الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
ذنوب الذين كفروا وإهلاكهم
سعد كموني
كاتب وباحث
(Saad Kammouni)
2021 / 1 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قراءة تأويلية في سورة الأنفال
سعد كمّوني
﴿وَلَوۡ تَرَىٰۤ إِذۡ یَتَوَفَّى ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَضۡرِبُونَ وُجُوهَهُمۡ وَأَدۡبَـٰرَهُمۡ وَذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلۡحَرِیقِ ٥٠ ذَ لِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ أَیۡدِیكُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَیۡسَ بِظَلَّـٰمࣲ لِّلۡعَبِیدِ ٥١ كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَفَرُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِیࣱّ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ ٥٢ ذَ لِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمۡ یَكُ مُغَیِّرࣰا نِّعۡمَةً أَنۡعَمَهَا عَلَىٰ قَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ ٥٣ كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَـٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَغۡرَقۡنَاۤ ءَالَ فِرۡعَوۡنَۚ وَكُلࣱّ كَانُوا۟ ظَـٰلِمِینَ ٥٤﴾ الأنفال ٥٠٥٤.
1. تمهيد
طالما أن علاقتنا بالكون تحددها معرفتنا به كما يبدو لا كما هو، وبخاصة أنّه يبدو على نحو ما تبَعاً لمصالحنا معه؛ فهل يمكننا أن نتجاوز الكونَ الذي كان يبدو؟ إلى كونٍ آخر مختلفِ البُدوّ؟ والحال أنّ معرفتنا به كما هو، تُعدّل معرفتنا به كما يبدو؛ فنفهم علاقة الاسم بالمسمّى، وعلاقةَ الكلمة بمدلولها اعتماداً على وعينا بأنّ التغيّر هو السمةُ الأبرز في مسار الموجود، ونفهم أيضاً أن علاقتنا بالكون ينبغي أن تكون مرنة ومتحركة قابلة للتغيّر مع تغيّر معلوماتنا..... وأعرف أن دون ذلك التعديل مصاعبَ شتّى، منها ما هو منهجيّ يتعلّقُ بآلية التفكير، ومنها ما هو اجتماعيّ مردُّه إلى تماسك المجتمع حول بنيةٍ معرفيّة موروثة كما لو أنها مقدّسة، فتعيق امتثالَ السلوك التفكيريّ بإزاء المتغيّرات المعرفيّة. وهذا بلا شك يجعل الكتابةَ في أيّ موضوع في النصّ المقدّس مشروعاً نضالياً بعيد المدى.
أعتقد أن البشريّةَ تتقدّم في تحسين أدائها، و تنظيم حياتها ومواقفها المختلفة، تأسيساً على هذا التجاوز؛ فالكون الذي يسكن اللغة هو كونٌ محايد في الأصل، غير أنّ اللغة بوصفها نتاجاً إنسانياً تنطوي على رؤية الإنسان التي نسجتها مصالحُه مع الكون، تُمكّنُ من الفهم استناداً إلى مكوِّناتها في سياقاتها الخاصة. وقد تتغيرُ مصالح الإنسان وتبقى الكلمات صرفياً على حالها، ولكن أيجوز أن تبقى دلالاتها على حالها؟
وهنا تأتي عمليّة التجاوز بهدف إنشاء فهمٍ آخر أو فهومٍ أخرى، ثورةً حقيقيّةً تسهم في إنجازها المعرفةُ المتجدّدة، التي ينبغي أن تؤثر في السلوك البشريّ لجهة تعديله بما يتناسب مع مصالح الإنسان المستجدّة.
تقدّم الآيات القرآنيّةُ السابقة، رسالة إلى المتلقين لتغيير سلوكهم تأسيساً على المعرفةِ الجديدة التي وصلتهم. ونعاين هذه الآيات الكريمات معاينةً خاصّة، تتوسّل التحليل اللغوي بهدف الوقوف على مرجعيّة الإهلاك الإلهي بوصفه سنّةً ثابتة في علاقات الإنسان في وجوده الاجتماعي والكونيّ.
2. الذين كفروا في مشهد الذلّة
تطرح " لو" الشرطيّة مشروعَ حراك ذهنيّ بإزاء مشهدٍ غير مشهود، وكون فعلها "ترى"؛ سيندفع المِخيالُ لإنجاز المشهدِ من العناصر المرئيّة التي يحيل عليها الفعل " ترى "، ويتمايزُ المتخيِّلون فيما بينهم كل بحسب حاجته أو قدرته على التخيّل، فيختلف المشهد في الأذهان باختلاف متلقّي الآية، فـ" لو ترى" توحي بأنك لن ترى، وهي هنا ليست لإظهار قصورك عن الرؤية، بل لإظهار غرابة المشهد الذي يفوق إمكانات الرؤية المعهودة، فهي للتهويل والتعظيم، ويقدّر النحويون والمفسرون جواباً يؤيّد ذلك، ولا يبدو فيه التمحّل لكونه لا يفارق أساليب القول في لغة العرب : " لو ترى لرأيت عجباً" .
"الذين كفروا" غير الكافرين، هؤلاء فعلوا الكفر، أحدثوه، ومظهر فعل الكفر بوصفه حجاباً مفتعلاً أحدثه مَن فعلَه بمواجهةِ عرْض معرفيّ، سيكون تصدياً عملياً لذلك العرض، قد يكون حرباً على المعرفة، أو أذىً لعارضيها. ويتجلى ذلك بمحاولات حثيثةٍ من شأنها إعاقة عرضها أولاً، ومقتضياتها تاليا.
