الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جورج طرابيشي .. رائد مشروع النقد التراثي ج -2

بشار غدير

2021 / 1 / 10
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في مقدمة كتابه هرطقات عن العلمانية العلمانية كإشكالية إسلامية إسلامية يعتذر جورج طرابيشي لقارئه عن إفراطه في استخدام ضمير الأنا في مقالاته المجموعة في الكتاب، موحيا بذلك بنزوع شخصي ملح لدى الكاتب نحو مزيد من التمرد على مقولات التراث والجماعة ، مبتدئا مقدمته بمقولة لشكسبير " ليس الهرطوقي من يحترق في النار ، بل الهرطوقي من يشعل المحرقة " ، ومختتما إياها انه أراد في دخيلة نفسه أن يثبت بطلان القانون القائل بأن المرء يرتد لا محالة إلى " الصراط المستقيم" طردا مع تقدمه في العمر واقتراب لحظة الغيب الكبير . ولا غرابة في تسمية هذه الكتابات المتأخرة بالهرطقات ، فإضافة لكونها من أكثر نصوص هذا المفكر العملاق وضوحا و"صدامية" مع ما هو مألوف ومعتبر كثوابت في الثقافة العربية فإن أهميتها الاستثنائية تأتي كونها من آخر ما كتبه هذا المفكر العملاق مقدما فيها خلاصاته النقدية والفكرية .
العلمانية كجهادية دنيوية :
في تقديمه لمفهوم العلمانية يضيء المفكر طرابيشي على الجوانب الأكثر أهمية والأكثر تجاهلا في نفس الوقت من قبل النخب العربية لهذا المفهوم ، فوفق طرابيشي فإن العلمانية بالإضافة لكونها آلية قانونية للفصل بين الدين والدولة فإنها عنصر أساسي في جدلية التقدم والتخلف ، أي أنها تخرج من النطاق المؤسساتي الى الاطار الاجتماعي والعقلي كلازمة مرافقة للحداثة .
وفي نفس التوجه يؤسس طرابيشي لمفهوم الحداثة ( المعلمنة ) في تعريف يقتبسه عن المؤرخ الفرنسي مارسيل غوشيه يعتبر فيه بأن الحداثة والعلمنة : هي الخروج من الدين . أي أنها القطيعة مع النظام المعرفي الديني للقرون الوسطى الأوربية ، وبالرجوع إلى مفردات المعجم العربي الاسلامي فهي "جهاد في سبيل الدنيا كخيار بديل عن الجهاد في سبيل الاخرة".
وفي إبرازه لمفهوم العلمانية بهذه الصورة الأشمل والأكثر جذرية يرصد طرابيشي تلبس هذه العلمانية في صور متعددة في التاريخ على شكل علمنة دينية وسياسية وطبقية والأهم من ذلك على شكل علمنة علمية وجنسية .
العلمنة العلمية وجرح النرجسية الإنسانية :
لفهم مدى تأثير سيرورة العلمنة العلمية على مسار تطور الوعي البشري ونمط التفكير الأوربي بالتحديد يكفينا تتبع الأثر الخطير للثورة الكوبرنيكية في القرن السادس عشر ومن بعدها الثورة الداروينية الأخطر في القرن التاسع عشر . فقد سددت الثورة الأولى ضربة مؤلمة لموقع الأرض في النظام الكوني بتهميشها لمركزيتها الكونية فغدت كوكبا (كتلة زرقاء باهتة) يدور بجبرية متكررة حول مركزه الشمسي ، مما رتب على ذلك وضعا وجوديا جديدا مغايرا بالكلية لما قدمته الصورة الدينية للكون ولمركزية الأرض ودور الإنسان فيها .
أتى الجرح النرجسي الثاني على يد النظرية الداروينية التي أجهزت بالكامل على قصة الخلق التوراتية – الإسلامية حيث وجد الإنسان نفسه كائنا بيولوجيا ينحدر من سلالة حيوانية بعيدا عن أساطير آدم وحواء وشجرة التفاح والأصل السماوي .
وعلى الرغم من هذه الجروح القاسية لنرجسية البشر فقد استطاعت هذه الكشوفات أن تضع الانسان أمام حقيقة وجوده متحررا من أساطير الاسلاف متصالحا مع مرور الزمن ونضج الوعي مع موقعه الجديد ضمن سياق علماني يحترم الحقيقة العلمية مهما كانت صورها وأشكالها ونتائجها .
العلمنة الجنسية والخروج من الدين :
