الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبثية الإنتحار

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2021 / 1 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
٤ - العدم والإنتحار

واذا ألقينا نظرة على الدراسات الاجتماعية ودراسات علم النفس المتخصصة في هذا المجال - الموت الإرادي، نجد أغلبها يعتبر الانتحار عملا ذا دوافع فردية خاصة، ويجب دراستها كنماذج فريدة رغم امكانية وجود عوامل مشتركة بين بعض الحالات، ويعتبرون أن الانتحار الجماعي مجرد خرافة لا يمكن أن تشكل ظاهرة اجتماعية باعتبار الحالات القليلة والنادرة المعروفة. غير أن هذا لا يمنع وجود انتحارات عديدة في مكان وزمان واحد، فنحن نعرف اليوم أن هناك ظروفا اجتماعية واقتصادية ونفسية خاصة لكل حالة فردية يمكن أن تساعد على تفسير الإقدام على هذا العمل، وعلى انتشاره أو انحساره في فترة معينة، أو في مجتمع، أو طبقة اجتماعية أكثر من غيرها. الحالة التي يمكن ذكرها على سبيل المثال، هي انتحار أكثر من 30 موظفا وعاملا سنة 2009 في شركة الكهرباء الفرنسية، وذلك في فترة قصيرة، نتيجة ظروف العمل المرهقة، والضغط النفسي، وجو التنافس الخانق الذي فرضته الادارة على موظفي وعمال الشركة لرفع الانتاج، وزيادة ساعات العمل دون زيادة الرواتب، وذلك نتيجة لتطور هذه الشركة من مؤسسة حكومية للخدمات الكهربائية، الى شركة شبه خاصة هدفها الأساسي الربح السريع والمباشر، وبأقل ما يمكن من العمال. كما يمكن ذكر الاحصائيات العديدة التي تعالج هذه الظاهرة بصورة عامة وشمولية، والتي تؤكد أن عدد حالات الانتحار في البلدان الشمالية الباردة يفوق عدد الحلات في بقية البلدان، وأن الرجال ينتحرون أكثر من النساء، أو أن السجناء ينتحرون في فترة الصيف أكثر من الشتاء ... الخ. فالموت الإرادي اذا ظاهرة اجتماعية لها أسبابها ودوافعها، ويمكن تحليلها بدقة على المستوى العام وعلى المستوى الفردي لكل حالة. وهناك بالضرورة بعض الحالات التي تكون دوافعها فكرية أو فلسفية، غير أنها خاصة ونادرة وتنحصر في الغالب في العالم الثقافي المكون من الشعراء والفنانين، وحتى في هذه الحالات يمكن تتبع المسار النفسي والاجتماعي لها، وايجاد الخيط الدقيق الذي قد يربط بين هذه الحالات التي ادت الى اتخاد مثل هذل القرار. فالشاعر الفرنسي بول سيلان Paul Celan الذي انتحر في باريس قافزا في نهر السين سنة 1970، هو شاعر مهاجر من أصل روماني، عانى من الفقر والاضطهاد والتغريب مما انتج العديد من المشاكل النفسية والاجتماعية، مثله مثل غيراسيم لوكا Ghérasim Luca الذي هاجر بدوره الى باريس سنة 1952، وعاش طوال حياته كمهاجر بدون أوراق حتى لحظة انتحاره في نهر السين أيضا سنة 1994، وهو يعتبر من دعائم الشعر الصوتي المعاصر. ويمكن ان توجد بعض الحالات التي تندرج تحت ما يمكن تسميته بالانتحار الفلسفي، أي الناتج مباشرة عن قناعة متينة بعدم جدوى الحياة وتفاهتها، غير أن الأمثلة قليلة ونادرة، لأن أغلب الذين فكروا في الإنتحار بطريقة عقلية أو فلسفية، لم يواصلوا رحلتهم ومغامرتهم الفكرية حتى نتائجها القصوى. فشوبنهاور، ورغم تشاؤمه المبالغ فيه، فانه على ما يبدو لم يفكر في القضاء على حياته لحظة واحدة، وكذلك الأمر مع ألبير كامو الذي اعتبر