وهؤلاء "الذين كفروا" إذْ تُعرضُ عليهم المعرفة، فذاك علامةٌ على أهليتهم لها، غير أنهم كفروا؛ وهذا له أهميةٌ كبيرة في الدلالة على رتبتهم الاجتماعية، فهم في موقع اجتماعي يمكّنهم من الرفض والقبول، ويكون لرفضهم وقبولهم أثر بالغٌ في المجتمع. وأنهم كفروا في الوقت الذي لا يُتوقّعُ فيه هذا الفعل منهم؛ فذاك كافٍ لإرباك العرض المعرفي الجديد، وإذْ يتصدّون فسيكون معهم رهطٌ من المناصرين التابعين الذين يرون فيهم المثل الأعلى، الأمر الذي من شأنه تحفيز عارضي المعرفة الجديدة، لتعديل الأداء وحماية الذات في مواجهة ما يؤدّي إليه فعلُ الكفر.
"الذين كفروا" يقع عليهم الفعل "يتوفّى" المسند إلى "الملائكة"ــــــ هذا احتمال ــــــ؛ فالتوفّي هنا إتمام العمر، وكما نعلم ليس الملائكة من ينهي العمرَ، بل ينهيه من بيده ملكوت كل شيء، أمّا الملائكة فهم أدوات معنوية، بمثابة علامات مرسلةٍ كنايةً عن بلوغ العمر تمامَه. والمشهد المكرور على مرّ الزمن، يشهدُ بأن كل بداية تفضي إلى نهاية على الأقلّ على نحوٍ ما. وعندما يستوفي الكائن ذاك المدى الزمني تظهر علامات الاستيفاء، فتكون هذه العلامات رسائل بدنية أو نفسية تدلّ على الحينونة التي لا مفرّ منها.
وتقديمُ المفعول به على المسند إليه "الملائكة" يأتي توافقاً مع مدار الكلام ، فالذين كفروا هم المعنيون في الخطاب، وليس الملائكة، فأسلوبُ التأثير بالشرط يتوخى أن ينصرفَ ذهنُ المتلقي إذْ يُستدعى بـ" لو ترى"، نحوَ تخيُّلِ مشهد الذلِّ والهوان الذي يحيق بـ"الذين كفروا"، ما اقتضى تقديمهم على الملائكة في حال يضربون وجوهَهم وأدبارَهم كنايةً عن المذلّة والمهانة التي يلحقونها بهم، وليس المشهدُ حركيّاً، بل هو كنائيّ وقد اعتمدَ المذلّةَ والمهانةَ التي يعرفها المتلقّون، فمشهدُ الوجيه مهاناً يفهمه المتلقي أكثر عندما تدفعه الكناية إلى معرفته من خلال معرفته دلالةَ الضرب على الجسد.
ويعطف النصّ فعلاً آخر على الفعل "يضربون" المسند إلى الملائكة في حالهم بإزاء "الذين كفروا"، ومن شأن هذا الفعل المعطوف أن يسهم في إكمال بناء المشهد المهين، ويقدَّر هذا الفعل بـ "يقولون" ، فجمع "القول" إلى "الضرب" هو جمع الشعور بالخزي إلى الإحساس بالألم ما يجعل مشهد الإهانة مكتملاً، فـ"الضرب" أذى جسديّ، يتحفّزُ المضروب من جرّائه للفرار أو الردّ، أما "القول" فهو أذى نفسيّ يُقعدُه منقبضاً منطوياً على خزيه وذلِّه. وأنْ يكون مقول القول "ذوقوا عذاب الحريق" فذاك ليكون الأمرُ"ذوقوا" إمعاناً بالهزيمة الداخليّة فيكون "الذين كفروا" هم فاعلو الذوق الواقع على "عذاب الحريق" بما يكتنز من دلالة؛ إذْ يجعل العذاب مأكولاً أو مشروباً، ويكون "الذين كفروا " ــــــ أيضاً ــــــ هم الذين يشعرون بأثر فعل التسخير"ذوقوا".
3. العرب وعذاب الحريق
وأنّ التذوق في أصل اللغة يدل على تناول القليل القليل من الطعام أو الشراب لاختباره؛ فذاك يعني أن ضرب الأبدان بما يحيل عليه من مهانة، ما هو إلا القليل القليل علامةً على اختبار "عذاب الحريق"، والعرب تعرف تباريح العذاب من الحريق، و" كان عمرو بن هند يلقب بالمحرّق، لانه حرق مئة من بنى تميم: تسعة وتسعون من بنى دارم، وواحد من البراجم. ومُحرّق أيضا: لقب الحارث بن عمرو ملك الشام من آل جفنة، وإنما سمّي بذلك لانه أول من حرق العرب في ديارهم، فهم يدعون آل محرّق. وأما قول أسود بن يعفر:
ماذا أؤمل بعد آل محرّق تركوا منازلهم وبعد إياد
فإنما عنى به امرأ القيس بن عمرو بن عدي اللخمى، لانه أيضا يدعى محرّقا" ، كما أنهم يعرفون ما حلّ بنصارى نجران من تحريق "سار إليهم ذو نواس بجنوده فجمعهم ثم دعاهم إلى اليهودية وخيّرهم بينها وبين القتل، فاختاروا القتل، فخدّ لهم الأخدود، فحرق بالنار وقتل بالسيف حتى قتل قريباً من عشرين ألفاً" ، فعندما يخاطب النص "الذين كفروا" مبيّناً ما تفضي إليه أعمالُهم، إنما هو بذلك يُنزل مصيرهم منزلةً يستطيعون معرفةَ فظاعتها من خلال معرفتهم العذاب الذي يلاقيه المحرَّقون.
4. ناموس الوجود والظلم
هذا الناموس الذي جعله الله للعلاقة بين الإنسان ووجوده، إن صدّقتَ أَمِنت في وجودك، وإنْ كفرت به هلكت. فالنص لا يتوعد الذين كفروا، بل يبيّن المصير. فـ"الذين كفروا" لم يكفروا عن جهالة، بل أبوا الالتزام بما عُرض عليهم من الناموس، وتجندوا لتعويق مساره، وتسخيف دعاته، إذن؛ لم يكن الهلاك الذي يصيرون إليه إلا بما فعلوا.