في مجال الممارسة الجنسية فيمكننا الحديث عن الخروج على الدين وليسه منه فقط ، " فالأصل في الجنس المعلمن هو الإباحة ، والإباحة تلغي الخطيئة ومفهومها" وهذه "العلمانية الجنسية هي من جعلت من الانسان سيد جسده كما جعلته العلمانية العلمية والفلسفية سيد عقله " وفقا لطرابيشي ، و باستثناء ممارسة الجنس مع القاصرين والاغتصاب لم يعد مع تقدم مسيرة العلمنة الجنسية أي شكل من أشكال الممارسة الأخرى معاقبا عليها في القانون وقد قدمت الكشوف التحليلية النفسية لفرويد الأرضية المناسبة لتحرير الحياة الجنسية البشرية من الجريمة والخطيئة معا .
العلمانية كإشكالية إسلامية إسلامية :
فيما يتفق خصوم العلمانية في المنطقة العربية على اعتبار العلمانية نموذجا لإشكالية مستوردة ، فهي إفراز غربي وضع حدا لصراع لاهوتي وسياسي وصراع طائفي بروتستانتي كاثوليكي في الغرب المسيحي ، وبالتالي فهي إشكالية تخص الكنيسة ولا كنيسة في الإسلام كما يقول الجابري وهي إشكالية منقولة من نصارى الشام أصحاب الولاء الغربي كما يعتقد حسن حنفي ، فإن طرابيشي يقدم الطرح المعاكس من موقعه كعلماني لاديني وليس كمسيحي من خلال رصده للكثير من الشواهد التاريخية من التاريخ الاسلامي لصراعات طائفية دموية سبقت " التدخل الغربي" بقرون بين الطوائف والملل الاسلامية المختلفة ولفتاوى تكفيرية متبادلة بين الأقليات المسلمة والطائفة السنية الكبرى ، مما يؤكد انطباق نفس المبررات التاريخية للمطالبة بعلمنة عربية تضع حدا لتلك الصراعات باعتبار أن العلمانية تشكل في وجه من وجوهها آلية قانونية تضمن للجميع– وللأقليات الإسلامية قبل المسيحية بالخصوص - وضعا قانونيا متساويا للجميع أمام القانون .
وفي نفس السياق يفترض طرابيشي بأن العلمانية نفسها على الصعيد العربي والإسلامي بحاجة لإعادة اكتشاف وتطوير فالمسألة ليست مسألة "تحييد ديني للدولة" بل "تحييد طائفي للدين نفسه" وبالتالي فإن المطلوب ليس علمنة الدولة وحدها بل علمنة المجتمع نفسه .
نهاية لهذا التلخيص المقتضب لبعض مما قدمه هذا المفكر الموسوعي في هرطقاته الأخيرة فيبدو من المهم الاستشهاد بما كتبه في نص مستقل قبل رحيله عن هذا العالم ممارسا فيه نقده الذاتي ورفعته المعرفية بأصدق صورها ، عارضا للمحطات الست في حياته والتي أسست لانعطافات فكرية حاسمة كانت سببا في تحديد الاتجاه الذي كتب فيه وفي تحرره الذاتي من ربقة الايديولوجيا والجمود الفكري .
واحدة من هذه المحطات ذات الأهمية الاستثنائية لارتباطها بواقع مجتمعاتنا في الوقت الحاضر كما في الماضي ، كانت كما يعنونها المفكر طرابيشي " جريمة شرف" عندما دخل السجن كمعارض سياسي مع مجموعة من الرفاق البعثيين المسيحيين ، وكعادة الرفاق التقدميين فقد انتهت مآلات نقاشاتهم إلى قضية شيقة وهي شرف المرأة حيث اتفق الرفاق بوجوب قتل المرأة اذا قامت بعلاقة جنسية "غير مشروعة" سواء كانت مسيحية أو مسلمة ، والأفضل أن تذبح ذبحا من قبل أخيها استردادا للشرف المهان . ومن كلمة إلى كلمة كان رد طرابيشي والقول له "أنـا أرفض مبدأ جريمة الشرف من أساسه، وهذا موقف لا أستطيع احتماله إطلاقا من قبل إنسان يزعم نفسه تقدميا أو اشتراكيا أو بعثيا" . وبطبيعة الحال فقد كان رد الرفاق التقدميين بأن طرابيشي شخص بلا شرف ولا يستأهل أن يكون عربيا ولا بعثيا .
هذه المحطة أعطت طرابيشي درسا جديدا عن البنية الرجعية للعقلية العربية إسلامية كانت أم مسيحية وأن السبيل الوحيد لأجل تغيير هذه العقلية هو نقدها بدون مواربة بواسطة الكلمة والرأي الحر مختتما قناعته الحاسمة هذه بفكرة مميزة ومفصلية وهي أن الموقف من المرأة في مجتمعاتنا يحدد الموقف من العالم بأسره.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استقالة أول موظفة يهودية من إدارة بايدن -بسبب سياسة واشنطن م


.. المفكر د. يوسف زيدان: اجتماعاتنا في -تكوين- علنية وبيتم تصوي




.. المفكر د. يوسف زيدان: اتكلمنا عن أشكال التدين المغلوط .. وه


.. دار الإفتاء في طرابلس تدعو ل-قتال- القوات الروسية في البلاد




.. -حافظ البهرة على سرية طقوسهم الدينية عبر العصور بعد اضطهاد ا