الانتحار القضية الأولى في الفلسفة، مات بحادث سيارة مثل آلاف المواطنين غيره. اما الشاعر الروماني الآخر، إميل سيوران Emil Cioran، والذي كانت حياته كلها مجرد مشروع عبثي فاجع سيوصله حتما إلى مرحلة الموت الإرادي، هو الذي يمكن اعتباره الشاعر والمفكر العدمي الأول والذي كان يردد "حين أخرج إلى الشارع لا تخطر ببالي سوى فكرة واحدة : فكرة الإبادة". إلا أنه في نهاية الأمر مات بمرض آلزهايمر دون أن يتمكن من إيصال مشروعه إلى نهايته. ولا شك أن سيوران كان غاضبا على العالم وعلى البشر، وكان يعتقد مثل خياط بيكيت، بأن العالم شئ ردئ الصنعة، وكان سخطه على العالم لا يضاهيه سوى ثقته بنفسه "لست أنا من لا يصلح للعالم... بل هو العالم الذي لا يصلح لي". أما المفكر Paul Nizan بول نيزان، وهو مثقف من نوع آخر، والذي اعتبر الأمر من زاوية ثانية "حياتي فارغة ولا تستحق الموت"، حيت يأخذ الموت صورة إيجابية ولا يستحقه إلا من عاش حياة ممتلئة بالفعل، وحيث أن امتلاء أو فراغ هذه الحياة يعود في نهاية الأمر إلى الفرد ذاته، وإلى تحمله لمسؤولياته الإجتماعية والسياسية. هذه المواجهة ـ المسرحية ـ بين الإنسان والعالم ومن منهما يستحق الآخر، ظهرت في الغرب بوضوح وحدّة في بداية القرن الماضي، وبالذات بعد الحرب الأولى ثم الثانية، حيث واجه الإنسان الغربي شراستة وضراوته، ورأى قدرته على التدمير الذاتي وتدمير الآخرين. ومن تحت الأنقاض والخرائب، كان طبيعيا أن تنمو وتترعرع فكرة عبثية الحياة وعدم جدوى الإنسان، وأن العالم لا معنى له. وانعكست هذه الرؤية على الإنتاج الأدبي والفني عموما، وبطريقة اكثر ثراء واكثر قوة ونضوجا في الإنتاج المسرحي، وبالذات مسرح المهاجرين الذين استعملوا اللغة الفرنسية في الكتابة مثل يونيسكو وبيكيت وأداموف وغيرهم. وهذا التساؤل عما إذا كانت الحياة تستحق أن تعاش، رغم قدمه، ورغم اللامعنى الذى يحيط به، ورغم احتوائه على نفس التناقضات والمفارقات الأصلية القديمة، ورغم كونه سؤالا عبثيا في ذاته، فإن مقولة العبثية ما تزال تلبس نوعا من الجدية الفلسفية المزيفة. فالحياة لا يمكن أن تكون موضوعا للتساؤل، فنحن لا نقرر أن ندخل الحياة ذات يوم أو في لحظة ما بقرار إرادي بعد التفكير والتدبير. لا ندخل الحياة كما ندخل بيتا أو مكتبا أو محلا تجاريا.. ندفع الباب، ونقف على العتبة، ونتردد : ندخل أو لا ندخل. الموقف الأصلي والأساسي هو إننا نتواجد داخل الزنزانة أولا وقبل كل شئ، نحن نستيقظ لنجد أنفسنا أحياء ولا امكانية ولا اختيار للدخول، ولاحقا فقط هناك إحتمال لإمكانية الخروج بطرق متعددة. الحياة ليست موضوعا فلسفيا، ولكنها الحقل الذي تتواجد فيه الفلسفة وإمكانياتها المختلفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعقيب
على سالم ( 2021 / 1 / 14 - 17:39 )
هذا اكيد مقال جيد يستدعى التفكير والتأمل

اخر الافلام

.. ألعاب باريس 2024: اليونان تسلم الشعلة الأولمبية للمنظمين الف


.. جهود مصرية للتوصل لاتفاق بشأن الهدنة في غزة | #غرفة_الأخبار




.. نتنياهو غاضب.. ثورة ضد إسرائيل تجتاح الجامعات الاميركية | #ا


.. إسرائيل تجهّز قواتها لاجتياح لبنان.. هل حصلت على ضوء أخضر أم




.. مسيرات روسيا تحرق الدبابات الأميركية في أوكرانيا.. وبوتين يس