﴿ذَ لِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ أَیۡدِیكُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَیۡسَ بِظَلَّـٰمࣲ لِّلۡعَبِیدِ﴾.
ذلك الضرب وذلك القول ليسا اعتباطيين فيكونَ ظلمٌ كبير؛ بل هما "بما قدّمت أيديكم"، فالباء هنا للتعليل، ولكن السؤالَ الناشئ هنا :" ما الذي يمكن أن تقدّمه يد مَن كفر"؟
إذا فهمنا أن الكفر هو الستر الذي يخفي أو يغطي ، فإنّ الفعل كفرَ فيه من الدلالة ما يزيد في ثقله النوعي، لكونه أداءً له فاعل، ما يجعل الستر سلوكاً مناقضاً، له انعكاساته المؤذية في الحياة الخاصة والعامة. فالذي كفر، لم يقتصر كفره على السلوك اللفظيّ، بل يتعداه إلى التصدّي الحركيّ.
إذن، ذلك بما قدّمت أيديكم، تعني أن هذا المآل كان مآلاً وفاق الناموس الذي ينظم علاقة الإنسان بالإنسان فرداً أو جمعاً، وعلاقة الإنسان بالكون، فأي تجاهلٍ للناموس يأخذُ بصاحبه في مهاوٍ سحيقة.
هل يمكننا أن نحسب ذلك ظلماً يلحق بـ"الذين كفروا"؟
أعتقد أنّ عدم إلحاق المهانة والعذاب بـ"الذين كفروا" هو الظلم الشديد، ذلك أنهم فعلوا التعطيل لما ينبغي أن يكون عن علم ودراية؛ ما يوحي بأن المرء يمكن أن يعرف المهاوي المهلِكة وما يؤدي إليها ـــــ سواء كان ذلك في المجتمع سلوكاً ذهنياً أو حركياً، أو مع الطبيعة ـــــ ولا يسلك بمواجهة تلك المهاوي ما تملي عليه المعرفة التي بلغها، وإن كان لا يعرف؛ يصمُّ مسامعه، ويدعو إلى عدم الامتثال للدعاة، تأسيساً على ظنّه الحسن بمكانته الرفيعة، ممعناً في التبخيس والتسخيف والأذى؛ وبعد هذا لا يلقى ما يُذلّه ويهينه ويهوي به في عذاب الإبادة!! ذلك وَ "أَنَّ ٱللَّهَ لَیۡسَ بِظَلَّـٰمࣲ لِّلۡعَبِیدِ".
إذن، ما قدّمت أيديهم كان سبباً وجيها للهلاك بهذه الصورة المهينة، و"أَنَّ ٱللَّهَ لَیۡسَ بِظَلَّـٰمࣲ لِّلۡعَبِیدِ" أيضاً هي حالٌ تؤكّد ضرورةَ ذلك المصير؛ فكونه ليس بظلّام تفيد أنّ ناموس الله لا يتغيّر لفلانٍ أو فلان، فصيغةُ المبالغة "ظلّام" هنا تدفعنا إلى السؤال في علّةِ اعتمادها مع أن بدائلها كثيرة، مثل "ظلوم" وهي قويّة الدلالة لكونها تكتسب قيمتها الملفوظية من كونها تدلّ على مادة الظلم، ولكن النص لا يريدها، بل اعتمد صيغةَ "فعّال" لأنه يريد نفي الظلم عن الله بوصفه مهنةً له، وما التأكيدُ بالباء إلا للتنصيص على النفي. وتوصيلُ أثر الصيغة إلى العبيد بواسطة اللام "للعبيد" لتقوية العامل"ظلام"، ما يعني أن الله سبحانه ليست مهنته الظلم.
والذي اقتضى إيراد هذا النفي ، إنما هو ضرورةُ إزالة الوهمِ بأنّ تلك المشاهد الغريبةَ التي كنّى بها عن الهلاك المهين للنخبة الاجتماعية والسياسيّة والثقافية، فيها شيءٌ من الظلم. فالكفر ليس مفردةً جوفاء يتلفظُ بها أي امرئ، إنما هو فعل له آثاره المدمرة، وهو ليس سلوكاً معانداً ومكابراً بلا عائداتٍ خطيرة يمكن أن يتلافى المرء مخاطره؛ بل هو عمىً إراديّ، يكون من العدل أن يمضي بمن يصرُّ عليه إلى المهالك المهينة والمذلة.
5. شواهد تاريحية
﴿كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَفَرُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِیࣱّ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ﴾
هل يعرف العرب فرعون والفراعنة؟ أم أنها معلومةٌ جديدة يلقي بها النصّ أمام العرب للتأثير عليهم كي يعرفوا سنن الحضارات ؟
عندما تستهلّ الآية بـ"كاف التشبيه" ، فذاك دلالةٌ على أن العرب يعرفون الفراعنة ودأبهم. فالمشابهة تعقد بين طرفين لإثبات صفةٍ في الطرف الأوّل هي في الطرفِ الثاني آكد وأشهر. ما يعني أن "دأب آل فرعون" آكد دلالةً في ذهن المتلقّي.
قبل أن نأتي بالتحديد على "دأب آل فرعون" لا بدّ من الإشارة إلى وجود علاقات اقتصادية ودينيّة واجتماعية ما بين مصر وشبه الجزيرة العربية " وتشتمل قائمة النقوش اللحيانية المعروفة ـــــــ حتى الآن ـــــــ على عددٍ من النصوص تشهد على أنّ ثمةَ علاقة بين الشعب اللحياني ومصر" وكذلك اشتملت قائمة النقوش الثمودية والنقوش الصفوية على ما يؤكد هذه العلاقات على كل المستويات. فهناك نقش يتحدث عن امرأة لحيانية تقدم قرابين لمعبودها "ذي غيبة" وكان اسمها " أ م ت أ س" الذي يعني أمَةَ إيزيس الإله المصري المعروف.
