب ‏عمومًا، والمتعصّب دينيًّا خصوصًا، خلصتُ إلى أنّ شخصية المتديّن المتعصّب العدواني هي أقرب ‏ما يكون إلى البارانوي.‏

إنّ الظاهرة التي تجعل من بعض الأفراد من ديانة معيّنة، قابلين ومستعدّين للقتل والمقاتلة ‏والكراهية والاضطهاد، دون غيرهم من أتباع الديانة ذاتها والذين يقاسمونهم الذاكرة ذاتها، والثقافة ‏ذاتها، وشروط العيش العامّة ذاتها، تحثُّنا على التركيز على الاستراتيجية التعبوية التحريضية، التي ‏تستهدف الكائن العادي، وتحوّله إلى كائن آخر، أقرب إلى كائن يُجرجر عقدة الاضطهاد، فيتحوّل ‏منها إلى الشعور بالعظمة وجنونها. فما الذي يجمع المتديّن المتعصّب والعدواني بالبارانوي؟ وما ‏وهي أهمّ السمات المشتركة؟

‏- السمات المشتركة:‏

مثله مثل البارانوي، يملك المتديّن المتعصّب أفكارًا تسلّطية، وينغلق على أفكاره ومبادئه ‏ومعتقداته التي لا تقوم في الأصل على أيّ أدلة حقيقية، أو خبرة واقعية، ولا يشكّ لحظةً بها، ولا ‏يراجعها، ولا ينقدها، أو يحاول منطقتها على الأقلّ، وهو مستعدٌّ لقلب الحقائق كي تلائم مشاعره ‏وتصوّراته، وهو، مثله مثل البارانوي، لا يقبل بمن يقوم بهذا العمل، ويبتعد عن أية حلقة أو جماعة ‏تحاول أن تقوم بذلك، ويُفضّل الاستقرار في مجموعة تُوافقه رؤيتَه وطريقةَ حياته.‏

ويشعر المتعصّب المبرمج، مثله مثل البارانويا، بالتفرُّد والتميُّز والتفوُّق، وسرعان ما تتحوّل ‏هذه المشاعر المتعالية على السمات الإنسانية المشتركة، إلى شعور يتدرّج من الغيرة والحسد ‏والإحساس بالدونية، أو على العكس بالفوقية، إلى الكراهية الصريحة، للآخر المختلف، نافيًا عن ‏الآخر أدنى قيمة إنسانية أو أخلاقية، ما يجعله يُخطّط للتخلُّص من هذا الآخر أو تطويعه عند أول ‏منعطف.‏

قد يصاب المتديّن المتعصّب والمدمَّر، بجنون العظمة لأبعاد الحقيقة والفكرة المؤلمة عن ‏الأنا، أي للتخلُّص من عقدة الدونية التي يعاني منها أساسًا، فيصف نفسه بما يخالف الواقع، ويدّعي ‏امتلاكَ قابليات استثنائية، وقدرات جبّارة وخارقة، وقيم ومثل لا تضاهى، وأهداف نبيلة لا مثيل لها.‏

وهو يتّصف بعدم القدرة على التعاطف والحبّ بمعناه الواسع، وإذا وجد الحب فهو نرجسيّ ‏ومركّز حول الذات، وعلى العكس من ذلك، هو مستعدٌّ لإسقاط فشله على الآخرين ولومهم وتأثيمهم.‏

ومثله مثل البارانويا الاعتيادي، لدى المتعصّب دينيًّا شعور قويّ بالاضطهاد ‏Persecution، يجعله في حالة قلق وكآبة ‏Mélancolie‏ دائمة، وقابلاً لتفجير عدوانيته في أية ‏لحظة، ويكون هذا المتعصّب، عمومًا، لصيقًا بجماعة دينية متطرّفة تحمل خطابًا بكائيًّا رثائيًّا، هدفه ‏التذكير بالنكبات والمذابح والفتن والملاحم، والاحتلالات والغزوات الأجنبية والتهديدات الشتى، ‏والبكاء على الأمجاد وضياع القيم والأخلاق الموزونة، وتنذر نفسها لإعلان صوت الحق والحقيقة، ‏وإقامة ما تسمّيه العدالة على الأرض.‏

وهذه البرمجة الممنهجة، بعناصرها المختلفة واشتباكها بالأغراض السياسية، كفيلة بتحويل ‏المتديّن البريء والمسالم إلى شخصية مصابة بالبارانويا، بينما ينتمي المحرّضون والمجيّشون ‏وغاسلو أدمغة البشر إلى دنيا أخرى.‏

وفيما يتحوّل المتديّن البريء والمسالم وصاحب المبادئ النبيلة، تحت ضغط التعبئة والتلقين، ‏إلى شخصية منغلقة وعدوانية، يفصح أولياء أموره ورؤساؤه عن عقل براغماتي، عملي، وعن دهاء ‏وحيلة، وخبث وقدرة على التلاعب بالطبيعة الإنسانية لا حدود لها.‏