إذن، الفراعنة لم يكونوا غرباء على الذهن العربيّ في ذاك الزمن، وبخاصة أنّ الثقافة التوراتية غنيّة بتلك المعلومات، ولأهل التوراة موقعهم المعروف في المدينة وثقافتها، و أنّ مؤرخي العرب كانوا يعتقدون أنّ الديانة اليهودية وأقوامها كانوا موضع الاحترام في الجاهلية، "وأشهر من دان باليهودية من قبائل العرب بنو نمير وبنو كنانة وبنو الحارث بن كعب وبنو كندة، ولعلّها سرَت إليهم من مجاورة اليهود لهم في تيماء ويثرب وخيبر" ، " إنّ جملة من كان من اليهود بالمدينة وخيبر إنما هم قريظة والنضير وبنو قينقاع، غير أن في الأوس والخزرج من قد تهوّد، وكانت من نسائهم مَنْ تنذر إذا ولدت وعاش ولدها أن تهوّده لأنّ اليهود كانوا في نظرهم أهل علم وكتاب" .
ونرى أنّ القرآن الكريم إذ يدأب على تأسيس نمط جديدٍ في التنسيب، بديلاً من النمط السائد الذي يتخذ من رابطة الدم الأبوية عصباً يضبط فيه القبيلةَ والعشيرة؛ مثلما يجعل للمؤمنين شجرةَ نسبٍ يتظللها عبر التاريخ حشدٌ من الأنبياء والرسل والمكافحين من أجل إنسانٍ سامٍ يعتنق الحق والعدل والسلام؛ كذلك دأب على تنسيب الفاسدين المستبدين إلى سلالةٍ من الملوك والنخب والأقوام لا تغادر منهم أحداً. وإذا كان الذين يناهضون القرآن ودعوتَه إلى التوحيد، يعتدّون باستبدادهم واحتكارهم الرأي والرؤية وقواعد السلوك المقدسة، حتى وإن كانت تمضي بهم وبمن أطاعهم واتّبعهم إلى المهالك، وهم حشدٌ من المثقفين والنخب القيادية الاجتماعية والاقتصادية ، وبعض الكتابيين؛ فإنّ دأبهم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم في معاندتهم للعلامات الدامغة على الناموس الطبيعي والاجتماعي والنفسي التي استجلَتها عقولهم وأنكرتها نفوسهم بهتاناً وكبراً وجحودا، فكان إهلاكهم أمراً حتمياً ؛ لكونهم لم يتلافوه بصدقٍ قولاً وعملاً.
فما هو دأبُ آل فرعون، الذي كنّى عنه النص بالكفر بآيات الله؟ وقبلاً، ما هي الآيات التي كفر الفراعنةُ بها؟
6. من آيات الله
الآيات التي كفر الفراعنة بها، نستطيع فهمها من فهمنا كفر "الذين كفروا" لأنّ دأبهم "كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَفَرُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِیࣱّ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ"، فالذي كفر به "الذين كفروا" إنما هو ضرورة تغيير علاقاتهم بكونهم بشرا، وبالنظُم الاجتماعية، وبعلاقتهم بالطبيعة، والحقيقة، وبكل ما يرفع من شأن إنسانيتهم، ويمكّنهم في الأرض على بينة من أمرهم. وأنّ دأبهم كدأب آل فرعون فإنّ وجه الشبه بينهما إنما هو الكفر بالصيغة الصرفية "فَعَلَ" أو "الجهل الإراديّ" وقد تحدث القرآن الكريم عن آيات حملها إليهم موسى(ع) ومن أبرزها "عصا موسى" و"الأفاعي".
العصا، غصنٌ يابس لا يَعدُ بثمر ولا بحياة، ولهذا الغصن وظائف شتى في أيدي الناس، وهو في يد موسى محدّدُ الوظيفة بأنه للتوكؤ عليه، وليهش به على الغنم وله فيه مآرب أخرى، ربما هي للقتال يدفع بها عن نفسه، أو يهاجم بها حيوانا يقصده بأذى، أو إنساناً يستهدفه بِشر.إذن، العصا غصن يابس، يسخره الإنسان لتأمين مصالحه، وبخاصة دفع الأذى، فتتحول هذه العصا بإرادة الإنسان إلى رِجْلٍ ثالثة، أو يدٍ أقسى، أو أطول، فتصبح كأنها في يباسها علةَ حياة، وتكتسب أهميتها الرمزية من كونها في الثقافة الإنسانية عنوان الإبداع باللمس.
أما الحية أو الأفعى أو الثعبان، فهي النقيض الحيّ للعصا الميتة، وهي بحياتها تعمل لصالح الموت، لما تختزن من سموم، وأداؤها الوجودي التلقائي يدبُّ الذعر في من يصادفها، وقد تؤذيه بخبثها ومخادعاتها، ومن شأن الإنسان أن يحتال لقتلها، أو للهيمنة عليها. "ونجد الأفعى عند الفراعنة حاضرة وظاهرة في الرسومات والكتابات الدينية، كما يوجد الإله "أبوفيس"، والذي هو أفعى شريرة، تلقب بـ "شيطان الظلام"، وهو رمز للشر، وبالرغم من ذلك أقام الفراعنة طقوس العبادة له، في محاولة لاسترضائه، وذلك لارتباطه بالكوارث الكونية، كالزلازل، والفيضانات، والأعاصير، وضمن تصورات صراع الخير والشر، نجد "أبوفيس" يخوض صراعاً مع الإله "رع"، إله الشمس" .
وقد نسب سفر التكوين في الإصحاح الثالث إلى الأفعى دوراً سلبيّاً في إغواء حواء لتأكل من شجرة التفاح، وتسببت في طرد آدم وحواء من الجنة ﴿لأنك فعلتِ هذا، ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية. على بطنك تسعين وترابا تأكلين كل أيام حياتك* وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه﴾ فالحية هنا رمز لإثارة الفضول والرغبة والشهوة.
في تأملنا لهذه الصورة للأفعى بوصفها رمزاً للشر في ثقافة التوراتيين والفراعنة، ولصورة العصا بوصفها النقيض الذي يتوخى الهيمنة على الرغبة والشهوة، نرى أنّ اليباس هو الحقيقة ، وأي تحول في مشهد اليباس إنما هو لأداء وظيفةٍ غير التي له ، وما إلقاؤها في مواجهة الحية التي ترمز للشهوة التي هي أساس التقدّم و التحضر، إلا لإضفاء الواقعية عليها وإظهار زيفها بواسطة العصا اليابسة، فعصا موسى تمثل الحقيقة في مواجهة الأفاعي الزائفة، ما إنْ ألقى موسى عصاه حتى بدت الحبال والعصي الفرعونية على حقيقتها؛ فالسحرةُ ما كانوا قد سحروا أعين الناس إلا بإزاء ما يصنعون من مخادعة، ما إن ظهرت عصاً غير مسحورة، حتى تجلّت الأمور على حقيقتها.
إذن؛ كان دأب آل فرعون الكفر، أي ستر الحقيقة وإخفاؤها بهدف الاستبداد والتسلّط. وآيات الله التي جاء بها موسى في مواجهة التنكّر للحقيقة بمخادعة الناس وإرعابهم بما يكيدون،مشروعُ انتصار للحقيقة.
﴿.....فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِیࣱّ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ﴾
إذا فهمنا أنّ الأخذ هو عقوبةٌ بالإهلاك، فهذا غير كافٍ؛ لأنّ الأصل في الأخذ هو القبض والحَوز والتمكن من المأخوذ، ما يعني أنّ العقوبة هنا تعني إسقاط حيَل آلِ فرعون ومَن قبلَهم، وفي ذلك أشد أنواع الهلاك، ويكون أكثر شدّةً إذا كانت ذنوبهم هي علّةُ أخذهم، فالباء هنا للتعليل أو الاستعانة، فيتحمل المأخوذُ مسؤوليّةَ أخذه. وهذا لا يتأتى في الوجود ما لم تكن النواميس مُحكمة، فإخفاء الحقيقة، والتنكرُ لها، والقيام بما يعاكسها، والتصدّي لمن جاء بها، يحتاجُ أخذاً من نواميس مُحكمة، ولا يُحكمها إلا قويّ، وأنه قويّ؛ قد نتوهم الغطرسةَ التي ما زالت ملازمةً للقوة، غير أن خالق النواميس قويّ شديد العقاب، فالعقاب بما يعنيه من جزاءٍ بعديّ، يعني أيضاً العدل.
7. قويّ شديد العقاب
قد يتوهّم البعض أنّ تجاهل الحقائق أو التعميةَ عليها، أو محاربتها بمختلف الوسائل المادية والمعنوية، يحتاجُ قوةً متغطرسةً وهذا كاف لهيمنةِ المستبدين المتغطرسين الذين يتوهمون أنّ القوةَ هي الاستبداد والتزييف دوماً، ولن يقوى عليهم أحد؛ غير أنّ الآيةَ إذْ تبيّن المصير الحتميّ لهؤلاء، تختمُ بـ "إنّ اللهَ قويّ شديد العقاب" لتؤكّد بـ"إنّ" قوةَ الله وعدله في شدّةِ العقاب. نلاحظ في هذه الفاصلة أنّ النص أسقط حرف العطف"الواو" في الجمع بين القوة وشدّة العقاب، فلم يقلْ "إنّ الله قويٌ وشديد العقاب"، مع أنّ قواعد التركيب النحويّ تسمح بذلك، لا بل إثبات الواو هو الأصل، فهل لذلك من دلالة؟
لو أنّه أثبت "الواو" لكانت الصفةُ "قويّ" باستقلالها تعني كل ما تحيل عليه هذه المفردة من استبداد وجور وغطرسة وإحكام وصلابة وغير ذلك، أمّا وقد أسقط "الواو" فقد جرّدَ "القوة" من استقلالها بهذه الدلالات، ومنحها المعطوفُ ما يُطمئن المتلقّي، لأن سقوط "الواو" جعل العلاقة بين "قويّ" و "شديد العقاب" علاقة تلازم وتداخل، لا تقدر على توفيرها "الواو" التي هي لمجرّد الجمع، فالمعطوف هو "الشدة" مضافةً إلى "العقاب"، يحصر دلالات "الشدّة" بما تحيل عليه مفردة "العقاب" من معنى الملاحقة، بمعنى أنها تدل على الإهلاك عقب سلوك يؤدّي إليه. وأنّ النص يؤكّد بـ"إنّ" إسنادَ "قويّ شديدُ العقاب" على هذا النحو من الترتيب ، فذاك ما يدفع اللبس بين القوة والشدة والظلم.
فالمجتمع الذي يخرِّب عقده الاجتماعي إنما يؤول إلى الانهيار الحتمي، وإلا فلا قيمة للناموس. والعلماء الذين لا يلتزمون بضوابط البحث العلمي وأخلاقياته، يؤول علمهم إلى التدمير؛ وإلا فلا قيمةَ للناموس. والمعلم الذي لا يلتزم بقواعد المهنة وأخلاقياتها، يؤول عمله إلى التجهيل؛ وإلا فلا قيمة للناموس. وكذلك العامل والصانع والسياسي والمسؤول القياديّ في مؤسسات المجتمع المدني، أو في مؤسسات الدولة؛ لا يمكنهم إساءة استخدام مسؤولياتهم من دون عقاب حتمي. دأْب هؤلاء وأشباهِهم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم، يتمسكون بالزائف ويستميتون في الدفاع عن الزائفين في الوقت الذي تُلقى عليهم الحقائق ناصعة، وتفضح كلّ زيف.