‏- الهُوية الدينيّة كموضوع متفجّر:‏

ليس المتعصب دينيًّا الوحيد المهدّد بالإصابة ببعض أعراض البارانويا أو كلّها، فأصحاب ‏العقائد الجامدة أكانت قومية، أو عرقية، أو سياسية، هم أيضًا معرّضون لهذا الداء النفسي، والتاريخ ‏حافل بالأمثلة والشواهد، ولكنّ الهوية الدينية، التي تُموضع الإنسان في الوجود، وتُحدّد علاقته مع ‏المطلق والمجهول والمقدّس، والتي تعده بالتوازن والسعادة والاكتمال، هي من حيث جوهرها ‏بالذات، ظاهرة قابلة للتورُّم والانفجار والتحوُّل إلى طاقة سلبية مدمِّرة، لاغية للآخر، إن توفّرت ‏شروط استغلالها وتضخيمها.‏

فالهوية الدينية هي من جنس الهويات التي تتغلغل في أغوار الذات البشرية، محدِّدةً صورة ‏الإنسان عن ذاته وعن الآخرين، فالدين يُقدّم أجوبة نهائية عن كل الأسئلة التي تثير القلق لدى ‏الإنسان، ويؤسّس للشعور بالأمان، وبالحماية الجماعاتية، وبالإحساس بالانتماء.‏

فما بالك إذا تعرّض حاملو هذه الهوية لبرمجة فكرية (ما يسمى غسل دماغ) وجدانية ‏ممنهجة، تُغذّي مشاعر الاضطهاد والمظلومية، الآيلة إلى الحقد والرغبة في الانتقام، علاوةً عن ‏مشاعر العظمة والتفوُّق والاختلاف.‏

إذ إنّ التعصُّب الهُوياتي يجعل كلّ هوية لصيقة بجماعة، عرضةً لحشد لا حصرَ له من الكلام ‏الأيديولوجي والتعامل معه على أنّه حقيقة مطلقة بامتياز، فحتى لو كانت هذه الهويات متوارية تحت ‏التراب، فإنّ البشر، لحاجات عملية مصلحية، قادرون على بعثها وإنمائها لتغدو وحشًا هوياتيًّا يطغى ‏على سائر مكونات الهوية الفردية، وعلى الهوية الوطنية بشموليتها في آن.‏

لقد أردنا في هذه المقالة تسليط الضوء على بنية المتديّن النفسية العدوانية التي تتخطى ‏بأشواط تأثُّره بالنصوص الصامتة، وتجعله فريسةَ ماكينة تعبوية تتلاعب بمشاعره ووجدانه وتضعه ‏في خانة المظلوم، والمضطهد، والمتفوّق أخلاقيًّا وتراثياً في آن، وتحرّضه وتهيّؤه للثورة على الثورة ‏على المعتدين والمضطهدين.‏

إذا استأنسنا بنظريات علم النفس، فإنّ المتديّن السفّاك والفتّاك والغدّار، ليس شخصًا سويًّا، ‏عاديًّا، والذي يجعله كذلك ليس الدين بحدّ ذاته، لأنّه يتفرّد بعنفه، ويفترق به عن سائر المتدينين من ‏أتباع الديانة ذاتها، وليس ما يجعله على هذه الصورة، سوى عمليات التصنيع والتدجين والتضليل ‏الممنهجة التي يتعرّض لها.‏

ولكن ورغم ثقل الاستراتيجيات المصمّمة لهذه الغاية، لم تكن الهوية الدينية لتتعملق وتتضخّم ‏وتتورّم، وتتشوّه، لولا انحسار سائر مكوّنات الهوية الفردية، وعلى رأسها الهوية الوطنية، القائمة ‏على الاستثمار في مفهوم المواطنة وموجباته، ومترتباته.‏

إنّ هذه الهوية الإشكالية، التي تتحول تحت تأثير الضخّ الأيديولوجي والتحريضي إلى آلة ‏لتوليد الكراهية والعنف وتبريرهما، وتُحوّل شخصية المتديّن المتعصّب الذي لا يعترف إلا بحقيقة ‏معتقداته وتمثّلاته، ويدافع عنها بأيّ ثمة، إلى شخصية بارانواي ‏Paranoïaque، لم تكن لتتشكّل، ‏وتزدهر، لولا غياب الهويات الأخرى، التي تصنع كينونة الإنسان ووجوده الاجتماعي، ومنها الهوية ‏الشخصية الذاتية المتفرّدة، والهوية المهنية، وصولاً إلى الهوية السياسية الوطنية، الحقوقية ‏والقانونية، ولولا غياب هذه الهويات وغياب الوعي بها، لما انزلق المنزلقون نحو الهويات الكليانية، ‏الجارفة، والقاتلة.‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي


.. كاتدرائية واشنطن تكرم عمال الإغاثة السبعة القتلى من منظمة ال




.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر


.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي




.. إسرائيل تقرر إدخال 70 ألف عامل فلسطيني عبر مرحلتين بعد عيد ا