8. مرجعية الإهلاك الإلهي
﴿ذَ لِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمۡ یَكُ مُغَیِّرࣰا نِّعۡمَةً أَنۡعَمَهَا عَلَىٰ قَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمٌ﴾
المشار إليه بـ"ذلك" هو "الأخذ" الذي وقع على "آل فرعون ومَن قبلهم" من الذين دأبوا على تجاهل الحقائق الواقعية. نقول تجاهلوا لأنهم في نعمة العقل والفهم والوعي فلم يستفيدوا من هذه النعمة، بل فعلوا الكفرَ لصالح المستبدّ، وهذا يجعلهم مسؤولين عن خيارهم وسلوكهم الذهنيّ والحركي، وكذلك عن عواقبه.
وأشير بـ"ذلك" ليكون النمط المهيمن على هذه الآيات هو النمط التفسيري، ما يعني أنّ تعليل "الأخذِ" بـ"ذنوبهم" يورث في نفس المتلقي إحساساً بأنّه حكمٌ قاسٍ وقاهر، فيأتي اسم الإشارة بعدها "ذلك" ليعرض تفسيراً لهذه الإشكالية الملتبسة بأنها ناموس طبيعيٌ واجتماعيّ:
1. بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمۡ یَكُ مُغَیِّرࣰا نِّعۡمَةً أَنۡعَمَهَا عَلَىٰ قَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡ.
يؤتى بـ"أنّ" لتقرير شيء وإثباته، فالذي يمكن لـ"أنّ" أن تقرره هنا، إنما هو زوال نعمة بسببٍ عائدٍ إلى صاحبها، بخلاف السائد في أن الله يزيل النعمةَ لسبب عائدٍ إليه. "وأنّ" في مستهلّ هذه الآية التعليلية، من شأنها إذْ تحوّل المحسوس إلى معقول، أنْ تعدّل سلوكاً ذهنياً في المتلقين مؤسسٍ على اعتقادٍ بأنّ الله يغضبُ ويرضى فيغيّر تبعاً لذينك أحوالَ الأقوام والأفراد. فتدخل "أنّ" على المركّب الاسمي لتحدِث تحولاً في زاوية النظر إلى العلاقة بين سلوك الناس الإرادي وسلوك الطبيعة الاجتماعية أو الطبيعية المحدَّدَين بالعقد الاجتماعي الذي تفرضه المصالحُ العامة، والناموس الطبيعي الذي خلقه الله جل وعلا؛ فتقرر نفي الكون الذي يتوهمُ المتلقون أنّ الله عليه في تغيير النعمة. ويعبّرُ النص عن هذا النفي بـ "لم يك" التي حُذفت نونها علامةً على الوغول في النفي ، ما يعني أنّ فعل الكون معطل فكيف بالتغيير الاعتباطي! ويمد النصّ في أمدِ التعطيلِ إلى حين حدوث الفعل "يغيّروا" واقعاً على "ما بأنفسهم"؛ ما يشير إلى أنّ التعطيل هذا مرهونٌ بتغيير سلوك الناس الذي ألصقوه إرادياً بأنفسهم، وأنه بأنفسهم وليس في أنفسهم، فذلك ما يشير إلى أنه سلوك طارئٌ يصاحبهم بإزاء حدث طارئ، ولا تحتويه أصلاً أنفسهم.
2. وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمٌ.
وهذا تعليل آخر معطوف على الأول، مجرورٌ مثله بالباء التعليلية المحذوفة ليكون التعليلان مجموعَين معاً فلا يتوهمُ المتلقّي أنّ التعليل الأوّل يعلل هلاكاً وهذا التعليل يعلل هلاكاً آخر، فكلاهما متعلقان بمحذوف خبر ذلك (الأخْذ)، فلو أدخل "الباء" على"وأَنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمٌ" جازَ أن نبحث عن أخْذٍ آخر أو متعلَّق به آخر . ويتمّ إسنادُ "سميعٌ عليمٌ" إلى لفظ الجلالة، ما أصله مبتدأ، وقد تكلمنا على أثر همزة أنّ المفتوحة في جعل المحسوس معقولاً، ما يعني أنّ الله سميع عليم مرجعيةُ الأخذ، وعلى العقلاء معرفتها لتلافي ما يخلّ بالناموس. أمّا صيغة "فعيل" فهي للدلالة على أن السمع والعلم هما بمثابة طبيعة لله. ويأتي حذف العاطف بينهما لتداخلهما في إنجاز الإخبار المسند إلى الله. أما دلالة السمع والعلم فنفهمها من كونيهما في الإحالة على ما يُسمع ويُعلم من بين الذنوب التي تقتضي الأخذ على النحو الذي ورد. فمن الممكن أن تكون مهموسات أو مجهورات أو هواجس ونوايا، فالله يسمعها ويعلمها بطبيعته.
9. دأب آخر وعقوبة أخرى
﴿كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَـٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَغۡرَقۡنَاۤ ءَالَ فِرۡعَوۡنَۚ وَكُلٌّ كَانُوا۟ ظَـٰلِمِینَ﴾.
ويؤكّدُ النص هاتين السنّتين للإهلاك باستحضار دأب آل فرعون والذين من قبلهم مع آيات ربهم، وقد يخال المتلقي أنّ الآيةَ تكرارٌ للآيةِ التي سبقت عرض التعليل الممنهج، غير أن التدقيق يحيل على اختلافٍ بيّنٍ نستجليه برصد الاختلافات الدقيقة بينهما.
فالآية 52، تقدّم دأب آل فرعون والذين من قبلهم في إسناد فعل الكفر بآيات الله إليهم، فعوقبوا بالأخذ، أما هذه الآية(54) التي نحن بصددها، فتقدّم آل فرعون والذين من قبلهم في إسنادها إليهم فعل التكذيب بآيات ربهم؛ فعوقبوا بالإهلاك، كما عوقب آل فرعون بالإغراق. والكفر غير الكذب والتكذيب، فلو أنهما واحد ما تكرر ذكرُهما معاً متعاطفين في القرآن الكريم ثماني مرات" الذين كفروا وكذّبوا بآياتنا " في البقرة 39، وفي المائدة 10و86، والحج 57، المؤمنون 33، والروم16، والحديد 19، والتغابن 10.
فإذَن، الدأب في الآية الثانية مختلف عن الدأب في الآية الأولى ، تبَعاً للاختلاف بين الكفر والتكذيب، وبين الله وربهم.
الكفر في أصل اللغة هو الستر والإخفاء،" وأَصل الكفر تغطية الشيء تغطية تستهلكه" ويقول ابن فارس" الكاف والفاء والراء أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على معنىً واحد، وهو السَّتْر والتَّغطية" . وفي الاصطلاح هو سلوك إراديّ يحول بين العاقل وما يُلقى عليه من معارف، وفي الاصطلاح الشرعي هو نقيض الإيمان.
أما الكذب لغةً ، فهو خلاف الصدق ، والصدق هو صلابة الباطن ، ما يعني أن الكذب هو الميوعةُ والرخاوة في الباطن، والكاذب هو الذي لا يقوى على صلابة الموقف إزاء ما يرى أو يسمع أو يشعر. "وفي كذَب تعبّر الباء عن تجمّع رخوٍ وتلاصق، ويعبّر التركيب عن تجمعٍ على رخاوةٍ وليونة وعدم صلابة" . وفي الاصطلاح " كذب الخبر، عدم مطابقته الواقع" . وقال النووي: "الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو، عمدًا كان أو سهوًا" ،و(هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء كان عمدًا أم خطأ ) .
ما يعني أن الكفر يودي بصاحبه إلى الأخذ، بينما الكذب يودي بصاحبه إلى الهلاك، فهل الأخذ غير الإهلاك؟
الأخذ هو قبضٌ بقوة، "يعبّر عن حوز في الأثناء بغلظ أي قبض بقوة. وقد جاء أكثر أَخَذ (في القرآن الكريم) بمعنى القبض الحقيقي أو المجازي (٥٥ مرة)، وجاء نحو ٧٨ مرة الأخذ فيها بمعنى إنزال عقوبة إهلاك، وهذا قبض لأنه جَوْح واجتلاف" .
أما الهلاك فهو السقوط والكسر " الهاء واللام والكاف: يدلُّ على كَسْرٍ وسُقوط. منه الهلاك: السُّقوط، ولذلك يقال للميت هَلَكَ" . "الهاء لخروج ما بالجوف بقوة، واللام تعبر عن الامتداد والاستقلال، وفي (هلك) تعبر الكاف عن ضغط غؤوري دقيق يتأتى منه السحق أو الحبس على ذلك الفراغ، ويعبر التركيب عما يشبه سحق حقيقة الشيء" .
التأمل في هذين المعنيين يحيلنا على اختلاف بينهما في النوعية وليس في الرتبة، إذْ لا يمكن أن نفاضلَ بين القبض بقوة والسحق أو الحبس، غير أنهما بلا شك مختلفان.
الكفرُ بما هو عليه من عمى إراديّ، يلقي بفاعله في حوز غليظ هو جوحٌ واجتلاف، هو "الأخذ". والكذب بما هو عليه من تمويه ومخادعة للنفس والآخرين، وتغيير للواقع، أو إنكاره؛ يودي بفاعله إلى السقوط والانكسار والسحق، في الحقيقة أو في المجاز، أو في كليهما معاً.
يبقى أنّ الذين كفروا كفروا بآيات الله، والذين كذبوا كذبوا بآيات الله، والله هو الخالق للوجود ونواميسه، وهو الذي أرسل الرسل بالهدى علاماتٍ على الناموس، فمن الخلق من تعامى عن الحقيقة لموقفٍ من الرسول وأهله، ومنهم من كذب الرسل فموّه وخادع لموقفٍ من الحقيقة التي قد تورطه بسلوك لا يرى قيمته، أو ليس من ورائه مكسبٌ عاجل، أو يرى ولكن لعلّةٍ لا يسلك.
10. الخلاصة:
بدل أن تحقق الآيات الكريمات أغراضها في الناس، تحريضا للعقل على التأمل في الكون، وتعميق الأسئلة، واكتشاف سننه، والتفكير بالتعامل الأفضل معها، واستثمارها في مشروع لتحسين ظروف الحياة؛ بدل كل هذا يمضي بها البعض في الاتجاه المعاكس، فتنتجُ انكساراً متناسلاً في نفوس مهزومةٍ أمام الكون، وتتوجس في تلافيفها رعباً من غضب الله وأخذِه الخلق بذنوبهم، فلا يقوى عقلٌ إلا على اتهام النفس بالإثم الدائم، وأقصى الإبداعات أدعية يتوسل بها رضا الله، فتُرفع أكفّ الضراعة ليرفع الله غضبه وسخطه عنا.
عندما يعمى الإنسان عن رؤية الكون آيات ينبغي فهمها، لا نفقه معنى الكفر ولا التكذيب ولا الإيمان، وبالتالي لا نفقه معنى العواقب الحتميةِ للسلوك المعتمد على قاعدة الكفر أو على قاعدة الإيمان.
ومما توصلنا إليه في معاينتنا لهذه الآيات الكريمات جملةُ أمور هي:
1. إن التعبيرات التي تتناول مصائر الذين كفروا، هي ليست تعبيراً عن أحداثٍ حصلت؛ إنما هي كنايات عن مظاهر المصير الحتميّ في الذل والمهانة.
2. الذين كفروا، غير "الكافرين"، فالفرق بينهما هو الفرق بين الفعل والاسم، فالأول يدلّ على حدثٍ مقيّدٍ بزمان، والثاني يدل على شأنٍ ملازم لأشخاص. الأول يدل أنّ الحدث له بداية وعلّة، أما الثاني فهو وصفٌ ثابت تتغيّر وظيفته بتغير الأحداث والأزمنة، ولا يتغيّر.
3. إنّ الضرب على الوجوه والأدبار بوصفه مظهر الإذلال الذي يلحق الذين كفروا، ليس سوى نتاج حتميّ لسلوكهم في العمى الإراديّ عن مفاسد مواقفهم في الواقع الجديد، وعمّا يقدّمه من معارف جديدة بإزاء المجتمع والكون وما وراء ذلك.
4. أنْ لا يكون المصير الأسود ظلماً من كونه نتيجة طبيعيةً لسلوك يؤدي إليه؛ فذاك مردّه إلى مرجعيةٍ حاسمة في الناموس يعبر النص عنها بنفيّ الظلم عن الله، وبنفي أن يكون الظلم مهنةً له (جلّ وعلا) . وهذا يحمّل الإنسان وحده المسؤوليّةَ في تحديد مصيره تأسيساً على وعي مرنٍ قابلٍ للنقد للتطور.
5. إنّ الشواهد التاريخية تجعلنا نفهم أن السلوك الحضاريّ هو الذي يؤدّي إلى المصير الأسود المحتوم، وما الاستشهاد به إلا إيقاظاً لمتلقي القرآن ليعلموا أن هذا المصير يمكن تلافيه بالاعتماد على الوعي بالتاريخ درساً واستنتاجا حتى لا تتكرر الأسباب. وما ربط دأب المعاندين المزامنين لتنزل القرآن بدأب آل فرعون والذين من قبلهم إلا دلالة على أهمية الوعي بالتاريخ. فالساعون إلى الإصلاح سلالةٌ بعضها من بعض، وكذلك المناهضون سلالةٌ بعضها من بعض. ما يوجب الاهتمام بالأساليب التي يمكن أن نتلافى بها الصدام المهلك والمذل، في المجتمع أو الطبيعة.
6. إنّ دلالة العصا والحية التي يحيل عليها ذكر فرعون، إنما هي في دلالة العلاقة الضديّة بين الواقعية التي تمثلها العصا بمختلف أبعادها ، والزيف الذي يمثله السحر بكل تمويهاته ومشتقاته، وأن تغلب العصا الواقعية الأفاعي الزائفة إنما هو المرتجى من مصلحٍ يدعو الناس إلى الارتقاء بعقولهم وإنسانيتهم نحو الله ، في مواجهة فاسدٍ مفسدٍ ينشر الغباء والخداع بإلحاح واستبداد، ويقول أنا الله.
هذا ما توصلنا إليه في إطار سعينا للتخلص من استسهال الاتباعيّة المقيتة، في غمرة الجوائح الطبيعية والاجتماعية، لعلنا نعيد النظر بقدراتنا ونسعى دائما إلى رفع مستوى أدائنا حتى لا نكرر المهاوي المهينة.
والله من وراء القصد.
...........................................
مكتبة البحث
القرآن الكريم
الكتاب المقدّس، العهد القديم، سفر التكوين.
1. ابن الأثير الجزَري، الكامل في التاريخ، تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت،1987.
2. ابن عاشور، محمد الطاهر، تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس،1984.
3. ابن فارس، أحمد، مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر، بيروت، 1979.
4. ابن منظور، محمد بن مكرم بن علي، لسان العرب، ط3، دار صادر، بيروت، 1994.ـ
5. الجارم، محمد نعمان، أديان العرب في الجاهلية، ط1، مطبعة السعادة بجوار محافظة مصر، 1923 .
6. الجرجاني،علي بن محمد السيد الشريف، تحقيق محمد صدّيق المنشاوي، دار الفضيلة، القاهرة، 2004.
7. الجوهري، اسماعيل بن حماد، (أبو نصر)، تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، ط4، دار العلم للملايين،بيروت، 1987.
8. حسن جبل، محمد حسن، المعجم الاشتقاقي المؤصل، ط1، مكتبة الآداب، القاهرة، 2010.
9. السامرائي، فاضل صالح، معاني الأبنية العربية، ط2، دار عمّار،عمّان، 2007.
10. السامرائي، فاضل صالح، معاني النحو، العاتك لصناعة الكتاب، القاهرة، د.ت..
11. السعيد،سعيد بن فايز ابراهيم، العلاقات الحضارية بين الجزيرة العربية ومصر، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض،2003.
12. السهيلي، عبد الرحمن، الروض الآنف في شرح السيرة النبوية، قدم له طه عبد الرؤوف سعد، مؤسسة نبع الفكر العربي، القاهرة، د.ت..
13. العسقلاني، أحمد بن علي بن حَجَر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، اعتنى به أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، دار طيبة،ط1، الرياض، 2005.
14. النووي،أبو زكريا محيي الدين يحيى ، المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1392هـ. .
15. https://www.hafryat.com/ar/blog/7-%D8%AD%D9%8A%D9%88%D8%A7%D9%86%D8%A7%D8%AA-%D8%AD%D8%B8%D9%8A%D8%AA-%D8%A8%D9%85%D9%83%D8%A7%D9%86%D8%A9-%D8%AE%D8%A7%D8%B5%D9%91%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A7%D8%AA-%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%91%D9%81-%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%87%D8%A7تاريخ الزيارة في 1/1/2021
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الناخبون العرب واليهود.. هل يغيرون نتيجة الانتخابات الآميركي
.. الرياض تستضيف اجتماعا لدعم حل الدولتين وتعلن عن قمة عربية إس
.. إقامة حفل تخريج لجنود الاحتلال عند حائط البراق بمحيط المسجد
.. 119-Al-Aanaam
.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية في لبنان تكبح قدرات الاحتلال